مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

كيكا بائع البخور

 

كالعابرين أمُر، وألمَح بين الزحامِ رؤوساً وأعيناً وأكتافاً، تهتز من فَرط المَرح، وأخرى تهزها ثورات الغضب.
أنفثُ دخاني في الهواءِ بقوة أُحبها في نفسي، وأركل بقدمي كُرَة صوف أراد لها أصحابها أن تكون (كُرَة قَدَم)، أركلها وأرفضها كَهمجي لا يُقَدر حق الفقير الصغير في اللعب.
اعتدتُ على النَفخ في آذان الناس بالعباراتِ الكئيبة!
شاعر؟ نعم أنا شاعر، لكنني لا أعمل لدى الفضاء والنجوم والكواكب وأعواد العُشب، أنا هُنا في طريقي اليومي المُمِل إلى شركة العطور التي أعملُ بها بإرادتي، ورغماً عني، فأما الإرادة فجاءت بسبب شَرهي، وطمعي في المال كعادة بَني جنسي، فأنا لا يُعجبني أبداً أن أفترش الحصير، وأبل الخُبز بالماء، وبينما كل هذا العَوز، فإذا بلساني يتلو مواعظ وأقوالاً مأثورة عن القناعة والصبر!
ويالغرابتي! فرغم عملي هُنا براتب مُغرٍ وجُهد لا يُذكَر إلا أن روحي تئن. تلك الروح التي كانت أكثر ثراءً من الربيع في فِتنته لعين الجمال. الأمر قاسٍ ياسادة، فبعد أن كنت أغزل قصائد من كرامة وشعور، باتَ عملي أن أخلق عبارتين مُنسَجمتين تافهتين، لأضعهما أسفل زجاجات العِطر صاحبة (الماركات العالمية)، وكلما أمسكتُ بقلمي، ووضعته أسفل ذقني، وكأنني (توفيق الحكيم) مثلاً؛ حَمسني العاملون معي، باذلين مالديهم من جُهد كي يجلبوا لي المزيد من التفاهات، وفي النهاية نصل إلى شطرين مُتجانسين، يذوب إيقاعهما على شفاه المُتَحدثين!. وكلما هَتفوا لي وقالوا (فنان)، رأيتُ بأم عَيني نِفاقهم يمشي على قدمين، فما أنا إلا قرد مُثقف، ترثي لحاله كل روح مُمتلئة بعزةِ، وكل قلب تسكنه قصيدة.
واليوم، قررتُ أن أتَرَجل، ولا ألقي بكتلتي في سيارة الشركة الفارهة. والحقيقة تقول إن ذلك لم يكن لأنني أُخَطط لأن أكون متواضعاً، بل لأنني ربما أحتاج أن تصطدم رأسي بتيارات الهواء، ربما يقبض ذهني على فكرة جديدة، نأكل منها حتى نَشبع!.
وعلى مَقربةِ من أدخنتي، احتلت بصري أدخنة أخرى تشابكت مع أدخنتي، فشعرتُ وكأنني مصنع أوشك أن يحترق إلى حَد أني وسط المَشهد الضبابي، وجدتُ صِبية يرتدون ثياباً مخططة، يُهَرولون قُرب عيني اليُمنى، فظَننت أنهم رجال المطافي، كذلك كما أظُن الآن بأنني أبرز ظُرفاء الأرض!.
وبعد مرور دقيقة بخيلة، وجدتُ الصِبية يجتمعون على ضرب رجل واحد، أقصد صبياً واحداً، لم ألمح إلا شَعره المُجَعد، وشامة سوداء تقف أعلى جبهته، وسروال تُرَابي، وحذاء قَذِر يبدو كسمكة تفتح فمها، لم ألمح إلا بقايا طفل، لم ألمح إلا كومة بؤس، لم ألمح إلا (كيكا)، هكذا كان الأولاد أصحاب الأداء الإجرامي ينادونه، ولم يفلت (كيكا) من أيديهم، ظَل مطأطئ الرأس حتى أشبعوه وجعاً، والحقيقة تقول إنه شَبع منذ ثاني رَكلة إلا أن الأعين الشريرة تُحب أن تكتحل بالدم!.
لم يَرفع الأولاد أيديهم عن جسد (كيكا) ورأسه إلا بعدما صافحوا بأبصارهم دمه أرضاً.
وجدت قصيدتي الحزينة تقفز من صدري، تصفعني بعُنف، وحينها لم يتخَلف الإحساس عن موعده، واصطحبني إلى حيث (كيكا)، وإذا بيدي تتحسس جبينه وشامته التي جرحها الضرب، وإذا بي أُضَمد جراحه، وأطَيب خاطره، وأُجالسه في أدبِ لطالما اشتقتُ إليه في نفسي.
وعندما اعتدل (كيكا) في جلسته، وأمسك بمنديلي الذى أعطيته إياه في حُب رَمقني بنظرةِ تقولُ حناناً يسير على العين ترجمته، ووجدته يقف مُنتًصباً، وكأن جسده النحيل لم يُبرًح ضرباً منذ قليل، ثم فَتح قَبضة يده السمراء التي كان يغلقها باستماتة على أعواد بخور.
أخبرني (كيكا) أنه يَكره هؤلاء الصِبية لأنهم يقتلون الجمال، وعندما سألته: كيف؟ أشارَ بيده اليُسرى إلى ذلك الكَنز الذي يقبض عليه في يَده اليُمنى، أشار إلى البخور، قال بصوتِ يقترب من البُكاء: عَرفوا أني أُحبه فأرادوا سَرقته!
احتمل (كيكا) كل هذا الألم، ولم يُعطِ هؤلاء أعواد البخور، التي ينشر خلالها عِطراً لافتاً يَتركه مُعَلقاً على رَقبة المارة، وأمامهم وبجانبهم وخلفهم. (لم يسرقوه لأنني أحبه، وأريدُ أن أمنح به الجمال لكل جميل)، قالها وأشع وجهه نوراً، وصمت كمن يُخجِله الغُرباء!.
مَددتُ يدى في جيب سروالي الضيق، وأخرجتُ نقوداً، أشرتُ إليه بها، فقال لي: كم؟! أوقفني بسؤاله، فكيف يجرؤ أطفال الإشارات على طرح سؤال كهذا؟! هكذا حدثتني غِلظتي، أجبته وأنا يتلبسني سوء الظَن، واصطبغت عينيّ بلون الغضب الأحمر، وكدتُ أستحيل (دراكولا) المُخيف بسذاجة عقل آدمي، قلت له: لماذا تسأل؟! فتح عينيه في براءة لا أنساها، كان اتساعهما جاذباً لسياحة علاجية، كدتُ أطيب من ألمي الروحي بمجرد أن سمحت لنفسي بعناقهم الكوني، وقال (كيكا): أرغبُ في عَدّهم لأني لا أعرف العَد، لا أعرفُ كَم هذا؟، وهل هو أكثر من ثمن علبة بخور كبيرة أم يصلح لشراء عودين أو ثلاثة؟ أريد أن أعرف كي أشكرك بطريقة العَد والحساب بتمرير البخور أمامك وخلفك وأن أقبلك بعدد ما أعطيتني إياه، أريد أن أشكرك بسذاجتي، وعلى طريقتي، طريقة (كيكا).
أخبرتُ (كيكا) عدد النقود، وأهداني عود بخور لم تُداعب أنفي رائحة أكثر زكاءً منه، وقال لي إن هذه الأعواد تُبهجه، تُدهشه، تُلهمه، وتُعلمه كيف يُحب!!.

 

ذو صلة