مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

الشر في السير الشعبية

عند الحديث عن الشر في التراث الشعبي يقوم في الذهن العديد من المقارنات منها هل يختلف الشر في واقع الحياة عنه في السير الشعبية والحكايات؟  
إجابة عن هذا السؤال الاستفساري نقول : قد تختلط الأمور و تتشابه لدرجة كبيرة من خلال الصور المتناثرة والمتطابقة بين السير والحكايات وبين أرض الواقع.
ولعل الذي ركز هذا المفهوم في حياة الناس هو تعاملاتهم وعلاقاتهم الاجتماعية وتجاربهم, وما لحق ذلك من أمثال شعبية حول مفهوم الشر وتأثيراته السلبية في الحياة مثل (أول الشر جنون وآخره ندم). وتتوقع العقلية الشعبية أن يكون الشر هو البادئ دائماً، فنحن نقرأ في الأمثال العربية (أبعد عن الشر وغني له), و(إن كان بينك وبين الشر رزق اقطعه). وتصف الإنسان الشرير بأنه (في النهار يمشي مع الغنم وفي الليل يسرح مع الديب). وفي الحكايات والسير الشعبية نجد اتجاهين مختلفين, أحدهما اتجاه إيجابي والآخر سلبي، بمعنى أن الإنسان الطيب الكريم الشجاع لابد أن ينال جزاء طيبته وخلقه الحميد، أما الشرير فإنه لابد أن يعاقب عقاباً صارماً، وأن يختفي من الحياة إرضاء للذوق العام.
وتعكس المأثورات الشعبية نماذج كثيرة للمفهوم الشعبي للخير والشر, تهدف إلى استحداث توازن في السلوك الإنساني على مستوى الفرد أو على مستوى الجماعة. فكما أن الخير يؤكد القواعد العامة في الطبيعة والحياة, ويقف في صف الفرد والجماعة والمثل العليا التي تدعو إلى الخير؛ فإن الشر هو الأخر يلعب دور الضد عن طريق ما يجسده من نقائص مادية وأخلاقية، وما يمثله من أذى وخروج عن النظام والقواعد العامة, واستثارته للنوازع الدنيئة التي تعمق مشاعر الأثرة والأنانية والقسوة، وتوسع الهوة بين الفرد والجماعة. ويظهر الشر في السير الشعبية رمزاً لعدم الرضا عن الواقع الموجود الذي لا يحقق الآمال الشخصية الشريرة، كما يشير هذا الرمز إلى النقائص والمثالب التي تعمل في بنية المجتمع, وتعمي الفرد عن معرفة ذاته ورؤيتها رؤية صحيحة للآخرين. وهنا يلعب الشر دوره, ويسعى إلى التشكيك في فهم المجتمع, ويحفز إلى تغيير الواقع بما يحقق أهدافه الخاصة ورغباته وشهواته, وما إلى ذلك من المثالب والنواقص التي ترفضها وتقاومها العقلية الشعبية, وتدرك أنها سم يجري في جسد المجتمع، ويؤدي به شيئا فشيئا إلى التحلل والانهيار. وعلى ذلك فإن الخير ليس مفهوماً مجرداً، وكذلك الشر، وإنما يكتسب الخير والشر ملامح جسدية وسلوكية وخلقية إنسانية، ويعيش مع حركة الحياة، كما هو في المفهوم الشعبي قديما وحديثا إن الخير قوة   والشر ضعف, كما أن الخير مع الحياة والشر ضدها, ويمثل الخير الجمال شكلاً ومضموناً, في المقابل فإن الشر يمثله القبح شكلا ومضمونا أيضا. فالخيّر قوي شجاع متناسق الملامح, والشرير ضعيف جبان قاسي الشكل غالباً، والخيّر صادق طيب القلب، كريم الخلق، عميق الإيمان، أما الشرير فإنه مخادع، قاسي القلب، سيئ الخلق, ضعيف البدن. ولقد اخترنا في هذه الدراسة رصد العقلية الشعبية في صياغتها مفاهيم الخير والشر وتجسيدها لهذه المفاهيم في الحكايات والسير الشعبية.
إن أول الملاحظات التي يمكن أن نلاحظها على الشخصيات الشريرة في السير الشعبية أنها في الأغلب الأعم غريبة عن الجماعة، سواء من ناحية الأصل أو المنشأ، أو من ناحية المقومات الجسدية أو السلوكية أو الخلقية. وهذا ما يجعلها تنحاز إلى أعداء الجماعة، سواء أكان ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر عن طريق تحقيق هدف الأعداء دون الانحياز لهم أو التعاون معهم.
فـ(جوان) في سيرة الظاهر بيبرس، شخصية متميزة، تصلح نموذجاً لدراسة التكوين النفسي والخلقي للشرير، ويصدق عليه ما يصدق على غيره من الشخصيات الشريرة من أن ميلاده غريب، فيوم ميلاده ماتت أمه وكسف القمر وأظلمت الدنيا، ونزل المطر وزادت الرعود وكانت ليلة منحوسة، وقد خرج رفيع العنق كبير الرأس، شنيع المنظر ومن جملة قباحته أن الذي أرضعته كلبة بعد أن رفض الرضاعة من كل النساء، والأسوأ من ذلك كله أن أمه حملت به من الحرام فهو ابن زنا، ومن كثرة شروره وحبه لسفك الدماء والقتل وارتكابه لكافة أنواع الشرور والمحارم فقد قيل عنه أنه مبشر به من قبل إبليس ليكون تجسيداً حياً له على الأرض.
يقول الأستاذ  د. عبد الحميد يونس: «لولا أن هذه الشخصية (جوان ) المدبرة للشر لقلنا إن هذه السيرة كان أحرى بها أن تكون سيرة جوان؛ لأن حوادث السيرة كلها أو تكاد هي من تدبيره». وفي سيرة الزير سالم نجد شخصية سعاد الشاعرة أو البسوس, كما عرفت في السيرة, وهي شخصية دخيلة على قبيلة بكر وتغلب؛ حرّكتها عوامل الثأر لأخيها حسان تبع اليماني الذي كان يفرض سلطانه على القبائل العربية كلها، وقد ظلم وتجبر حتى جاء كليب بن وائل فقتل الملك تبع وخلص الناس من ظلمه وتجبره، ومازالت البسوس تحرض بكر على تغلب وترمي الفتن بين الفريقين, وتحيك المؤامرات حتى دفعت جساس لقتل الأمير كليب, وتسببت في إشعال حرب البسوس التي استمرت أربعين عاماً, وذاق  فيها الطرفان كل أصناف العذاب, وكانت هي الموضوع الرئيس لسيرة من أهم السير الشعبية وهي سيرة الزير سالم المعروف. كما سميت هذه الحرب الضروس باسمها - تاريخ الأدب العربي أبو ليلى (المهلهل), وعلى الرغم من أن وجودها المادي في السيرة لا يستغرق إلا بضع صفحات، إلا أن أثرها يظل فاعلاً في السيرة إلى نهايتها، مما يشير إلى خطورة عنصر الشر عامة وآثره في حياة الجماعة.
و(عمارة الوهاب) القوَّاد كما أطلق عليه رواة سيرة عنترة، تحركه أيضاً نوازع شخصية وأحقاد دفينة على عنترة تجعله ينحاز إلى أعداء عنترة - أعداء القبيلة في ذات الوقت- انطلاقاً من عصبية ضيقة لا تضع في اعتبارها الجماعة.
 أما قمرية أم الملك سيف في سيرة سيف بن ذي يزن، فهي ليست عربية وإنما هي جارية حبشية أرسلها ملك الأحباش لقتل ذي يزن، كما أنها اتخذت من تظاهرها بالإسلام وسيلة لتحقيق مأربها للوصول إلى الحكم والسلطان لتخدع به ابنها, والسيرة بذلك تلخص أفعالها وسلوكها، ومدى الشر الذي تتصف به وأثرها في حجم الضرر والخسائر المعنوية والمادية التي أصابت القبيلة.
والوزير (بختك) وابنه (بختيار) في سيرة حمزة البهلوان أو حمزة العرب، من أصل غير عربي، رضعا كراهية العرب، والحقد عليهم، وهما رأس الفساد بين العرب والفرس، ومن ثم حركتهما عصبية عرقية ودينية عميقة الجذور في نفس كل منهما، بل إن بختيار يفوق أباه في عداوته وبغضه للعرب, ومن الملاحظ أنه عندما ينسب الشر إلى شخصيات غير عربية في السير الشعبية العربية يصبح الصراع حادا بين عوامل الشر وعوامل الخير، وقد يطول هذا الصراع لينسحب على السيرة منذ بدايتها حتى نهايتها في حلقات متتالية تتلو الواحدة منها الأخرى لتنمي الصراع، ولكن الانتصار في هذه الحالة سهل غير عسير، رغم ضراوته وشدته. أما حين ينسب الشر إلى شخصيات عربية فإن الصراع يصبح صعباً عسيراً، ويكون الانتصار في النهاية انتصارا شكليا، لا قيمة له؛ لأنه لا ينتهي إلى وحدة الجماعة وإنما يؤدي إلى تفرقها، وتشتيت شملها وذهاب ريحها.
والحقيقة أن السير والحكايات جميعا قد وقفت طويلا أمام العصبية والتعصب، باعتبارهما شرا معنويا، وجعلتهما أكثر أنواع الشر تأثيرا في حياة الفرد والجماعة، فهما من ناحية يزرعان الفرقة والفتن والبغضاء, حتى تظل القبيلة متفرقة ومشتتة، وهما من ناحية أخرى ضد كل العوامل التي توحد القبيلة وتجعلها جسدا واحدا في مواجهة نوازع الشر عند العدو الخارجي, وهذا ما نجده في كل السير الشعبية تقريبا, وربما كانت السيرة الهلالية أكثر السير العربية تركيزا على هذا الجانب -العصبية-, فالصراع في الهلالية يقوم على محورين، محور يجعل جموع الهلاليين في مواجه الزناتة، أو (الذات العامة) في مواجهة (الذات الخاصة)، ويسير موازيا لهذا المحور محور آخر لا يقل أهمية عنه بل لعله يفوقه تأثيرا وخطورة, وهو ذاك الصراع الخفي حينا، والمعلن حينا أخر بين (أبو زيد) و(ذياب), أو على وجه الدقة بين الزغبيين والهلاليين جناحي القبيلة، وقد انعكس هذا الصراع على الجمهور في السيرة الهلالية, فقسم الجماعة الشعبية التي أحبت أبا زيد لسبب أنه كان عنصر التوازن في السيرة، كما كان عنصر التجمع والتوحد. أما ذياب فقد كان أكثر تعبيراً عن معنى الفروسية والقوة العربية من أبي زيد، لكنه كان عنصر انقسام تحركه عصبية فردية ضيقة، ونوازع خاصة وأحقاد تضخم الذات الفردية. ورمزية قتل ذياب لأبي زيد هي انهيار للتوازن بين الذات الخاصة والعامة، وهذا الانهيار خلق خللا في التوازن وحرك نوازع الشر الكامنة في النفوس وكان وبالا على الهلاليين جميعاً.
يقودنا هذا الكلام إلى ملاحظة تتعلق بصورة الإنسان الشرير أو الشخصية الشريرة في السير الشعبية، والحقيقة تكاد تكون هذه الصورة عالمية، لا تخص ثقافة بعينها، ولا مجتمعا بعينه؛ إذ أن التفاصيل الصغيرة تؤكد السمات الأساسية ولا تتناقض معها، لكنها لا تكتسب الأهمية نفسها في ثقافة أخرى. فمثلاً تكاد تكون الشخصيات الشريرة أجنبية في معظم السير العربية، وهي إذا آمنت بالإسلام فإنما يكون استغلالاً لهذا العنصر العميق الجذور في المجتمعات المسلمة ولتحقيق مآرب شريرة.
إن بختك و ابنه بختيار في سيرة حمزة كافران، وقمرية في سيرة سيف بن ذي يزن تتخذ الإيمان بالإسلام ستاراً ووسيلة تخدع فيها الجميع، ولا تتورع عن إظهار مجوسيتها لإرضاء ملك الصين طمعاً في تحقيق مآربها، وهي من نسل إبليس.
أما جوان في سيرة الظاهر بيبرس فهو (خليفة إبليس التعس) وهو يعكف على الصلاة والصوم، وإقامة كافة الشعائر الإسلامية, لكنه بذات الوقت عالم من علماء ملة الروم، سكير عربيد، لا يتورع عن فعل المنكر والعمل ضد الإسلام والمسلمين والعرب، بل إنه يعمل ضد المسيحيين ويتظاهر بأنه عالم دين منهم، كما تظاهر بأنه فقيه من فقهاء المسلمين.
ويوحي لمن حوله بأنه ولي من أولياء الله الصالحين، ويتبوأ مكانة عالية في مصر ثم يستلم قاضي القضاة، و يتآمر على الظاهر بيبرس، وتصبح مهمته الأولى القضاء عليه، ويتصل بجيوش الروم أبناء قومه، ويخبرهم بتحركات وخطط الظاهر بيبرس وقادة جيوش المسلمين للقضاء عليهم.
وهنا تتضح أهم سمات الشخصية الشريرة وأكثر ملامحها خطورة ألا وهي النفاق الذي يشخص الضعف الإنساني، ويستغله استغلالا مدمرا على المستوى الفردي وعلى المستوى الجمعي على السواء.
ويرتبط بالنفاق باعتباره رأس الشر ورأس الفساد كثير من السمات التي تؤكد هذه الصفة المقيتة وتعمق من تأثيرها، وتضم السير هذه الشخصيات الشريرة بهذه السمات أحيانا بشكل مباشر، و أحيانا بشكل غير مباشر.
فسعاد تدخل على جساس داعية له بطول العمر وعلو المكانة والنصر، وبذات الوقت تضمر له ولقومه الشر، وهي تمتدح كرامته وقوته، وتعمل على استغلال هذا الكرم والاستفادة منه لتبقى فترة أكبر في حماه حتى تستطيع أن تنفذ ما أسرته في نفسها، ثم بعد أن تتمكن منه تبدأ في زرع  بذور الفتنة والفساد بين أمراء بكر وتغلب، حتى يقع بينهما ما ترجوه، فيبدأ البكريون في الشكوى من معاملة التغلبيين لهم، وينسبون المعاملة السيئة التي يلقونها منهم لجور كليب و ظلمه, منذ أن قتل حسان اليماني, وبذلك يتهيأ جساس لأداء المهمة التي تدفعه إليها سعاد، حتى إذا أحكمت خطتها وانطلت حيلتها على الجميع، كان هذا نهاية وغاية ما تسعى إليه، إذ يقتل جساس كليباً، وينقلب أبناء العمومة والأصهار إلى أعداء دامت عداوتهم أربعين عاما من القتال.
وهذه قمرية في سيرة سيف بن ذي يزن «تتوسل بالخداع والنفاق، وتبكي بكاء شديدا وتتمسك بالخداع الذي يلين الحديد», وهي أمكر أهل زمانها محتالة خائنة لا تدخر وسعا ولا تترك وسيلة من أجل الوصول إلى هدفها، حتى ولو أدى الأمر بها إلى استخدام أنوثتها، والتفريط في عرضها، وهي تتقن فنون السحر والكهانة. وبختك بؤرة شر وفساد وكيد وعناد, يتصف بالدهاء والمكر والحسد, ويتقن فن المكر والخداع والاحتيال والغش، وهو يعتمد أساسا في تنفيذ مآربه على الغدر والخيانة، ولم يكن ابنه بختيار أقل شرا منه، بل يفوق أباه في حبه للشر وقدرته عليه, ولا يختلف (جوان) عن غيره من الشخصيات الشريرة، إن لم يزد عنها، فهو كما يقول المثل الشعبي (يأكل مع الديب ويسرح مع الغنم), أناني يرغب في دمار الجميع فلا عزيز لديه، ويمتلك قدرة رهيبة على التنكر و استخدام السحر والكهانة، وهو صاحب مكر وخداع، وكثير النفاق.
إذا نظرنا إلى الملامح الجسدية التي تميز الشخصيات الشريرة فإننا سنلاحظ أن المرأة الشريرة لابد أن تكون جميلة جدا، إذا كانت مازالت في شرخ الشباب، ويعد جمالها إحدى الوسائل التي تستخدمها لتنفيذ شرها إلى جانب السمات الخلقية الأخرى، أما إذا كانت قد تجاوزت سن الشباب، فإنها تصور كغيرها من الشخصيات الشريرة من الرجال، قبيحة ودميمة، كريهة المنظر مثيرة للاشمئزاز. فنجد (عقبة) دميم الخلقة مشوه الملامح, و(جوان) قبيح الشكل، أبطش المنخر، رفيع العنق، كبير الرأس، شنيع المنظر.
و تتفق الشخصيات الشريرة في السير الشعبية على أنها تجسيد كل ما هو قبيح و سيء ولا أخلاقي، وتبعث على الكره و الحقد وتسبب الألم و الحزن وتوقع الخراب والدمار.
ولا يقف الأمر في السير الشعبية عند حد تجسيد الشر معنويا أو خلقيا فحسب، بل يتجاوز ذلك إلى التجسيد المادي أيضا كما رأينا, فالشخصيات تجسد الشر كأن يكون الاسم أجنبيا غير عربي، أو يدل على دين يخالف دين الغالبية العظمى أو موصوفا بصفة أخرى شريرة تقدم بسمات جسمية ومادية متميزة، بالإضافة إلى أسمائها التي تحمل في طياتها دلائل الشر، إذا كان الاسم عربيا.
يختلف الشر في الحكايات الشعبية عنه في السير, إذ تبدو الشخصيات في الحكايات غير محددة الملامح أو السمات الجسدية في أغلب الأحيان، لكننا نستطيع أن نتعرف عليها من خلال الأسماء أو الصفات التي تحمل في طياتها الإشارة إلى السلوك الشرير الذي تتصف به، كالغول، والساحر، والعفريت، وزوجة الأب، وغير ذلك من الشخصيات التي تحفل بها الحكايات الشعبية.
إن العقلية الشعبية في صياغتها لمفاهيم الخير والشر وتجسيدها لهذه المفاهيم, وهي تتلاءم مع نمط العلاقات السائدة في المجتمع من ناحية، وبنيته الثقافية وأنساقه من ناحية أخرى، وتحملها من المضامين ما يتناغم مع هذا كله، حتى يتم لها إحداث التأثير المطلوب، وتحقيق الهدف الذي يريده المجتمع. ففي مجتمع يفتقد إلى العدل، ويستشري فيه النفاق والفساد، وتهدر فيه القيم الإنسانية العليا، أو يحرم فيه الفرد من تحقيق ذاته وتحرير نفسه، أو يشعر بالهزيمة والانكسار، وبعوامل الضعف تنخر في عظامه؛ يصبح البطل هو الذي يحقق العدالة المفقودة ويحارب الفساد الذي استشرى في جسد المجتمع، ويقضي على النفاق والمنافقين، ويعيد للمثل العليا احترامها وقيمتها، وهو الذي يعمل على تحرير الذات الفردية، وصياغتها من جديد لتتلاءم مع الذات الجمعية، وهو الذي يستثير عوامل القوة، ويستنهض الهمم، ويحقق النصر مع الجماعة وبها، ويصبح الشر بالضرورة النقيض لهذه المثاليات التي يمثلها أو يجسدها البطل، ويكون في مواجهة هذه الشخصية الشريرة، والقضاء عليها وعلى كل عوامل التخريب والشر التي تمثلها.
وتؤمن العقلية الشعبية بأنه لا يمكن أن يكون هناك خير كامل، ذلك أن هذا لو كان ممكنا حدوثه لما كانت هناك حاجة إلى بذل أي جهد، ولما كانت للفضيلة أي قيمة، ولفقدت القيم في الحياة معناها.
إن الشر قد ينتصر مرحلياً، سواء في السير الشعبية أو في الحكايات، فقد ينجح الشرير في أن يأخذ مكان شخصية أخرى، وأن يتزين بزيه، وأن يتنكر في صورته، مما يحقق له جزءا من خطته الشريرة في القضاء على الشخصية الأخرى التي تمثل الخير، لكن هذا الانتصار لا يدوم طويلاً فما تلبث الحيلة أن تنكشف، وعند إذ لابد أن يلقى الشر جزاءه.
وهنا ينبغي أن نشير إلى انتصار الخير, وهذا أمر مقرر منذ البداية، يعرفه الجميع ويتوقعه، ولكن هذا لا يقلل من تأثيره، فالصراع الدائم بين الخير والشر يقوم بوظيفة مهمة لا غنى عنها في الوجدان الشعبي, وخاصة إذا كانت التفصيلات والحيثيات الدائرة تخاطب الوجدان الشعبي, وقيمه الأخلاقية وموروثاته الثقافية, ويتطلع إلى آماله وآلامه, فالمستمع يشعر بأنه مشارك في السيرة، ويصبح متوحدا معها، مما يدفعه إلى شعور غامر بالسعادة, ويصبح مساعدا للبطل في القضاء على الشر، والتخلص من المعاناة، في حدود الإطار الفني الذي ترسمه الأشكال الفنية والأدبية في السير والحكايات الشعبية. 
إن انتصار الخير في النهاية إنما يعني في جوهره هزيمة كل النقائص والعيوب التي يعاني منها الإنسان, ويحاول جاهدا أن ينتصر عليها وأن يتخلص نفسيا منها إذا لم يكن في استطاعته الانتصار عليها في الحياة الواقعية وهو ما يستحدث دائما خلق نوع من التوازن النفسي بين ما هو كائن، وبين ما ينبغي أن يكون، في الثقافة الشعبية.
ومها يكن من أمر فلن تكون هناك -على المستوى الفني- عقدة درامية أو حبكة أو نمو وتصاعد للأحداث أو الشخصيات؛ دون وجود شر وأشرار، لما يؤديه الشر كمفهوم، والأشرار كسلوك، في البنية الفنية للسير، تماماً كما يحدث في الحياة الواقعية في أي مجتمع و في أي مكان.
فحيثما توجد حركة الحياة تتدافع أخلاق الناس ومصالحها وأعرافها فتختلف مصالح الناس وأخلاقها فيصبح الخير والشر جزءا من حركة الحياة اليومية.
ويبقى أن نشير إلى حقيقة مهمة تنبئ عنها السير الشعبية العربية، وهي أن الشر إنما يزدهر ويكبر، ويشتد تأثيره ويصبح أعمق في النفس عندما يضعف الفرد ويتدهور حال الجماعة, وخاصة إذا كان هذا الضعف في أخلاق الناس، عندها يمتد الشر ليطال سلوك معظم أبناء المجتمع، وعندئذ تحتاج الجماعة إلى بطل يعيد إليها أخلاقها ولحمتها من جديد.

pantoprazol 60mg pantoprazol yan etkileri pantoprazol iv
ذو صلة