مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

العنبر : طقوس في التراث

غريب أمر العنبر، فما من قول شافٍ في أصل ماهيته، مع أنه من أجود أنواع الطيب التي عرفت في الأزمنة الخالية، وعجيب في إقبال النفوس على العبِّ منه، وفي طرق الإفادة منه، وفي سطوة انتشاره في جنبات المكان، ومريب في أثره السام فإذا دخل جوف الحيتان التي تبتلعه، كان في ابتلاعه هلاكها، ومريب أيضاً في أثره الضار في الطيور، فإن نقرته علقت مناقيرها فيه، وإن حطت بأرجلها عليه انخلعت أظفارها فيه. تعددت أسماؤه، وظهرت في الأدب أصداؤه، وها هي طيوف من عوالمه في تراث العربية.

أثره في اللغة
ذكرت كتب اللغة لـ(العنبر) دلالات عدة، منها أنه: سمكة بحرية، والترس الذي يتخذ من تلك السمكة، والزعفران، وحيٌّ من تميم. لكن أكثر الدلالات شهرة هي دلالة العنبر على الطيب، لأن حضور العنبر كان قوياً في الأزمنة السالفة، وللعنبر أسماء أخرى ليست مشهورة، هي:
النَّد: قال أبو عمرو بن علاء: يقال للعنبر: الند.. وللمسك: الفتيق.
والقنديد: قيل هو العنبر، وبه فسر قول الأعشى:
                           ببابل لم تعصر فسالت سلافه                تخالط قنديداً ومسكاً مختماً
والإبليم، قال الشاعر:
                          كأن فوق حشاياها ومحبسها              صوائر المسك مكبولاً بإبليم
أما اللطيمة، فهي العنبرة التي لُطِمَت بالمسك فَتَفَتَّتَ فيه. والعنبر يذكر ويؤنث، وقد فرق بعضهم بين ما يذكر منه وما يؤنث من الطيب عامة، فذلك أن المؤنث منه هو طيب النساء من مثل الخلوق والزعفران وما يلون الثياب، وأما ذكورة الطيب فما لا لون له كالكافور، والمسك، والعود، والعنبر، وغيرها مما لا يترك أثراً من لونه.
وثمة مفردات وثيقة الصلة بالعنبر وغيره من أنواع الطيب، منها: العَرف، والعَبَق، والفِتاق: وهو مزج المسك بالعنبر، وربما عبروا عن المزج بالمُقَطَّب، والتطيب، والتأرّج، والتعطر، والتضوع، والفوح، والريح، والنفح، والشميم، والهندي: نسبته إلى مكانه، والأبيض، والوردي، والأشهب إشارة إلى لونه.

طقوسه
 كان للعنبر حضور صارخ، يوم أن كانت أصول الطيب خمسة، هي: المسك، والكافور، والعود، والعنبر، والزعفران، ويوم أن كان العنبر علامة على التنعم والرفاهة، والغنى.
ففي أخبار ملوك غسان في الجاهلية ما يدل على تقاليد مغرقة في التنعم من خلال التفنن في إغراق مجالسهم بهواء مضمخ بالطيب، من ذلك خبر نقله صاحب (الأغاني) يصف مجلس بعض ملوكهم جاء فيه:
«... وأقبلت جارية، وعلى رأسها طائر أبيض كأنه لؤلؤة مؤدب (أي مدرب)، وفي يدها اليمنى جام فيه مسك وعنبر، وقد خلطا، وأُنعِم سحقهما، وفي اليد اليسرى جام فيه ماء ورد، فألقت الطائر في ماء الورد، فتمعَّك بين جناحيه وظهره وبطنه، ثم أخرجته فألقته في جام المسك والعنبر فتمعَّك فيها حتى لم يدع فيها شيئاً، ثم نقرته فطار فسقط على تاج (جبلة)، ثم رفرف ونفض ريشه، فما بقي عليه شيء...».
ولم تكن الحضارة الإسلامية بمنأى عن الاهتمام بالطيب، بل إن الطيب أحد أمور ثلاثة كانت محببة إلى النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم-، كما هو معلوم، وفي كتاب (الأغاني) أيضاً أخبار عن الطيب وأهله، منها ما أخبره عن مجلس بدا فيه هشام بن عبدالملك مضمخاً بالمسك والعنبر، وبين يديه مسك مفتوت يقلبه فتفوح روائحه.
ويذكر صاحب (نفح الطيب) أن كميات كبيرة من العنبر والعود كانت توقد احتفالاً بليلة (الختمة)، ومن عجيب ما يروى أن (الرميكية) زوجة المعتمد رأت جواري يلعبن بالطين، فصنع لها زوجها (طيناً) من العنبر، والمسك، وماء الورد، لأنها اشتهت اللعب بالطين، وحكى صاحب كتاب (معجم السفر) أن بعض الوزراء كان له طقوسه الدالة على تنعم لا يخلو من مبالغة إذا أراد الاستحمام، فقد كان يرافقه أعداد كبيرة ممن يقومون على خدمته؛ فقد يدخل الحمام ليلاً فيكون بين يديه شمع معمول من العنبر والعود وأنواع الطيب.
وهذه الطقوس تدل على مدى حضور أنواع الطيب ومنها العنبر، وهي علامة على التنعم والرفاهة.

ماهيته
ومن يطلع على المصادر يجد أن أهل العلم لم يهتدوا إلى حقيقة العنبر، بدليل كثرة أقوالهم فيه:
قيل: هو من جوف سمكة، أو حوت اسمه (العنبر).
وقيل: هو عيون تنبع في قعر البحر، يصير منها ما تبتلعه تلك الأسماك، وتقذفه.
وقيل: هو شمع عسل ببلاد الهند، يجمد، وينزل إلى البحر، ومرعى نَحْلِهِ من الزهور الطيبة، يكتسب طيبه منها.
وقيل: هو نبات في قعر البحر يشبه عنق الشاة.
وإذا كنا لا ندري ما حقيقة العنبر، فإن من الثابت أنه مادة تخرج من البحر، وفي المثل: «أسخى من لافظة»، يعنون به البحر، لأنه يلفظ كل ما فيه من العنبر، والجواهر.
والعنبر غال، لذلك فهو يوزن كما توزن النفائس، كالذهب والجواهر، ويكون قطعاً قد تزن الواحدة منها ألف مثقال.
أما طبيعته السمية فقد أشار إليها بعض أهل العلم، ننقل عن الشافعي رضي الله عنه قوله: «سمعت من يقول: رأيت العنبر نباتاً في البحر ملتوياً كأعناق الشاة، وفي البحر دابة تأكله، وهو سم لها فيقتلها، فيقذفها البحر، فيخرج العنبر من بطنها».
وقريب من هذا ما ذكره الزمخشري، قال: «العنبر يأتي طفاوة على الماء، لا يدري أحد معدنه، يقذفه البحر إلى البر، فلا يأكل منه شيء إلا مات، ولا ينقره طائر إلا بقي منقاره فيه، ولا يقع عليه إلا نصلت أظفاره، والعطارون والبحارون ربما وجدوا فيه المناقير والظفر...».
وبعض الأقوال تنسب وجوده إلى الهند صراحة، كقول الشاعر:
                             تُشَبُّ متون الجمر بالندِّ تارةً           وبالعنبر الهندي، فالعرف ساطع
وصاحب نفح الطيب يتحدث عن وجوده على شواطئ الأندلس، يقول: «ومن بحرها بجهة الغرب يخرج العنبر المقدم على أجناسه في الطيب، والصبر على النار».
ويذكر صاحب (التاج) أن (باوري) مدينة ببلاد الزنج يجلب منها العنبر.

طرق استخدامه
وثمة إشارات – فوق ما تقدم – تفيد في معرفة طرق استخدامه، فقد صنعت شموع من خليط فيه المسك والعنبر وربما غمست المرأة أطراف كمها فيه، يقول الشاعر:
«بَلِيلة الأردان قد ضُمِّخت بالعنبر»
وقد تدلك المرأة به الوجه، أو بعض جسمها، وقد يوضع في النهار، وباحتراقه تنتشر رائحته، يقول الشاعر:
                       مِحَن الفتى يخبرن عن فضل الفتى                   كالنار مخبرةٌ بفضل العنبرِ
وأجود العنبر الأبيض، والأشهب، ولا رغبة في أسوده.

أصداؤه
بقي أن نقول: حفل الشعر العربي بذكر العنبر، ولا سيما في الوصف والمدح والغزل، فمن الغزل هذا القول الذي يرى في الجمال الإنساني ما يفوق كل طيب:
                       والعنبر الوردي دان لطيبها                منه التعطر، والتأرج، يطلب
وهذا القول الذي يصف سلاماً معطراً حمله نسيم الصبا:
                      وتحية جاءتك في طي الصبا               أذكى وأعطر من شميم العنبر
وقد امتدحوا المرأة العبقة، وهي التي إذا تطيبت وتعلق بها الطيب فلا يذهب عنها ريحه أياماً، قال الشاعر:
«عبق العنبر والمسك بها»
وقال:
                       أناةٌ كأن المسك تحت ثيابها            يقطبه بالعنبر الورد مقطب
وقد يذكر العنبر فيكون علامة على جمال يستوطن المكان، وهو جمال تنتقل آثاره إلى النفس سريعاً فتمتلئ سعادة وحبوراً بما يجود من ذاكي العطور:
                       والروض قد أهدى شقائقه                     وآسُهُ العنبري قد نفحا
وتظهر بعض الأشعار أن للعطور -ومنها العنبر- صولة وجولة في جنبات المكان:
والعود يخفق والدخان العنبري به يجول
ومن المدح بالعنبر قول الشاعر:
                     إني توسمت أمراً ماجداً                    يصدق في مدحته المادح
                     ذؤابة العنبر فاخترته                      والمرء قد ينعشه الصالح
وقوله:
                    ولما اقتحمت الوغى دارعاً                وقنّعت وجهك بالمغفرِ
                   حسبنا محياك شمس الضحى                 عليها سحاب من العنبرِ

كما نجد أهل النثر يستعيرون من عوالم العنبر بعض مفرداته، من ذلك قول مترسل: «فأجبته، أسمى الله قدره الكبير، وأدام عرف فضائله المزري بالعنبر والعبير...».
وللعنبر صدى في مسائل الفقه الإسلامي، فقد سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن زكاة العنبر، فقال: «إنما هو شيء دسره البحر»، أي دفعه موج البحر وألقاه على الشط فلا زكاة فيه.
تلك كانت جولة عجلى على عوالم العنبر في التراث بدا فيها العنبر غريباً في ماهيته، بعيداً في أماكن وجوده، عنواناً على التنعم والرفاهة، تعددت طرائق استخدامه، وظهرت في الأدب واللغة أصداؤه.

ذو صلة