مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

محطة مهملة على سكة الحياة

 

الكتاب: قطار الليل إلى لشبونة - رواية

يقدم الأستاذ شوقي العنيزي هذه الرواية بهذا التقديم الذي نقتطف منه الآتي:
(تتداخل الأحداث والأمكنة والذكريات، وتتدفق المشاعر والأفكار والمعارف في نهر واحد، ليس شيئاً آخر سوى نهر الذات وهي تستيقظ على نداءاته المكتومة وأسئلتها المهملة:
- إذا كان صحيحاً لا نعيش إلا جزءاً صغيراً مما يعتمل في داخلنا إذن ما مصير بقية الأجزاء؟!
سؤال مهمل من بين أسئلة كثيرة.
لا يكف هذا العمل الساحر عن إيقاظها فينا حتى تغدو حياتنا بأسرها موضع سؤال، ما الأدب إن لم يكن طريقاً إلى الإنسان؟
وما قطار الليل إن لم يكن رحلة في خبايا الذات؟
وما الذات إن لم تكن الفريد والمختلف والغريب في وجه المشترك والمؤتلف والمألوف؟
لا قطار ولا ليل ولا لشبونة، إنها دعوة كل واحد منا ليقتطع تذكرته الخاصة بحثاً عن الإنسان فيه، الإنسان الذي تركه مهملاً غريباً في محطة مهملة على سكة الحياة..)
مقاطع من الرواية:
في المكان نفسه حيث وقفت المرأة ذات يوم لتقرأ الرسالة تحت المطر الغزير، توقف غريغوريوس وجال ببصره في أسفل الجسر، فأدرك من أي ارتفاع كانت ستسقط. هل كانت تنوي القفز حقاً، أو أن خوفه كان سابقاً لأوانه حين تذكر في تلك اللحظة أن شقيق زوجته فلورانس قد ألقى بنفسه هو الآخر من فوق جسر؟
لم يكن يعرف شيئاً عن تلك المرأة ولا حتى اسمها، كل ما كان يعرفه فعلاً هو أن لغتها الأم هي البرتغالية. وعلى أن مجرد الطمع في رؤية الرسالة من أعلى الجسر، لا يعدو أن يكون غباءً محضاً، فقد ظل يجول بنظره في الفراغ حتى أجهد واغرورقت عيناه بالدموع. وتلك النقطة السوداء، أليست مطريته؟
أخذ يفتش عن دفتره حيث انتقل الرقم الذي كتبته المرأة المجهولة على جبينه، ثم مشى إلى آخر الجسر وهو لا يعرف إلى أين يمضي؟ لقد كان في هذه اللحظة يفر من حياته الراهنة، ولكن ألا يمكن لرجل بهذا الإصرار على الرحيل أن يتراجع عن قراره ويعود إلى منزله ببساطة؟
لمح فجأة فندق الواجهة الجميلة أعرق فنادق المدينة وأكثرها فخامة، كان غريغوريوس قد مر أمامه آلاف المرات دون أن يفكر في الدخول إليه، لكنه كان في كل مرة يشعر بوجوده. فوجوده وحده كفيل، حسب ما جال في خاطره في تلك اللحظة، بأن يكتسب أهمية خاصة عنده، لذلك كان سيغتاظ كثيراً لو أنه علم أن المبنى هدم أو أنه لن يظل فندقاً كما يشاهده الآن تماماً. أما أن يحتاج يوماً ما إلى زيارة هذا المكان، فذلك ما لم يخطر بباله مطلقاً.
تقدم نحو المدخل بخطى مترددة، فجأة توقفت سيارة بنتلي ونزل منها السائق ثم اتجه نحو الفندق، فتبعه غريغوريوس وهو يشعر بأن ما يسعى إليه مبتدع وممنوع.
كانت الردهة بقبتها الزجاجية الملونة خالية تماماً، وكان السجاد يمتص أي ضجيج، فانتاب غريغوريوس الإحساس بالسعادة، لا سيما بعد أن توقف صوت المطر، وعاد معطفه جافاً كما كان.
توجه إلى غرفة الطعام بحذائه البشع الثقيل، فوجد الموائد مجهزة لفطور الصباح، كانت شاغرة كلها ما عدا اثنتين فقط. وكانت النغمات العذبة المتصاعدة من ديفرتيمنتو لموزار تبعث فيه الشعور بالابتعاد عن كل ما هو صاخب وقبيح وخانق، نزع غريغوريوس معطفه وجلس إلى مائدة قرب النافذة:
(لا لم أكن يوماً من رواد هذا النزل!)
هكذا أجاب النادل الذي كان يرتدي سترة بنية فاتحة بعد أن تملكه الإحساس بأنه يكاد يلتهمه بعينيه، كنزة صوفية بياقة طويلة تحت سترة بالية، دوائر جلدية على الكوعين، بنطال من القطيفة المضلعة محدب عند الركبتين، هالة شعر خفيف تحيط بصلعة شاسعة، ولحية رمادية بخصلات بيضاء لطالما جعلته يبدو بهيئة مهملة. وما إن بدأ النادل يبتعد حاملاً معه الطلبية حتى تحقق غريغوريوس بحركات عصبية من كونه يحمل مالاً كافياً، ثم وضع منكبيه على المفرش المنشى وغرق بنظره صوب الجسر.
أمر عجيب أن يتمنى ظهورها مرة أخرى هناك، لقد عادت حتماً عبر الجسر، وغابت في شارع من شوارع المدينة العتيقة. كان يراها للمرة الثانية جالسة في آخر القاعة تلقي نظرة غائمة عبر النافذة، كان يراها عاقدة يديها البيضاوين. ومن جديد أطل الوجه المرمري من وراء المنديل متعباً ومعطوباً.
قبل سنوات عدة زار المكتبة الإسبانية على الجانب الآخر فوق الهيرشنبرغ، فقد كان فيما مضى يقتني من وقت إلى آخر كتاباً لفلورانس تحتاج إليه في أطروحتها حول جان دو لاكروا. كان يتصفح هذه الكتب في الباص أحياناً، لكنه لم يكن يفتحها في المنزل أبداً، فاللغة الإسبانية مملكة فلورانس وحدها، إنها شبيهة باللاتينية ومختلفة عنها في الآن نفسه.
وذلك ما كان يعكر مزاجه، ويثير حنقه بشدة، فكيف يمكن لللاتينية أن تكون حاضرة بكثافة إلى جانب كلمات تلفظ بأفواه اليوم، في الشارع أو في السوق أو داخل المقهى؟ كيف يمكن أن تستخدم لطلب كوكاكولا، وللمساومة أو للقسم الزائف؟
كان يجد مجرد التفكير في ذلك أمراً لا يطاق، وحين تجول بباله الفكرة يرفضها فوراً وبشدة. طبعاً، لقد كان الرومان أيضاً يساومون ويقسمون، ولكن الأمر مع الرومان كان مختلفاً تماماً. كان يعشق الجمل اللاتينية لأنها تحمل معها صفاء عالم ماض بأكمله، يعشقها لأنها لا تجبر أحداً على قول أي شيء، ويعشقها لأنها متعالية عن كل هذر، جميلة وصافية في ثباتها.
لغة ميتة.. آه لكم كان صارماً في احتقاره لأولئك الذين يطلقون عليها هذا الوصف!
إنهم لا يفهمون شيئاً منها، وفي الواقع لا يفهمون شيئاً على الإطلاق، ولذلك حين كانت فلورانس تتكلم الإسبانية في الهاتف، كان يغلق الباب، وكان هذا السلوك يجرحها، لكنه لم يكن يستطيع أن يقدم لها أي تفسير.

 

الناشر: دار مسكيلياني، 2016

 

ذو صلة