كان الفتى يقطع المسافة بين دارهم الواقعة على مدخل ما يعرف آنذاك بزقاق السيد أحمد، وبين دار المرأة الواقفة في نهاية أحد الأحواش الكبيرة، والذي كان يحمل اسم (حوش عميرة)، وكانت العائلة تُطلق على هذه المرأة اسم (الست آسية)، أي الجدة. وعرف الفتى فيما بعد أنها شقيقة لوالدة والده. وكانت كثيراً ما تتردد على دارهم. وكان مع إخوته يتطلّعون لمجيئها، خصوصاً أن ذاكرتها تختزن الكثير من الحكايات الشعبية، وكانت تبتدئ الحكاية بهذه اللازمة: (وحّدوا الله... واللي عليه ذنب وخطيّة يستغفر الله)، وتمضي في حكاياتها، حتى إذا ما داعب النوم أجفانهم تركتهم ووجّهت حديثها لوالدتهم، ساردة عليها أخبار الحي بأسلوب الحكي ذاته. وبعد انتقال هذه الجدة إلى الدار الآخرة؛ سردت الأم على مسامع الأبناء ما فحواه بأن هذه الجدة لم تُرزق الأطفال، مع أنها تزوجت أكثر من مرة. ثم بكلمات متقطعة، ملؤها الشجن تقول: (لقد قَدِمتُ في مقتبل العمر من ديار حرب في الفقرة وعرقوس وريمة، وسكنت في هذه الدار، بعيداً عن أهلي ومضاربهم، والمرأة الوحيدة التي كانت تتردد عليّ وتخفف عني آلام الغربة هي الجدة آسية).
وكانت هذه الجدة بلباسها التقليدي تتوجه في أشهر الحج إلى سوق الحبّابة والموصل إلى ما كان يُعرف باسم (باب المصري)، لتعرض بضاعتها المتواضعة من الكوافي المُطرّزة أو المشتغلة بالأيدي. وكان عدد كبير من النساء يَقدُمنَ أيضاً من أقاصي منطقة (قباء)، ومن ديار بني علي في العالية، ويعرضن هنّ الأخريات بضاعتهن من الدجاج، والبيض البلدي، والمكانس، والقفاف المصنوعة من الخُوص، ولا يجدن في ذلك حرجاً. وكان البعض منهنّ يقمن بالمهمة الأصعب وهي التعليم؛ حيث كانت توجد على نطاق ضيّق كتاتيب خاصة بتعليم البنات مبادئ القراءة والكتابة. وكان الفتى - تلبية لطلب والدته واتّساقاً مع التقاليد السائدة- يصطحب شقيقته الكبرى -رحمها الله- إلى كُتّاب المعلمة (مغربلية) الواقع فيما يعرف آنذاك بـ(دكة الترجمان) وهو الموقع المقابل لمبنى الإمارة، وليس بعيداً عن المصلى. كما كان بعض النساء يقمن بدور طبّي؛ وذلك قبل وجود مستشفيات خاصة بالنساء. ومن أهم، أو في مقدمة تلك الأدوار هو الإشراف على ولادة المرأة الحامل. وكانت المرأة التي تقوم بهذه المهمة يُطلق عليها اسم (الدّاية)، أي القابلة. وكانت الداية تقطع المسافات الطويلة على قدميها، فلم تكن السيارات متوافرة بالشكل المطلوب. وكانت عربات (الكرو) التي تجرّها البغال أو الأحصنة، هي الوسيلة الأكثر انتشاراً آنذاك. وكان منها ما يُصنع خصيصاً لحمل النساء اللاتي يعرفن باسم (الدقاقات)، حيث يشاركن في الأفراح بالضرب على الدفوف، وهو تقليد قديم يرجع إلى عصور الإسلام الأولى. وتتمثل خصوصية هذه العربات بأنها كانت تُصمم بحيث توضع أعمدة من الخشب على طول العربية، وتُغطّى بالستائر. وإذا كانت المرأة الدقاقة تحيي أفراح النساء؛ فإن المناسبات الخاصة بأفراح الرجال كان يحييها المجيدون للعبة (الرديح)، أو ما يعرف باسم (زيد). وكان رجال من حارة النخليين والعنبرية والسيح وحوش السيد علي يجتمعون في تآلف ومودّة في حلقة خاصة لأداء هذه اللعبة، والتي قوامها كسرات محفوظة، أو أخرى وليدة اللحظة، مع ضرب خاص بعصا صغيرة على آلة مصنوعة من الجلد تسمى (الزير). ولا أجد اليوم هذا الملمح الجميل في الأفراح. فأنت إذا سمعت ضرباً على ما يعرف بـ(النقرزان)، أو الطبل، مصحوباً بصخب وضجيج هو أبعد ما يكون عمّا عرف بلعبة (المزمار) في نمطها التقليدي.
وما دام الحديث متصلاً بوضعية المرأة في المجتمع المدني قبل ما يقرب من ستين عاماً أو أكثر، فإنني أشير إلى أن المرأة كانت تعمل بحثاً عن لقمة العيش مثل الرجل، فلقد كنت وزملائي وأندادي نقطع الطريق من قباء والتاجوري وحوش الأشراف مشياً على الأقدام من دورنا كل صباح لنبلغ بعد ذلك مبنى مدرسة العلوم الشرعية، الواقع مبناها شرقي المسجد النبوي الشريف، وكان ذلك تحديداً في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات الهجرية، وفي طريقنا، وفي حي الشونة تحديداً، كان يوجد مخبز يحمل اسم امرأة تسمى (وحيدة). وكان دور بعض المخابز آنذاك هو تطييب أقراص الخبز الذي تصنعه ربّات البيوت آنذاك، وكان يحمله رب الأسرة، أو أحد أبنائه لإنجاز المهمة عند صاحب أو صاحبة المخبز. وكانت المخابز تنتشر في جميع أحياء المدينة المنورة، ومنها ما حمل اسم بعض الفئات النازحة للجوار؛ مثل المخبز المغربي. أما ما عرف باسم (السُّحيرة)، أو (الشريك) بالسمسم؛ فإن أشهر المخابز التي تقوم بصنعه هو مخبز (الكعكي) في حي التاجوري، ومخبز (البري) في زقاق الطوال. وكان زقاق الطيار يحتضن كثيراً من المخابز التي حملت أسماء أصحابها؛ مثل: العُمري، والكمبش. ولن يغيب عن الذهن مرأى ذلك الرجل الطويل القامة، المفتول العضلات الذي كان يقوم بنقل معظم ما تنتجه تلك المخابز من حي الطيّار، مروراً بالمناخة، حتى يبلغ سوق العيّاشة. وكان يسير بخفّة ورشاقة بحيث لا يمكن سقوط صحائف الخبز من بين يديه أو من فوق رأسه. وكان يحلو لبعض صغار السن مداعبته بلقب لا يحبّه؛ ولكنه لا يرد عليهم، بل كان يكتفي بالتمتمة. لقد كان هذا الإنسان، الذي يلقب بـ(الكلي) يمثّل ملمحاً خاصاً من ملامح الحياة الاجتماعية في المدينة المنورة في الحقبة الماضية، وعندما أزيلت الأحياء القديمة، وحلّت المخابز الكهربائية مكان المخابز القديمة، والتي تعتمد على النار في تطييب الخبز، فقد (الكلي) المهنة التي يحبها، وأضحى يمشي بعيداً عن أعين الناس.
وأختم هذه الحلقة بما قرأته في بعض كتب مسلسلات علم الحديث النبوي الشريف من أن امرأة تُدعى (أمة الله الدهلوية) (1251 – 1357هـ) كانت تسمى (مسندة المدينة المنورة)، أي متخصصة في علم الحديث ورجاله، وأن عدداً من علماء الحرمين الشريفين قد قاموا بزيارتها؛ فحدثتهم وأجازتهم، وتلقوا عنها بعض الأحاديث المسلّم بصحتها وشروطها. إضافة إلى بعض علماء المغرب في فن الحديث، مثل: الشيخ أحمد بن صديق الغماري؛ قد توجهوا للمدينة المنورة، بعد أن ذاع صيتها في أوساط العلم الشرعي، وكذلك فعل الشيخ محمد الحافظ التيجاني، وأخذ عنها كذلك مسند العصر ومحدّث الحرمين الشريفين الشيخ عمر حمدان المحرسي، وتلميذه الشيخ محمد ياسين الفادني. وقد دوّن هذا الأخير أسانيد شيخه في سِفر مهم حمل اسم (إتحاف الإخوان باختصار مطمح الوجدان في أسانيد الشيخ عمر حمدان)، وصدر في طبعته الأولى سنة 1406هـ - 1985م.
ولعل هذه المعلومة الموثقة عن تلقي عدد من العلماء علم الحديث والرواية على يد امرأة عالمة يوضح بصورة واضحة الدور العلمي الذي كانت تضطلع به المرأة في تلك الحقبة المتقدمة من تاريخنا العلمي، وأن ما يروّجه بعض أعداء الدين الإسلامي من تهميش لدور المرأة في المجتمعات المسلمة هو محض افتراء على الأمة التي عرفت قيمة العلم منذ أن نزل الوحي على سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم، بقوله تعالى (اقرأ باسم ربك الذي خلق)، وأن الحضارة الإسلامية كانت على العكس مما تساهم من خلاله –للأسف الشديد- بعض تيارات الإسلام السياسي والتيارات الأخرى المتطرفة في رسم صورة قاتمة عن المرأة ودورها الأساسي في المجتمع، وتعمم تلك الصورة النمطية على جميع المجتمعات المسلمة وفي كل العصور والأزمنة.
وبما دوّنته في هذه الحلقة عن المرأة ودورها بكافة أشكاله: عالمة، وعاملة، وزوجة، وأمّاً، ومربية؛ أكون قد حاولت ما استطعت رسم صورة تعريفية عن المجتمع المدني في تلك الحقبة الماضية.
والله ولي التوفيق.