مجلة شهرية - العدد (572)  | مايو 2024 م- ذو القعدة 1445 هـ

منهج النقد الفني للوحات الخطية

عندما تقع عين الشخص على لوحة خطية عادية أو تشكيلية لأول مرة فإن أول ما يفعله أن يحاول أن يقرأ ما في هذه اللوحة من كلمات، وتسمى هذه النظرة بالنظرة العابرة، التي غالباً ما يتبعها النظرة المتأملة في المعنى، الفاحصة للرسم وروعة الإحساس باللوحة، فأي لوحة تترك إحساساً بالنشوة في داخل ملقي النظرة الأولى يدفعه إلى التدقيق والتمحيص فيما تحمله اللوحة من معانٍ أعظم من أن تدرك لأول نظرة، ومن هنا يساعد شكل اللوحة المكتوبة على توجيه المشاهد المتأمل والأخذ بيده إلى ما تحتويه من معان.

فقد تترك زخارف اللوحة أثرًا انطباعيًا أوليًا في روح الناظر من الوهلة الأولى يدفعه إلى المزيد من التدقيق للوقوف على المزيد مما أراده مبدع اللوحة، وما تركه للمشاهد من حرية في التأمل والبحث في مكنونات اللوحة للوصول إلى الهدف والغاية التي أرادها، فإذا احتوت اللوحة على بعض الماديات كالأشجار والأقمار على سبيل المثال، أو على بعض الألوان ذات الدلالات كأن يخط الخطاط حرفاً في لوحته بلون مميز عن سائر لونش اللوحة ليُبرز من وراء ذلك غاية يرمي إليها أو يغير نوع الخط في كلمة معينة لأنه يرى أنها سوف توصل الأثر المرجو منها بهذا النوع من الخط، وستترك أثرًا في قلب ووجدان الناظر إليها منذ نظرته الأولى العابرة؛ مما سيدفعه إلى المزيد من التدقيق والتمحيص للوصول إلى ما كان هو يريد إيصاله من وراء ذلك، كما قد تحتوي اللوحة على معانٍ غير مادية ولا ملموسة كالشرف والكرامة والشجاعة ولكن اللوحة تبرزها برموز يبتدعها الخطاط والفنان حين كتابتها يحسها المشاهد حين رؤيتها.
وتكون فترة التأمل في المعنى والاقتراب من اللامحسوسات فيها بحسب ما في هذه اللوحة من عناصر التنسيق والتكامل، وهذا ما يجعل الرائي ينتقل لا إراديًا إلى المرحلة الثانية؛ وهي مرحلة النظرة الفاحصة التي يبدأ فيها بتعيين الوحدات الدقيقة في صورة مستقلة متكاملة، ويفصل حروفها مجتمعة ومتفرقة ليشاهد الشكل الإبداعي العام للوحة في صورة نهائية مختلفة تماما عن الصورة التي تكونت لديه عند نظرته الأولى؛ إذ ينتقل إلى النظرة المتأنية المتأملة الفاحصة المدققة التي يشاهد من خلالها حسن الشكل وحسن الوضع في اللوحة والوزن والانسجام الداخلي باللوحة وانسجام الحروف وترتيبها، واتساقها مع بعضها البعض، وتركيبها لكلمات في مساحة ورقية محددة ذات أبعاد حركية، هذه الأبعاد الحركية هي التي تولد داخل اللوحة إيقاع الوزن وانسجام الشكل والمضمون، فلا معنى أبداً لأن نلقي نظرة عابرة على عمل فني متكامل دون أن نتعايش مع اللوحة ونحس بالحركة التي تحتويها، وبالمعنى الداخلي الذي أراده كاتبها.
والأبعاد الحركية في اللوحة الخطية قائمة على وجود كتلة كتابية سوداء في الفراغ الورقي الأبيض أو العكس، فأي تصميم كتابي يعتمد على حركة الكتلة الكتابية في المساحة المحدودة التي هي الورقة المكتوب عليها، والتفاعل بين فراغ الصفحة والكتلة الكتابية هو الذي يولد الإبداع، ويولد الشكل الفني للوحة الخطية، بمعنى أنه يحدث تفاعل بين السلبية التي هي فراغ الورقة والإيجابية التي هي كتلة الكتابة، هذا التفاعل يولد تعادلاً بينهما ينتج عنه الشكل الفني في اللوحة فلا يصح أن نملأ فراغ الصفحة إلى حد الاختناق، ولا يجوز أن نترك الصفحة وعليها من الكتلة الكتابية الشيء اليسير، إذ لابد من توافر التعادل بينهما لينتج إبداعًا فنيًا خطيًا يحظى باستحسان عين المشاهد من النظرة الأولى العابرة.
إن نجاح الخطاط الفنان في ملء المساحات الفارغة بأشكال وتراكيب خطية أو كتابة تشكيلية بأنواعها المختلفة الناطقة بالحيوية، واختيار نوع الخط الذي يتناسب مع خلفية اللوحة كل ذلك يعتمد على إحساس الخطاط المرهف وإلهامه الفطري الذي هو في الأساس توفيق رباني، يقوم الفنان فيه بابتداع شكل عام كلي ثم يضع فيه اللمسات بالكلمات والحروف ليملأ الفراغ، وهنا تدب الحركة في اللوحة لتساعد على الإحساس بالكتلة وتبني الشكل العام للوحة فتوحي للمشاهد من نظرته الأولى إلى اللوحة بإلهام خاص بما أراد كاتبها أن يقوله، وكل ذلك في جمع شامل وتوزيع كامل وتوازن وانسجام واتساق ولا ينتج ذلك إلا بالخبرة التي يكتسبها مبدع اللوحة وينميها ويدربها على إحساس مرهف وشعور رقيق وفي النهاية بعد أن يفرغ من كتابة لوحته يصبح راضيًا مسرورًا يتملكه شعور بالزهو والظفر مكللاً بالنجاح والإبداع الخلاق.
ليأتي دور المشاهد الذي يجب عليه أن يستخدم إحساسه وتذوقه ليحلل العمل الفني بأن ينظر إلى صورة الشكل العام وارتباطه بالمعنى، وذلك بأن ينظر إلى اللوحة ككتلة عامة بالنسبة إلى الصفحة ليحس بتوازن الفراغات في الصفحة، ثم ينتقل إلى مرحلة الناقد المدقق ذي العين البصيرة التي تفحص العناصر الخطية والحروف والمقاطع ليرى قوتها ويتبين كمالها، ثم ينظر إلى التفاصيل الدقيقة من حيث التشكيل أو تداخل الحروف المتقاطعة أو دخول الحروف في بعضها البعض أو تناسقها على بعضها في اتساق ينتج عنه شكل فني إبداعي جديد خلاق، لتكون المرحلة الأخيرة مرحلة أشد تعمقا في العمل الخطي إذ يتأمل فيها أجزاء الحروف والرموز الموضوعة ـ إن وجدت ـ وماذا يقصد الفنان الخطاط من ورائها، ويرى التركيب والتداخل والاختصارات والاختلاسات والمقاصد الظاهرة والخفية، والتوازن والانسجام بين الحروف المتماثلة، والأشكال المتشابهة التي عملت على ملء الفراغ الداخلي والخارجي للوحة في اتساق وانتظام مبهر.
من الميسور على أي مشاهد من الوهلة الأولى لأي لوحة خطية أن يتفحصها ويتأملها وينتقدها حتى وإن كان غير عالم بقواعد نوع الخط الذي كتبت به، ومن وجهة نظري الشخصية أرى أن التزام الخطاط بقواعد الخط حرفيًا يفقده بريق الإبداع والتميز والتفرد، وليس معنى ذلك خروجه نهائيًا عن قواعد الخط بل إن الالتزام بها واجب وإلا افتقدت اللوحة لعناصرها الجمالية، ولكن يكون الخروج عند الشعور بأن ذلك الخروج عن القاعدة سيزيد اللوحة جمالاً ولن يكون على حساب جماليات اللوحة واتساقها فنيًا، وفي هذه الحالة يصبح الخطاط مبدعًا ينفرد بالتميز والتفرد في التخليق فالخط العربي مرن متطور غير جامد صلب كغيره من اللغات الأخرى.
ولكي تتضح الصورة سأتناول العناصر التي تتكون منها اللوحة الخطية، فأي لوحة خطية يجب أن تتوافر فيها عناصر خمسة لتصبح لوحة إبداعية جديدة متميزة وفريدة يجب عليك كذواق للخط العربي معرفتها وإدراكها جيدًا حتى إذا ما ذهبت إلى معرض خطاط تستطيع بملكتك الخاصة أن تنتقد إنتاجه الخطي نقدًا علميًا بناءً يعتمد على هذه العناصر:
- المحور: وهو عنصر رئيسي في اللوحة ويعني بناء اللوحة على حرف معين سواء في أسفل اللوحة أو في وسطها، أو قد تتكرر هذه الحروف التي يبني عليها الخطاط اللوحة فيصبح هناك أكثر من حرف بناء في اللوحة تتابع هذه الحروف المتشابهة في الشكل والأبعاد، أو في الشكل وتختلف في الأبعاد حتى تحقق التوازن في اللوحة، إذن المحور في اللوحة هو عنصر حرفي يتم تكوينها عليه أو حوله يحدد شكل اللوحة العام أو اتجاه حركتها القرائية من أسفل إلى أعلى أو العكس على المحور الرأسي.
- التكرار: وهو التتابع المستمر لنفس العنصر الخطي قد يكون منتظم الأبعاد من حرف أو مقطع حرفي أو قد يكون متدرجًا في السمك من أسفل إلى أعلى أو العكس، وهذا التكرار يزيد من جمال اللوحة ويزيدها مرونة وحياة ويجذب انتباه الناظر إليه ويسعده في ذات الوقت فيجعله يشعر بجمال اللوحة، والتكرار يأخذ ثلاثة أشكال: رأسي كما في اللوحات ذات الشكل الدائري أو البيضاوي، أو أفقي كما في اللوحات ذات الشكل المستطيل أو المرسل، وقد يكون أفقياً ورأسياً في اللوحة الواحدة في ذات الشكل.
- الإيقاع: وهو علاقة البعد التي تنظم الكلمات في اللوحة وتشكل علاقة التوافق بين المقاطع الحرفية غير المتشابهة لتصبح مريحة للعين عند المشاهدة، وكذلك علاقة التكرار المنتظم للحروف المتشابهة لتتناسق وتتوزع في انتظام لتظهر الإيقاع في أرقى صوره التي تجذب عين المشاهد من مجرد أن يرنو إلى اللوحة الخطية، والإيقاع نوعان: بسيط وهو تكرار العناصر في الشكل في جانبي اللوحة أو أعلاها أو أسفلها بصورة بسيطة، وآخر مركب وهو أن تتكرر العناصر الخطية وتتشابك وتتوزع بنظام في اللوحة.
- الشكل التكويني: وهو التصميم الهيكلي للوحة الفنية، والنقطة الأساسية في هذا العنصر هي إعمال الخطاط لفكره عند تكوين اللوحة فيقف وقفة مع نفسه يتدبر فيها معنى الآية أو الجملة المطلوب خطها لجعلها في شكل جمالي يتناسب معها، فإن لم يتيسر له ذلك فعليه أن يهتم بضرورة وزن اللوحة عن طريق الإيقاع الكلي للكلمات.
-الكتلة والفراغ: سبق أن عرفنا اللوحة الخطية بأنها كتلة خطية مكتوبة من الحبر الأسود على ورقة بيضاء، هذه الكتلة إذا كانت موزعة على الصفحة توزيعًا متوازنًا بحيث تراها العين كتلة موزونة ما بين الأبيض والأسود فهي إذن لوحة جيدة، وليس معنى ذلك التساوي بين الأبيض والأسود ولكن أقصد تحقيق التوازن بينهما بحيث لا يظهر في اللوحة نشاز أو انحراف تلفظ منه عين المشاهد عند الرؤية.

ذو صلة