لم يكن بذهني يوم كتبت 2084/ حكاية العربي الأخير، اختصاراً: العربي الأخير. التي صدرت في ثلاث طبعات متواترة: الجزائر (في سبتمبر 2016)، بيروت (ديسمبر 2016)، وفلسطين (فبراير 2016)، أن أسهم في موجة الحزن التي تجتاح العالم العربي من بحره إلى بحره، ومن خيبته إلى خيبته، وأضيف لآلامه، آلاماً جديدة تتعلق بجرحه الحي. لكن الشيء الوحيد الذي تتفرد به الكتابة، هو أن قدرها أن تكون صادقة أو لا تكون. الكاتب يدخل في صلب المغامرة التي تشبه أدغالاً كثيفة، ويرمي بنفسه بلا حسابات شخصية، في داخلها. طبعاً سيصطدم بالخوف والأهوال والمزالق ولا شيء ينقذه إلا صدقه أو إخفاقه، وفي الحالة الثانية عليه أن يدفع الثمن مثل الساموراي الياباني بأن يرتد على نفسه، ويغرس السكين في خاصرته قبل أن تتسابق نحوه سكاكين من ينتظرونه في منتصف الطريق. لأن الخطأ الأعظم يستوجب عقوبة أعظم. أذكر في هذا السياق الشاعر الفرنسي الكبير برازياك الذي ناصر النازية لا حباً فيها، لكنه كان يرى فيها الوسيلة القومية الفعالة لإنقاذ أوروبا من مخاطر الانهيار الكلي والتمزق الخطير. التجربة في النهاية بينت مزالق تحليلاته الخطيرة إذ إنها أعمته عن رؤية حقيقة النازية التدميرية للعنصر البشري، التي ظهرت بالمظهر القومي والتحرري أيضاً للشعب الألماني الواقع تحت نير ظلم اتفاقية فرساي التي شرّعت تمزيق أوصالي ألمانيا. بعد الانتصار على النازية حوكم مثل بقية المتعاونين، وحكم عليه بالإعدام. قامت حركة ثقافية نضالية شاركت في الحرب ضد النازية، وكانت تختلف مع رؤية برازياك، ولكنها طالبت الجنرال دوغول أن يتدخل بوصفه رئيساً ليعفو عنه لأنه في النهاية لم يحمل سلاحاً ولم يقتل أحداً، لكنها تصورات بيّن التاريخ أنها كانت مخطئة. لكن جواب الجنرال كان حاسماً: لو كان إنساناً عادياً لهان الأمر، لأنه لا يمثل إلا نفسه. فقد تكلم برازياك بحرية، وجر وراء رأيه الآلاف وربما الملايين، وعليه الآن أن يتحمل ثمن حريته فقط. وأعدم.
الكتابة عن زمن غامض وملتبس هو عمق المسؤولية. لأن الكتابة بقدر متعتها، مخاطرها توازي ذلك. لهذا كلما سمعت بردود الفعل أو قرأت بعضها، تذكرت مآل برازياك، على اختلاف العدو والحقب التاريخية. المستقبل وحده يحدد جدوى وصدق ما ذهبت إليه رواية العربي الأخير، المؤكد أنه لم يكن في النية أبداً الدفع نحو حالة التيئيس. الرواية صرخة اليائس داخل دوامة عالم لم يعد معنياً بنا لأننا لسنا معنيين بأنفسنا. العالم يحترق من حولنا ونحاول أن لا نرى شيئاً، لا نرى الموت الذي يدخل إلى بيوتنا، المظالم التي تعاني منها شعوبنا، التفقير الذهني والمادي، العوالم التي تموت وتنشأ في محيطنا، خيراتنا التي تذهب نحو غيرنا، الحروب التي تشتعل على حدودنا، استيقاظ الأمراض الإثنية والعرقية والطائفية فنضطر إلى الاصطفاف مع هذا أو ذاك، سوق الأسلحة التي أصبحنا أهم زبائنها دون خوض أية حرب ضد عدو سرق منّا الحق في الحياة، مستقبل الماء حق التنفس.. وننتظر من السماء أن تغير بقدرة قادر كل شيء، والغفوة في عالم وهمي سائر إلى مسالك النار، والورد والوديان الناعمة. العربي الأخير كتبت لا لتعيد إنتاج اليأس كما يمكن أن يبدو ظاهرياً، ولكن فقط للتنبيه إلى أن عالما يرتسم الآن في الأفق، سنكون فيه هذه المرة يهود هذا الزمن في تيهنا وضياعنا ويأسنا إن لم نتحرك قبل فوات الأوان، وندرك خطر ما يحيط بنا ويحدث من حولنا. أن تكون مالكاً لرصيد حضاري سابق، لا يكفي ولا يحمي من النهايات الفجائعية. لن يمنعنا من التلاشي كما تقول الرواية، لسنا أفضل من شعوب سبقتنا إلى الحضارة، وانتفت، المايا والآنكا والآزتك التي بُنِيتْ على حضارة أعرق، الأولميك Olmèques، التي تأسست في الجنوب الشرقي من المكسيك، قبل نحو 1200 سنة قبل الميلاد، وهي جزء مما يسمى بالحضارات ما قبل كريستوف كولمبس، précolombiennes، مكتشف أمريكا التي تطورت ونمت في أمريكا الوسطى، بأمريكا الجنوبية. حضارات محاها الغزاة الإسبان أو الفاتحون conquistadores كما كانوا يسمون أنفسهم، في القرن السادس عشر، باسم التاج الإسباني، في إطار العالم الجديد. لم يبق اليوم من شعب الهنود الحمر الشيء الكثير إلا محتشدات يتجمعون فيها هنا وهناك، على طول غابات كاليفورنيا وغيرها. انقرضت أو كادت هذه الشعوب التي ملأت الدنيا، على مدار عشرات السنين والقرون. ما الذي يمنع العرب من هذا المصير وحضارتهم في ظل الانهيارات المتتالية التي وصلت ربما إلى سقفها في السنوات الأخيرة دون أن يتحسّسوا الخطر القادم؟
أؤمن أن الأمر يتعلق في النهاية برواية وليس بتحليل اجتماعي، لا يدعي الأحقية التاريخية إلا ضمن متخيل وسيناريو قيامي apocalyptique (القيامة) تبرره وقائع حاضرنا التي تخترق الحرائق الصغيرة قبل أن تتعمم، في حدود ما يمكن أن نتخيله. اعتمدت العربي الأخير على مسار روائي سردي أخذ الكثير من السردية البوليسية لأني أراها اليوم من أقرب الوسائل السردية إلى القارئ، وهذه ظاهرة عالمية وليست محلية أبداً. يكفي أن ننظر من حولنا لندرك أن هذا النوع من السرد وراء الكثير من الروايات العالمية التي فرضت نفسها بقوة متخيلها وسلطانها السردي: اسم الوردة لإمبيرتو إيكو، شيفرة دافنشي لدان براون، ملينيوم لستيغ لارسن، وغيرها من النصوص العالمية، كلها اعتمدت هذه التقنية. العربي الأخير التي اختارت عالماً نووياً عربياً، آدم غريب، اعتمدت هذا المسلك. يختطف هذا الأخير في مطار رواسي، شارل دوغول بباريس بمجرد نزوله من الطائرة، لا نعرف في البداية من كان وراء العملية، وكالة المخابرات الأمريكية؟ التنظيم؟ فرقة شادو التي تخصصت في قتل علماء النووي العرب؟ من هذه اللحظة البوليسية المبهمة تنطلق الرواية، ثم تتوسع لتشمل ما يحصل، وسيحصل، كما تفترضه الرواية، في العالم العربي المهدد بمخاطر الانطفاء والزوال. وهذا يضعها في خانات التخييل وليس التاريخ. لكن من قال إن التخييل وحي، خارج المنجز اللغوي البشري؟ طبيعي أيضاً أن يتقاطع هذا النص ضمن فاعلية التناص التي تبين حركية المنجز الإنساني، مع نص سابق له يصب في نفس الخانة، بيَّن التاريخ أن الكاتب كان محقاً في كل ما تصوره. الاسترشاد به كان أكثر من ضرورة، بل حاجة إبداعية أيضاً في لعبة التماهي في النصوص والعصور المتجاورة. رواية جورج أورويل 1984 كانت سنداً يبرر دخول العالم الروائي في صلب عملية الاستشراف التخييلي. ناهيك عن اللعبة التناصية المقصودة أدبياً، هناك عودة شخصية بيغ بروزر الذي يصبح في روايتي ليتل بروزر ولكن بمواصفات مختلفة، فهو أسوأ من سابقه وأبأس منه. للقول إن الدكتاتوريات تتوالد ولا مكان لها، فهي في كل مكان وفي اللامكان حيث ترانا ولا نراها، وتكبر في ظل أنانياتنا وحماقاتنا وخساراتنا السرية. يمكنها أن تنشأ في أكبر بلد، أو في أصغر رقعة على وجه الأرض. جورج أورويل تنبأ بدكتاتورية الإعلام وتصنيع القتلة من داخل المؤسسة المتحكمة في النفوس، لكن ما هو عندنا أكبر. الأمر يتعلق بانتفائنا وجودياً وحضارياً، من على وجه الكرة الأرضية كبشر إن استمر الوضع على حاله. الإرهاب عاصفة ولكنه حلقة مؤقتة تبتذل الوجود العربي والإسلامي أيضاً، وتحوله إلى خطأ تاريخي يجب تصحيحه وإرجاعه إلى السياق الحضاري البشري. هل هناك مكان للعربي العاقل والمفكر؟ هل سيقاوم هذه العواصف القاتلة أم سيستسلم لها لأنها أقوى منه وهي المنتصر. كيف نخرج من الدوامة في ظل عولمة لا تؤمن إلا بالقوة وبمن يملكها؟ لا يمكننا اليوم أن نتطور دون مظلة قوة حامية لنا، وإلا سنظل تحت رحمة من يحكم العالم. من يستطيع اليوم أن يعتدي على روسيا التي انهارت في وقت من الأوقات، بعد أن استرجعت قوتها الداخلية وتماسكها؟ من يستطيع أن يملي شروطه على كوريا الشمالية بعد أن امتلكت النووي، أو إسرائيل؟ من يهز خيارات الهند وباكستان مهما كانت تحالفاتهما المرحلية؟ الذي أعطى هذه البلدان يقين القدرة على التطور والتنمية المستقلة هو امتلاكها لسبل الحماية التي لا تسمح بأي أن يعتدي عليها دون دفع الثمن غالياً. توازن الرعب. طبعاً لست مع النووي مطلقاً، فهو إبادة مؤجلة للجنس البشري، ولكني أؤمن أيضاً أن الزمن الذي نعيشه لا يسمح للعرب أن يعيشوا بسلام، دون امتلاكهم حق وأداة الدفاع عن أنفسهم، لأن العدو المتربص بهم في المقابل، مالك لهذه القوة التدميرية، وهو من يحدد ما يجب أن يكون، وما يجب أن لا يكون. مسؤولية الدول العظمى تكمن في هذه العين التي ترى ما تريد رؤيته، وترفض ما لا يناسبها. بالنسبة لهذه الأخيرة، العربي هو في أدنى اهتماماتها، لأنها لا تؤمن إلا بالقوة. ربما احتاج العالم اليوم إلى لغة أخرى غير تلك التي نعرفها، وإلى نظام آخر أكثر عدلاً. للعربي الحق في العيش الكريم والخروج من المهانة والظلم. بغير هذا، يتجه العرب نحو حتفهم الذاتي. سيتحولون في أحسن الأحوال، إلى محميات لغيرهم من الأقوياء. وهذا لا يحتاج إلى عبقرية كبيرة مطلقاً، لإدراكه. ماذا لو تعلم العرب من غيرهم، من جارتهم إسرائيل مثلاً؟ نستطيع طبعاً أن نقول ما نشاء من حيث جرائم الاحتلال الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني الأعزل، واحتلالها للأراضي العربية، لكن لا يمكن أن نضع رؤوسنا في الرمال كونها دولة عرفت في وقت متقدم، في الخمسينات، أن بقاءها مرهون بامتلاكها النووي بحيث لن تستطيع أية قوة تهديدها الآن. أكثر من هذا، لن تسمح لأية قوة في المنطقة، العرب على وجه الخصوص، بامتلاك النووي، لهذا قامت بتدمير أي مشروع نووي أو نواة مشروع، وقتلت علماء الذرة المختصين في الفيزياء النووية، من المصريين والعراقيين والسوريين والجزائريين وغيرهم، في ظل صمت عربي ودولي مجرم. اغتيلوا بطرق فظيعة في الفنادق أو في الشوارع أو مسمّمين، أوفي حوادث غريبة مفبركة. الأخطر بالنسبة لإسرائيل ليس النووي فقط، ولكن أيضاً امتلاك الخبرة العلمية للسيطرة عليه، إذ يصبح وقتها من المستحيل السيطرة على القرار العربي. ماذا كان سيحدث لو امتلك العرب النووي؟ مجرد سؤال افتراضي؟ هل كانت ستعربد إسرائيل كما تشاء في السماء العربية؟ هل كانت ستستعرض عضلاتها على غزة أمام العالم وتنتهك الأراضي العربية متى تشاء؟ وهل قالت رواية العربي الأخير غير هذه الحقيقة التي يهرب منها الجميع والتي يجب أن يتم تأملها عن قرب. على العالم إذا كان صادقاً في مشروعه المضاد للنووي، أن يوقفه في المنطقة كلها لحماية هذه الرقعة الإنسانية، وإلا سيظل الوضع ظالماً بشكل كبير. العرب اليوم في عنق الزجاجة بعد أن انسحبت منهم كل إمكانات المبادرة، إما أن ينطلقوا من ضعفهم لبناء زمن آخر سيده العقل والنور مهما كلف ذلك من أثمان باهظة وتحالفات دولية براغماتية جديدة، أو ينتهون في أحضان البؤس والاقتتال الطائفي والقبلي والتخلف، والتمزق كما كان في دويلات الطوائف إلى أن تذهب ريحهم نهائياً، وهو الاحتمال الأكبر للأسف، نظراً للأوضاع الحالية. ماذا فعل العرب لحل مشكلة حيوية وإستراتيجية تحديداً مثل الماء؟ لا شيء. الكثير من مدنهم ستندثر بعد سنوات قليلة قادمة كما تُجمع كل التقارير الدولية التي تسنّى لي قراءتها؟ بعد سنة سينتهي بناء سد النهضة الكبير في إثيوبيا بتمويل إسرائيلي؟ سيلتهم أكثر من نصف المياه التي تغذي النيل الأزرق؟ التفكير وحده في حالتي السودان ومصر، مفجع، لأن ما سيكون سينهي حياة أقوام وأمم ويمحوها من الوجود. بعد سنوات قليلة سيضطر العرب إلى البحث عن قطرة ماء، أو سيموتون عطشاً ببساطة. لا خيار أبداً إلا خيار القفز نحو حداثة مربكة لليقينيات القديمة، لا خيار غيرها، هذا إذا كان الإدراك موجوداً بجدوى ذلك، بل بحيويته أيضاً. عندي الكثير من الشكوك في ذلك وأتمنى أن أكون مخطئاً أو كما قلت في بداية الرواية: أتمنى أن لا يحدث هذا. هل العربي الأخير هي رواية يأس أم رواية السؤال قبل حدوث الفاجعة؟ للقارئ عينه وحقه.