لم يكن يدور في مخيلتي وأنا أكتب هذا المقال تحديداً أني سأمارس وصاية ما، من نوع ما، كي ألفت انتباهكم إلى شيء يعتمل في نفسي بتحريض متعال. لا أخفيكم أشعر بتلكؤ يجذبني نحو التوقف والعدول عن طرح الفكرة، فلم يحدث خلال مسيرة قرائية طويلة أن لبست عباءة الوصي على الكتاب، ما يستحسن قراءته وما يكره وما يجب نبذه. ربما تشكلت هذه الحساسية المفرطة من طبيعة تكويني الثقافي، حيث كانت تُمارس ضدنا أنواع من التعنت يوم كنا صغاراً نلتف حول مشايخنا بأعين مفتوحة وعقول متوهجة استعداداً لتقبل الأوامر بلا جدل أو مراء كما كان يحلو لهم وصفه، فكانوا ينتزعون كل ما يقع بأيدينا من كتب أو مجلات، مما كان يُنظر إليها أنها إثم شيطاني يجب محاربته، فيستعاض عنها بأخرى تغرس عنوة بين أعيننا على اعتبار أنها طاهرة ونظيفة، وكأنها الخريطة البديلة للوصول إلى الجنة، حتى انغلقت أمامنا دروب الأدب والثقافة بمعناها الواسع. ربما كان القصد آنذاك هو التعويل على النقل من مشايخنا مباشرة وتغليب النقل على العقل أو تعطيلهما جميعاً؛ لأن البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، فلا حاجة لإشغال عقولنا بما يخلق فيها بلبلة السؤال. بيد أني في هذه المرة أستميحكم عذراً، رجاء اغفروها لي هذه المرة فلن أعود إلى مثلها البتة، كل ما في الأمر أني أعجبت بما قرأته أكثر من مرة أيما إعجاب، وسأوصيكم به، وهو سفر عظيم وسم بعنوان (الحرب المقدسة)، ورغم تمدد صفحات الكتاب وامتلائها بالتاريخ والأسماء والأرقام والتحليلات إلا أني لم أنفك متورطاً به وعالقاً بمعلوماته الثرية حتى أنهيته في غضون أيام، ثم عدت إلى قراءته كرّة أخرى. هذا الكتاب الذي ألّفته (كارين آرمسترنغ) يقع في سبعمئة صفحة كلها موغلة في عمق الصراع الشرق أوسطي، بدءاً من الحروب الصليبية بمراحلها المتعددة، وما خلفته من صراعات لا تزال مشتعلة الفتيل حتى اليوم. والجميل في هذا الكتاب الاستثنائي أنه يغوص في عمق الحقائق التاريخية المحضة، فتقوم بقراءتها وتحليلها مسقطة إياها على النزاع العربي الإسرائيلي من أجل الأرض المقدسة. لم يفتها وهي تستل معلوماتها التاريخية أنها تقع من حيث الوجهة إلى الفريق الثالث المتصارع عن بعد وهو العالم المسيحي الذي أسهم من خلال حروبه المتكررة على الشرق الأوسط في تكوين هذه العقدة العصية على الحل على الأقل في المدى القريب المنظور، فأنحت باللائمة على أولئك القديسين والملوك الصليبيين الذين جيّشوا البارونات والحجاج الفقراء لتوريطهم وتوريط غيرهم في حروب خاسرة. حفل هذا الكتاب بمعلومات تاريخية عن الأديان الثلاثة اليهودية والنصرانية والإسلام، فلم ينحز إلى ثقافة أو دين دون غيره، من حيث كم المعلومات أو مستوى التحليل أو عمقه، فجاء منصفاً متوازناً حتى في تناوله للصراع العربي-الإسرائيلي، وحاول اعتماد المصداقية والحيادية بلا تشنج أو مواربة، لذا خرج الكتاب بمنهجية وعلمية يعوّل عليهما في فهم كثير من الأمور والقضايا الغائبة تحت أنقاض المعرفة بما يؤسس لوعي وفهم شامل للقضية، ويجعلنا قريبين جداً منها، بما يمنحنا القدرة على تفسير الحراك السياسي الدائر حالياً الهادف إلى تصنيع أرضية مشتركة بين الفلسطينيين والإسرائيليين للوصول إلى اتفاق عادل وشامل، كما يؤسس هذا الكتاب الرائع لرؤية واضحة لسلوكيات الساسة.