مجلة شهرية - العدد (589)  | أكتوبر 2025 م- ربيع الثاني 1447 هـ

في الذكرى المئوية لميلاده .. ما الذي تبقى من إرث رولان بارت؟

 

تتحول الذكرى التي تصادف تاريخ وفاة أو ميلاد عدد من الشخصيات السياسية أو الفكرية إلى يوم للاحتفاء بذاكرتهم وإنجازاتهم، وتختلف طبيعة هذا التقليد حسب ثقافة المجتمعات والدول، وتتراوح ما بين التمجيد المطلق، والنقد المتزن، وقد تساهم بعض الوقائع الراهنة في ربط الماضي بالحاضر من خلال العودة إلى تناول شخصيات ما زالت تخلق أفكارها إلى اليوم تأثيرات وجذباً. وفي هذا الإطار يأتي الاهتمام بأطروحات المفكرين وسيرهم الثقافية.
إن الاحتفاء الذي لقيه رولان بارت مؤخراً، يلقاه عدد آخر من المفكرين والفلاسفة الذين لا زالوا يتمتعون بشهرة واسعة في العالم كله، فرغم مرور عشرات السنوات على وفاتهم إلا أنهم حاضرون باستمرار في المكتبات، والأمر نفسه بالنسبة لسيرهم الفكرية، التي تلقى شغفاً دائماً من لدن المهتمين، وذلك بخلاف السِّيَر التي تتناول رجال السياسة والأعمال، إذ يرتبط نجاحها المؤقت في الغالب بنبشها في الفضائح الأخلاقية وقضايا الفساد السياسي التي تطاردهم، ليخمد بعد ذلك ذكرهم إلى الأبد، وتتوارى فضائحهم مع مرور الوقت إلى خلفية الستار أمام بروز فضائح جديدة لشخصيات أخرى تتصدر واجهة الأحداث، لتخبو بدورها في أجل قصير من صدورها.
في الثاني عشر من نوفمبر كان موعد الفرنسيين، مع الذكرى المئوية لميلاد رولان بارت، إذ رأى النور في بلدة صغيرة تدعى ستيربورغ بشمال فرنسا سنة 1915، وهو يعد أحد أشهر الأدباء والنقاد في القرن الماضي، وبهذه المناسبة المئوية كان لافتاً حجم الاهتمام الكبير الذي لقيه، حيث نظمت العديد من المحافل الأكاديمية والثقافية قراءات لكتاباته وأفكاره، شارك فيها عدد من الباحثين من مختلف التخصصات، منهم من ليسوا بالضرورة مناصرين له. كما اكتسحت فجأة كتبه أروقة المتاجر، وخصوصاً مؤلفه الذائع الصيت «الدرجة الصفر من الكتابة»، الذي عاد بقوة إلى الواجهة. ونظمت بالمناسبة مكتبة فرنسا الوطنية معرضاً مفتوحاً عنه دام من مايو إلى غاية شهر يوليو من العام المنصرم، وعرضت خلاله مراسلاته التي نشرت لأول مرة، وتم التوقيع على عدد من الكتب التي اهتمت بسيرته، ومنها كتاب تيفين سامويو، الذي اعتمد مراسلاته السرية ومخطوطاته غير المنشورة، ومقابلات همت أصدقاءه وعائلته، وقد سلط الضوء على عدد من القضايا الشائكة في حياته الشخصية، ومنها علاقته بأمه، وبميشيل فوكو، وجاك دريدا، وجوليا كريستيفا، وبالآخرين ممن تقاطعوا معه خلال مساره المعرفي. ومما فنده الكتاب صورة الاكتئاب التي ألصقت به نتيجة تأويل خاطئ لما جاء في كتابه يوميات حِداد، والذي صدر بعد تسع عشرة سنة من وفاته، وهو عبارة عن يوميات غير مكتملة، بدأ تحريرها بشكل متقطع، بعيد وفاة والدته مباشرة، واستمر في تدوينها إلى ما قبل وفاته بسنة (أي ما بين 1977-1979). ومن المعلوم أن علاقة عاطفية قوية جمعته بوالداته، فقد كتب عنها بعشق كبير، ولذا تأثر كثيراً حين افتقدها لدرجة أن حادث الموت ظل يسكنه باستمرار، وهو ما نلمسه في كتابه «الغرفة». كما سلطت سيرة سامويو الضوء أيضاً على صعوبات الحياة التي واجهته، إذ فقد رولان بارت في سنته الأولى أباه عام 1916، وذلك خلال الحرب العالمية الأولى. كما عانى من المرض الذي ألم به خلال مراحل حاسمة من حياته، فقد زاره داء السل في لحظات حرجة من حياته. وإلى جانب الكتابة التي احترفها، أتقن بارت أيضاً العزف على البيانو، وكان من هواة الرسم بالألوان المائية، كما أقام لمدد قصيرة ببلدان مشرقية، ومنها المغرب، حيث ألقى دروساً في جامعة الرباط ما بين سنتي 1969 و1970، وقبلها باليابان في الفترة ما بين 1966 إلى 1968. وتعكس بعض نصوصه سطوة السحر الذي مارسه عليه الشرق.
إن صور هذا المثقف، المتميز بلباسه الرسمي الأنيق، وبسيجارته التي لا تفارقه إلا نادراً، والذي صدمته سيارة أمام مقر الكوليج دو فرانس، سنة 1980، منهية بذلك مسيرة حياته الغنية بالعطاء المعرفي والعلمي؛ تصدرت أغلفة العديد من كبريات المجلات والصحف العالمية، وبالخصوص الفرنسية، التي عادت في السنوات الأخيرة إلى ترسيخ ثقافة الاحتفاء برموزها. فمن خلال عناوين بارزة من قبيل: «قرن رولان بارت»، و«كتابات رولان بارت بانوراما» و«رفقة رولان بارت»، استعيد من جديد مفكر لم يفقد راهنيته، ولذا ليس من الغريب أن يستحضر في فترات معينة الإرث الكبير لهذا الناقد الأدبي الكبير، الذي ساهمت أفكاره في صياغة العالم الأدبي للقرن العشرين، من خلال عطائه الكبير في مجال النشر، إذ خلف وراءه أكثر من 17 مؤلفاً، أشهرها: الدرجة الصفر من الكتابة (1953)، أسطوريات (1957)، الحياة الجديدة..مبادئ السيمولوجيا (1962)، نظام الموضة (1967)، إمبراطورية العلامات (1970)، مبادئ السيميائيات (1974)، الغرفة المضاءة..تأملات في الفوتوغرافيا (1980).
تعددت اهتمامات رولان بارت، إذ اكتسح عدداً من الأنساق الفكرية المختلفة، فقد ظل ينتقل من حقل لآخر، غير أن اسمه ارتبط أكثر بالسيميائيات، حيث كان من أوائل من كتبوا في هذا التخصص المغلق استناداً إلى اللسانيات البنيوية التي شكلت خلفيته النظرية. وقد نظر إلى هذا المجال، ليس كمادة تدريس وتخصص فقط؛ وإنما كمغامرة شخصية خاضها برغبة جامحة.
تعود بداية اهتمام رولان بارت الأولى بالسيميائيات إلى نهاية الخمسينات، حيث أصدر في هذا المجال كتاب أسطوريات سنة 1957، وهو الكتاب الذي جعله معروفاً أكثر لدى القراء والمهتمين والباحثين كناقد متمرس، إذ كشف عن طرائق مبتكرة في التفكير والنقد اللغوي، وقد تناول فيه بالتتبع قضايا من الحياة اليومية.
لن نقوم في هذا المقال بمناقشة القضايا والمفاهيم التي تضمنتها أطروحاته بتفصيل، كما لا يغني ما نقدمه عن قراءة كتبه، بل إننا نراهن على العودة إليها من جديد، وإنما الحاصل أن ما نشعر به من فضول هو ما يغرينا اليوم للاهتمام بقراءة حيوات الآخرين، وكثيراً ما يكون ذلك ناجماً أساساً عن حاجتنا إلى طمأنة أنفسنا، حيث تبعث قراءة سير الآخرين -وخصوصاً الشخصيات الفكرية المشهورة- الطمأنينة والرضا، فهي تعطي معنى لحياتنا، وتبعث فينا شعوراً مختلفاً، إذ تقربنا منهم بشكل أكبر. وفي هذا الصدد نستحضر تساؤل رولان بارت الشهير: «لماذا يجد بعض الناس -وأنا منهم- في المؤلفات التاريخية والروائية وكتب السيرة لذة ما يصوره الكاتب من الحياة اليومية التي يختص بها شخص أو عصر؟ ولِمَ هذا الفضول لمعرفة أدق التفاصيل، من قبيل العادات والأطعمة والملابس.. وهلم جرا؟». ويحيلنا بارت جواباً عن هذه الأسئلة إلى الحماس النابي لدى الأفراد، فالحاجة إلى تأمل الذات هي التي تحدو بالقارئ إلى الاطلاع على سيرة غيره.
قد نسبح هنا ضد التيار، إذ نخالف هنا المواقف العدائية التي ترفض الغوص في الحياة الشخصية باعتبار الأمر غير ذي جدوى، فالفيلسوف بروغسون نصح من أراد كتابة سيرته عدم الاكتراث بحياته، وأن يركز فقط على أعماله، كان مصراً على وجهة النظر التي تقول إن حياة الفيلسوف لا تُسَلِّط أي ضوء على مذهبه وتوجهاته. ونجد الرأي نفسه عند أديبنا الناقد رولان بارت، فالظاهر أنه مستعد لأن يفعل المستحيل حتى لا يحتويه تعريف، إنه لا يحتمل أن تتشكل له صورة، ويتعذب لدى ذكر اسمه، هذا ما يقوله عن نفسه رغم ضمير الغائب الذي استعمله في سيرته الذاتية غير المألوفة التي نشرها تحت عنوان رولان بارت بقلم رولان بارت (1975)، فما يكافح بارت ضده هو أن يصبح شيئاً يُدَرَّس، لقد اعتبر السيرة نوعاً أدبياً كريهاً، وكان يسخر من تقاليد السيرة الأدبية، لأنها في نظره تمثل وحدة مزيفة لموضوعها، إنها نصب تذكاري مزيف، ولا تمثل الحياة تمثيلاً صادقاً.
كتب رولان بارت سيرته الذاتية السابقة الذكر، وهي نموذج لعمل خيالي متميز، وذلك بصيغة ضمير الغائب، ليتملص من نبرة الاعتراف والبوح. وقد عبر أنه ليس كتاباً عن أفكاره بقدر ما هو كتاب عن الأنا. ولذا فإننا لن نخذله في هذه الالتفاتة التي خصصناها له، حيث لن نتخذ من حياته المفتاح لأعماله الأدبية، وإنما بالعكس سنجعل أعماله مدخلاً لإضاءة أجزاء من فترات حياته.
نعود إلى بدايات الشهرة، وبالضبط إلى سنة 1966م، حيث نشرت مجلة أدبية فرنسية رسماً يصوِّر أربعة من المفكرين: كلود ليفي ستراوس Claude Lévi-Strauss، ورولان بارت Roland Barthes، وميشيل فوكو Michel Foucault، وجاك لاكان Jacques Lacan، يفترشون الأرض تحت بعض الأشجار المدارية، وهم يرتدون التنانير والخلاخل التي اعتدنا رؤيتها في الصور الكاريكاتورية التي تُصوّر المتوحشين، ولم يكن هذا الرسم بحاجة إلى تعليق، ولكنه عُرِفَ بعد نشره بعنوان: حفلة غداء البنيويين، ولم يقصد الرسَّام أن يسخر من شخصياته، بل كان يعترف بوصول هؤلاء إلى الحياة الفكرية الفرنسية بوصفهم قوة جديدة ذات شأن كبير.
كانت البنيوية طريقة لمقاربة النصوص والممارسات التي تُستمدُّ من الأعمال النظرية لعالم اللغة دي سوسير. وأنصارها الرئيسيون هم فرنسيون: لويس التوسير في النظرية الماركسية، ورولان بارت في الدراسات الأدبية الثقافية، وميشال فوكو في الفلسفة والتاريخ، وجان لاكان في التحليل النفسي، وكلود ليفي ستراوس في الأنتربولوجيا، وبيار ماشيري في النظرية الأدبية. وكان العدو لهؤلاء الوجودية وزعيمها بول سارتر، إذ لم يتورع رولان بارت من توجيه سهام نقده له سنة 1953م في مؤلَّفه درجة الصفر في الكتابة، ويعتبر هذا الكتاب تأسيسياً، يتناول فيه بارت القضايا الرئيسة في مفهوم الكتابة والنص، ويعد جواباً عن سؤال طرحه سارتر قبله في كتابه «ما هو الأدب؟»، وقد اتخذ مكانته بين كلاسيكيات النقد الحديث، بحيث أصبحت عبارة «الكتابة في درجة الصفر» من المفاهيم المعيارية التي فرضت حضورها في المصطلحات النقدية.
وجب التذكير بأن رولان بارت ابتعد، شأنه شأن غالبية الفلاسفة والكتاب، عن البنيوية. وقد بدأ ذلك بشكل ملحوظ مباشرة بعد حدث 1968، ولا يقتصر الأمر على ألتوسير وفوكو اللذين حرصا على نفي صلتهما ببنيوية ليفي ستراوس، ، بل يتجاوزهما إلى رولان بارت الذي أعلن عام 1970 أنه هجر الطريقة التي كان يتبعها عام 1966 عندما كتب مدخله الشهير إلى «التحليل البنيوي للقص». ومنذ ذاك الوقت وهو يشق طريقه بمقالات وإصدارات متنوعة خلقت الكثير من الجدل حولها، وقد كشفت محاضراته التي كان يلقيها على الطلاب في الكوليج دو فرانس مقدار انفتاحه على مشارب مختلفة من العلوم الإنسانية والاجتماعية، ونخص بالذكر درسه الافتتاحي الشهير الذي ألقاه سنة 1977 بعنوان: «كيف نعيش سوية: الرواية في الحيز اليومي».
تَسَع أعمال رولان بارت حقولاً معرفية متعددة لدرجة يصعب معها تحديده في إطار معين، غير أن تأثيره الكبير مسَّ بالأساس علم الدلالة، فقد عكف على دراسة علاقة الدال بالمدلول والمعنى في الأدب، إنه مغامر في مواجهة النص، ذاك ما كتبه عنه فرانك إيفرار بالتعاون مع إريك تينيه، وما يحسب له نجاحه في هذه المغامرة المحفوفة بالمخاطر، إذ استطاع أن يخلق مفهوماً جديداً للكتابة مختلفاً تماماً عما كان سائداً من قبل، حيث أصبح واحداً من النقاد الكبار في مجاله، بل إنه حاز أعلى مرتبة أكاديمية بالكوليج دو فرانس من خلال تصدره كرسي السيمياء الأدبية من سنة 1977 إلى سنة 1980، وجاء ذلك باقتراح من زميله الفيلسوف ميشيل فوكو. وكان قد تولى قبل ذلك مسؤوليات في مؤسسات معتبرة منها مدير العمل بالقسم السادس من المدرسة التطبيقية للدراسات العليا في عام 1960، ومدير الدراسات (قسم علم الاجتماع للعلامات والرموز) بها في عام 1962.
 تعالج الدلالة عنده موضوعات مختلفة لها أبعاد متعددة، وكلها تمر عنده عبر اللغة، ولذا أعطى أهمية كبرى للعلامات والسيميائية، لأنها في نظره الأساس الذي تقوم عليه الدراسات اللسانية. وفي أوج عطاءاته دخل في صراعات مريرة مع منتقديه من الكلاسيكيين التقليديين الذين هاجموه من القلعة العتيدة السوربون، ولم يعترفوا بمكانته إلا حين أصدر نصه الأدبي الرفيع «شذرات من خطاب عاشق».
 ومن بين اهتماماته الأخرى التي حقق فيها أعلى درجات الكمال تنقيبه في العلاقات والصلات الموجودة بين اللغة والصورة الفوتوغرافية، حيث شكلت الصورة جزءاً من تأملاته في ميدان السيمولوجيا، وهي عنده تتخذ شكلاً لفظياً لحظة إدراكها، وقد عزز فكرته بالعديد من الأمثلة لتبيان وظائفها وحمولتها، وقد كانت له مع الصورة قصة شهيرة، فحين وقعت عيناه على صورة جيروم الأخ الأصغر للإمبراطور نابليون بونابرت، عبر بالقول: «إني أرى العينين اللتين شاهدتا الإمبراطورية». إنه بهذا إنما يقوم بتوليد المعنى من خلال الصورة، عبر توضيح الآليات التي توظفها للتأثير على المشاهد، وفي المضمار نفسه سلط منظاره البحثي على الأشكال والمحتويات التي توظفها الفوتوغرافيا، سواء في المجال الفني أو الإشهاري. وما تزال إسهاماته في النقاش حول الصورة والفوتوغرافيا إلى الآن معتمدة في التعامل مع ما تثيره الصور حالياً في مجتمعاتنا، وبالخصوص مع النمو المضطرد لوسائل التواصل البصري، وبالخصوص السينما التي تعتبر الوسيلة الفضلى للتعبير اليوم، فهي القاطرة المثلى التي تنقل بعض الأعمال إلى النجاح والشهرة بسرعة كبيرة، لأنها متاحة أمام الملايين من الناس، وهي تضفي صفة تفاعل ومتابعة سير عمل معين. لكن ليس علينا أن نعتقد أن الأمر يتعلق بوسيط شفاف يعيد إحياء الأحداث، وإنما تأثيرات الواقع قد لا تنجح بسهولة في السينما كما عبر رولان بارت.
لم تفقد مؤلفات رولان بارت بريقها، فالنقاش مازال مستمراً بشأنها، ولعل استثمار الذكرى المئوية لولادته فرصة لمناقشة أعماله لها ما يبررها. وبالتأكيد لن يكون التكريم المخصص له من قبل المؤسسه العريقة الكوليج دو فرانس يوم السبت 16 فبراير 2016، بعنوان «مع رونالد بارت» هو الأخير في هذا المضمار؛ بل إن ذلك لن يكون إلا بداية جديدة لإعادة النظر في كتاباته، وإعادة تقييم أهميتها في تاريخ الأفكار.

 

ذو صلة