مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

الفسيفساء .. فن التلاحم والملاحم

الفيسفساء أحد فنون الزخرفة التي تعطينا خلفية واضحة عن تجليات الحضارة الإسلامية في عصورها المزدهرة.. ذلك الفـن الذي اهتم بتفاصيل الأشياء والخوض في تلافيف أعماقها، نافذاً مـن خلال المواد الجامدة إلى معنى الحياة.. إنه فن التلاحم والتشابك.. فن الأساطير والملاحم الذي عبر في دلالاته عن أحوال أمة ذات حضارة قادت العالم إلى آفاق غير مسبوقة من العلم والفن والمعرفة، فاستطاع الفنان المسلم بأدواته الخلاقة أن يترجم لنا فلسفة هذه الحضارة بألوان متعددة من الفنون الجمالية الراقية التي يقف الفسيفساء في قمة هرمها متربعاً على عرش الصورة الفنية المتكاملة، عبر قطع مكعبة الشكل لا يتعدى حجمها سنتيمترات من الرخام أو الخزف القاشاني أو الزجاج أو القرميد أو البلور أو الصدف.

بداية هذا الفن
 تمثلت بداية الفسيفساء في نحت أشكال مختلفة من العاج والأصداف تم تثبيتها على سطح خشبي بمادة القار، وتطورت هذه الطريقة باستخدام قطع متعددة الأحجام من الطين المحروق التي كان يتم وضعها في قوالب حتى تجف ثم تحرق بالنار في أفران خاصة، وبعد ذلك تلون الأرضيات باللون الأزرق بينما تلون القطع التي تتكون منها الأشكال المختلفة بألوان أخرى، ويتم إدخالها الفرن مرة أخرى في درجات حرارة عالية لتصبح ذات ألوان مزجزجة، ثم يتم تركيبها جنباً إلى جنب لتكون مناظر مختلفة لموضوعات وأحاجٍ، منها ما يحكي ملحمة أو أسطورة أو معركة أو مناظر طبيعية للشمس والقمر، أو تكوينات نباتية ورسومات للحيوانات والأسماك والطيور.
 إن فن تشكيل الرسوم والمشاهد بالفسيفساء يعد إبداعاً فنياً ممتازاُ، وقد تطورت صناعة الفسيفساء بتوسيع دائرة المواد المستخدمة فيها، فأصبح يعتمد في مادته على قطع صغيرة من زجاج ملون وحصى ورخام وصلصال محروق ومصبوغ بما يشكل بلاطات قاشاني ملونة، تركب كلها وفق تصميم محدد بتثبيت القطع بعضها ببعض فوق الجص أو الأسمنت حسب تخطيط يقتدي به الفنان لتشكيل رسوم ومشاهد معينة. والأعمال الفنية المشكلة بالفسيفساء تتميز عن غيرها الملونة بالأصباغ أو الألوان العادية بقدرتها الكبيرة على الدوام والاستمرارية لقرون طويلة من الزمان، ومقاومتها عوامل القدم والاستهلاك والعوامل المناخية التي تؤدي إلى محو الرسوم العادية. لذلك واعتبارا لهذه القدرة الفائقة على المقاومة والتحمل، تستعمل الفسيفساء بوجه خاص في تجميل الطرق والجدران العريضة وأرضيات الغرف بالقصور والمعابد.
 ومن عصر إلى عصر احتل فن الفسيفساء مكانة بارزة في تزيين الجدران برسوم وزخارف متنوعة، وبرع في هذا المجال اليونانيون والرومان الذين انتقل إليهم هذا الفن أثناء حكم الأخمينيين للعراق في القرن السادس قبل الميلاد، حيث كانت تربطهم صلات وطيدة، وعندما احتل الرومان شمال أفريقيا أنشَؤوا في عدد من المدن الساحلية والداخلية بنايات فسيفسائية غاية في الروعة، مستفيدين من الإرث القرطاجي الفينيقي، فجسدت الفسيفساء الرومانية على الجدران المغربية معظم الأساطير والملاحم القديمة، وقد جرى الكشف عن منازل وبنايات وحمامات متعددة تضم مشاهد وزخارف شكلت بالفسيفساء، ومن بين هذه المواقع منازل ضخمة وفخمة اشتهرت بما تضمه غرفها من أعمال فنية رائعة قمة في الجمال والإبداع نذكر منها دار ديونزوس، والفصول الأربعة، ودار أورفي، ودار موكب فينوس، وقد حملت هذه المواقع تلك الأسماء نسبة إلى اللوحات الجميلة التي تميزها عن غيرها من الدور والمواقع.
وكان للعرب قبل الإسلام الفضل في هذا التطوير حيث استخدموا الألوان المائية في التلوين، وابتكروا أشكالاً زخرفية غير معهودة في تزيين القصور والمعابد.
والفسيفساء كلمة قديمة ومعروفة الآن باسم الموزاييك ولها مسميات عدة، وهي فن يعتمد على تجميع قطع صغيرة من البلاط القاشاني والزجاج بأحجام مختلفة وألوان مختلفة لتكوين تصميم جداري، كما يمكن أن تكون عبارة عن قطع صغيرة من الأحجار والرخام والجرانيت والبلور والخزف والأصداف والأخشاب تستخدم في تكسية واجهات المباني أو أعمال الزخرفة الداخلية والخارجية والأرضيات، وتتميز بثبات ألوانها وأشكالها لأنها مواد طبيعية، وهي تعتبر من أهم مواد البناء المستخدمة في عمل الديكورات وتزين المباني.

ارتباط الفسيفساء بالحضارة الإسلامية
وتعد الفسيفساء أحد فنون الزخرفة الجدارية الإسلامية التي تعطينا خلفية واضحة عن تجليات الحضارة الإسلامية في عصورها المزدهرة، ذلك الفن الذي اهتم بتفاصيل الأشياء، والخوض في تلافيف أعماقها، نافذاً من خلال المواد الجامدة إلى معنى الحياة.. إنه فن التلاحم والتشابك الذي عبر في دلالاته عن أحوال أمة ذات حضارة قادت العالم إلى آفاق غير مسبوقة من العلم والمعرفة، واستطاع الفنان المسلم بأدواته الخلاقة أن يترجم لنا فلسفة هذه الحضارة في ألوان متعددة من الفنون الجمالية الراقية، التي يقف الفسيفساء في قمة هرمها متربعاً على عرش الصورة الفنية المتكاملة، عبر قطع مكعبة الشكل لا يتعدى حجمها سنتيمترات من الرخام أو الزجاج أو القرميد أو البلور أو الصدف. وتخبرنا الآثار الإسلامية بفنونها المتعددة عن قدرات ومهارات الشخصية الإسلامية في تعاملها مع ذاتها داخل منظومة الالتزام من جهة، وتعاملها مع البيئة المحيطة داخل منظومة الحياة من جهة أخرى، حيث نرى انسجاماً لا مثيل له بين الرغبة الإنسانية التي تسعى إلى بلوغ الجمال وتحقيقه في جميع أوجه الحياة، مع احتفاظها بخصوصية المنهج والفكر، فراح الفنان المسلم يزين جوامعه ومساجده ويعطي بعداً آخر لحياته الإيمانية، ويرسم أبعاداً لطرق معيشته في بيته وشارعه، من خلال اهتمامه بأدق التفاصيل المكونة للبناء والأثاث بالكيفية التي تجعلها في أفضـل صورها مادياً ومعنوياً.
وبداخل معبد الوركاء في مدينة بابل تتجلى لنا الأعمال الأولى لفن الفسيفساء حيث كان العراقيون أول من استخدم الطوب المزجج في تزيين جدران الأبنية بأشـكال هندسية متعددة، وكان لهم الفضل في تطوير أساليبه من حيث المواد المستخدمة التي قاموا بتقليل أحجامها إلى أقل قدر ممكن حتى تتعدد ألوانه وتصبح الصور أكثر وضوحاً، إضافة إلى مهارة التشكيل وحرفية التركيب الذي أخرج أبدع لوحاته في باب عشتار وجدران شارع الموكب وقاعة العرش في بابل، ومنهم انتقل هذا الفن إلى أوروبا، حيث ذاع صيته واتخذ قوالب فنية جديدة.

مراكز أدوات الفسيفساء
 يعد القاشاني -الذي هو أحد مستلزمات الفسيفساء- من أفخر أنواع الخزف الملون التي تفنن المسلمون والعرب في صناعتها، ويكون على شكل بلاطات مربعة على الأغلب، وقد تكون مستطيلة أو سداسية أو مثلثية تنقش على كل منها موضوعات زخرفية متكررة أو أجزاء متقطعة فيكون مجموعها موضوعاً زخرفياً كبيراً متناسقاً، وترص البلاطات بجوار بعضها البعض، ويعود نسب أرقى أنواع بلاطات الخزف إلى مدينة قاشان التي اشتهرت بصناعاتها، وتتميز بدقة الرسوم الزخرفية عليها وتعدد ألوانها، ومنها أخذت هذه البلاطات تسميتها بالقاشاني، ويعد القاشاني من الفنون التطبيقية العريقة والسائدة التي ارتبطت بالعمارة الدينية على وجه الخصوص، وكان من أبرز العاملين في هذا المجال أبو القاسم عبدالله بن علي بن أبي طاهر القاشاني، الذي كتب رسالة تحدث فيها عن صناعة القاشاني، وهو واحد من كبار صناع الخزف في إيران، قام مع أسرته بصنع المحاريب الجميلة.
 وتتكون أشكال ألواح القاشاني في العادة من زخارف نباتية كبيرة ذات تفاصيل دقيقة تكون خلفية للكتابات البارزة باللون الأزرق الزهري، ويتميز القاشاني بالجمع بين الزخارف الكتابية ذات البريق المعدني الملون بالأزرق الفيروزي والأزرق الزهري، وتكون الزخارف بارزة أحياناً. لقد صنع القاشاني في جميع بقاع العالم الإسلامي والعربي وظهرت منه أنواع عدة، حيث برزت صناعته خلال العهد السلجوقي وذلك في القرن الحادي عشر للميلاد. وفي العهد الأيوبي ازدهرت صناعة القاشاني أو بلاطات الخزف في بلاد الشام، وقد برز الخزاف غيبي الشامي الذي ظهر في مصر أيضاً وترك في دمشق آثاراً رائعة في جامع التوريزي. بعد ذلك أصبحت مدينة أزنيك مركزاً مهماً لصناعة الخزف خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، ويقوم هذا الخزف على الرسم تحت الطلاء مع استخدام اللون الأزرق الزهري والفيروزي والأخضر والأصفر والأحمر البندوري، وهو من مميزات الخزف التركي في أزنيك كما في كسوة مسجد رستم باشا، أما بلاطات دمشق في العهد العثماني، فقد تميزت باستعمالها ألواناً وتقانات متميزة مع عدم استعمال اللون الأحمر البندوري والاكتفاء باللون الأزرق والأبيض.
 ومن بين مراكز صناعة خزف الفسيفساء المهمة مدينة (الري) الإيرانية الواقعة قرب طهران التي كانت تفخر بماض امتد زهاء أربعة قرون على الأقل، وقد بقيت بصعوبة بعد اجتياح جنكيز خان وهولاكو، كما ظهرت مراكز أخرى لهذا الفن مثل سلطان آباد، وصادة، وقاشان. وقد تابعت الري إنتاج الخزف ذي البريق المعدني من صفائح وأوان ذات خلفيات بيضاء وزرقاء، وتمت صناعة أجمل كسوة براقة مؤلفة من النجوم من إنتاج (قاشان) في القرن الثالث عشر، وكانت الزخرفة الكثيفة تتضمن غالب الأشكال الإنسانية والحيوانية، وتنتج الري وقاشان قطعاً ذات زخرفة ملونة تحت تغطية شفافة، ويبدو القاشاني ذو الألوان المحلاة ببقع الذهب من خصائص (قاشان)، على أن (صادة) و(الري) تنتجان منه أيضاً، وترجع إلى قاشان كذلك الأشغال الرائعة ذات النقوش البارزة المشكلة أو المقلوبة، وكانت سلطان أباد تمارس إنتاج هذه الأنواع المختلفة من القاشاني البراق والقاشاني الملون، والفخار ذوي النقوش البارزة.
 من جانب آخر فإن أعمال الفسيفساء في «قونية» العاصمة الرئيسة للمنطقة السلجوقية وصناعة الخزف المزجج، كانت متمركزة هناك، ومن المؤكد أن فن ترتيب البلاطات وصل أعلى درجات الكمال فيها، وكانت الألوان مقتصرة على الأزرق والأبيض والأسود، وكانت قطع البلاطات قد رتبت على شكل مكعبات ضخمة فسيفسائية لتشكل رسوماً متشابكة حادة الزوايا في الفن الإسلامي التركي، إلا أن فكرة الفسيفساء التي كانت رائجة عند السلاجقة اختفت حيث كان البلاط من لونين يقطع ويوضع جنباً إلى جنب، مشكلاً رسماً معيناً، وكذلك اختفت فكرة تناوب البلاط النجمي الشكل مع المثمن المزخرف بالطلاء اللامع التي جاء بها السلاجقة من بلاد فارس.
 وكان أهم مركز لإنتاج قاشاني الفسيفساء في تركيا هو بلدة (أسنك) وهي نفس البلدة البيزنطية (نيكابا)، ويبدو أن المصانع هناك كانت مهتمة بإنتاج الأواني والبلاط اهتماماً متعادلاً، إذ أن الأساليب الفنية في النوعين كانت متماثلة، وقسمت منتجات (أسنك) إلى ثلاث مجموعات رئيسة ومتوسطة ومتأخرة، وهذه الأخيرة أهمها على الإطلاق، وتدعى غالبا (الرودزية)، وتتميز بأسلوب فني جديد من الرسم تحت التزجيج، وبتنوع أكبر من الألوان خصوصاً استعمال ما يسمى (الطينة الأمرنية) التي كانت تعطي لوناً أحمر براقاً، وكان لها نتوء خفيف تحت التزجيج، كذلك أصبحت أزهار الخزامى أحد الموضوعات المفضلة عن أي موضوعات أخرى.
أما العصر الذهبي للفسيفساء فكان العصر البيزنطي لأن البيزنطيين أدخلوا في صناعته الزجاج والمعادن، وقد أبدع فيها المسلمون وطوروا هذا الفن وتفننوا به وصنعوا منه أشكالاً رائعة جداً في المساجد من خلال المآذن والقباب وفي القصور والنوافير والأحواض المائية...إلخ.

العودة الحديثة لهذا الفن
هذا الفن العريق عاد للظهور من جديد بصورة حديثة تواكب العصر ولعل أبرز ما دفع الناس للعودة إليه هو تلك الروعة التي يتحلى بها هذا الفن فضلاً عن أنه يمنحنا البحث دائماً عن التجديد في مناجم التراث القديم والحضارات القديمة التي مهما تطورنا وتقدمنا نحب بل نجبر أحياناً للعودة إليها، واليوم بدأ يظهر فن الفسيفساء في المنازل والقصور والأسواق الحديثة في أحواض السباحة في الحمامات وفي أشكال رائعة من اللوحات الجدارية الضخمة، حتى أصبحت الرسومات الجدارية تضفي للمباني روعة وجمالاً ولعل من أبرز الفنانين الأوائل الذين مازالت أعمالهم تنطق بانبهار لم ينل منه الزمن، ليناردوا دافنشي الذي تتجلى أعماله في متحف اللوفر بباريس بلوحة الموناليزا التي تعد أجمل وأغلى لوحة في العالم، وهناك غيره من الفنانين الأوائل أيضاً الذين أصبحت لوحاتهم تعرض وتباع بعشرات الملايين من الدولارات.

مدن الفسيفساء العربية.. متاحف مفتوحة
 من أشهر نماذج الفسيفساء الخلابة مدينة (ماديا) أو مدينة الفسيفساء التي تقع في جنوب العاصمة الأردنية عمّان ويرجع تاريخها إلى أكثر من 4500 عام، وتحوي أكبر وأندر مجموعات العالم من اللوحات الفسيفسائية، ومن أبرزها خريطة فلسطين القديمة في القرن السادس، التي تمتد من صور في الشمال إلى مصر في الجنوب، وتصور اللوحات الأخرى أشكالاً متعددة للزهور والطيور والحيوانات بالإضافة إلى مشاهد من الأعمال والحرف كالصيد والزراعة. وقد امتد اهتمام العرب بالفسيفساء بعد الإسلام، وأصبح لزخرفة الجدران حضور قوي في معظم المساجد والعمائر أثناء حكم الأمويين والعباسيين، وكذلك الدولة الفاطمية في مصر والأندلس، حيث شهد قفزة تطويرية كبيرة تمثلت في استخدام تربيعات البلاط والقاشاني لإبراز الأشكال الزخرفية وإعطائها بعداً أكثر تأثيراً من حيث اللون والبريق، وهو ما فتح الباب لاستخدام الفسيفساء في أشياء أخرى غير عمليات التزيين، مثل النافورات والحمامات والأرضيات. كما شهد العصر العباسي ظهور الفسيفساء الخزفي، الذي تجمع فيه قطع صغيرة الحجم مختلفة الأشكال من الخزف، حيث كان يتم تثبيتها على الجدران بواسطة الجص أو الملاط، أما الأندلسيون فأسسوا أول مصنع أو معمل لتصنيع وتصدير القاشاني إلى كثير من بلدان العالم في أوائل القرن العاشر الميلادي، وكان ذلك دليلاً واضحاً على مدى التقدم الذي وصل إليه فن الفسيفساء الذي لم يستطع أحد بعدهم مضاهاة ما أنجزوه.
 في مصر حفظت الفسطاط الكثير من فن الفسيفساء الذي ينتمي لأصول تقانية مختلفة، وبخاصة نماذج القاشاني ذات البريق المعدني، فمن المؤكد أن الفسيفساء والخزف كان مزدهراً جداً في مصر الفاطمية، فمدينة الفسطاط التي كانت تنتج القطع الجميلة جداً في عهد الطولونيين استمرت على إنتاجها، وقد أضيفت إلى هذه الصناعات المتمكنة الخاصة بالخزف البراق وأساليب أخرى، وكانت مصر قد أخذتها من العراق وإيران، كالخزف ذي الميناء المعروف باسم (كبر داسبكا) وأيضاً الخزف ذو الطلاء المنقوش تحت طلاء شفاف، أما في أفريقيا الإسلامية فيثير الفسيفساء الذي نجده في محراب المسجد الكبير في القيروان فرضية أن يكون مصدره العراق خصوصاً المجموعة الرائعة ذات البريق المعدني، أما الخزف الفارسي في القرون من العاشر إلى الثاني عشر فهو امتداد للفسيفساء في عصر العباسيين شأنه في ذلك شأن الزخرفة المعمارية المنحوتة بالجص في المغرب وبلاد الأندلس والمغرب العربي. وكشفت التقنيات في مدينة الزهراء عن كمية من الزجاجيات والفسيفساء وثمة قاشاني معاصر للخلافة، ويمثل الفسيفساء الأندلسي مشابهات أكيدة مع فسيفساء تونس فالزخرفة الملونة على الطلاء والمغشاة بالبرينق، لم تستعمل إلا اللون الأخضر والبني المنجنيزي، أما عن المشابهات الحيوانية فهي كثيرة، وكذلك الخزف المحجر والقاشاني ذوا البريق المعدني.

 قبة الصخرة وروعة العمارة
وفي فلسطين وعلى مدى 14 قرناً من الزمان منذ ظهور الإسلام نال القدس الشريف اهتمام المسلمين وعنايتهم من المباني المعمارية التي جمعت أرقى وأجمل ألوان الفنون، وقد استأثر الحرم القدسي بالنصيب الأكبر من هذا الاهتمام، ليصبح متحفاً مفتوحاً يحكي تاريخ الحضارة الإسلامية عبر عصورها المختلفة. ويجمع المؤرخون على أن قبة الصخرة التي شيدها الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان تعد من أجمل وأروع ما أفرزته العمارة الإسلامية، وليس أبلغ قولاً في ذلك من وصف المستشرق الإنجليزي (هايتر لويس) في كتابه الأماكن المقدسة: «إن مسجد الصخرة بلا شك من أجمل الأبنية المزركشة الموجودة فوق هذه البسيطة، لا بل أجمل الآثار التي خلدها التاريخ».
 ووسط ألوان الفنون التي ضمتها قبة الصخرة نقف في حالة من التـأمل أمام التكوينات الفسيفسائية التي تعطينا النموذج الدقيق للتطور الهائل الذي شهده هذا الفن في الحقب التاريخية، فتراه يغطي أجنحة وبواطن العقود ورقبة القبة من خلال فصوص صغيرة ومكعبات مختلفة من الزجاج الملون والأبيض الشفاف في تآلف وتشابك مع الأحجار الوردية وحبات الصدف. وتبلغ مساحة الفسيفساء في القبة أكثر من 1200 متر مربع من الجدران في الداخل والخارج، ويغلب عليها اللونين الذهبي والفضي إلى جانب الأزرق والأخضر بدرجاتها المختلفة، وتمر وسط هذه التكوينات كتابات لآيات القرآن الكريم بالخط الكوفي.. أما أشكال الفسيفساء فتصور مجموعات من أشجار النخيل بأغصانها المتفرعة وتتدلى منها قطوف البلح، وقد زخرفت بأشكال مستطيلة وبيضاوية وفصوص صغيرة تشبه حبات اللؤلؤ، وفي جهة أخرى تظهر دالية العنب ممتدة على بعض الأركان، وهناك منظر طبيعي يصور مزرعة من القصب، وتأتي لحظات إبداع الفنان لتضفي على الأشكال إيحاءات ودلالات أعمق من طبيعتها المادية، فتحيط بها أغصان النبات وأوراقه مرصعة بالجواهر، كنوع من الترف الشرقي المعهود لإبراز قيمة ورفعة شأن المكان.

مسجد قرطبة.. تراثنا الخالد
 في الأندلس العربية عندما زار شاعرنا الكبير محمد إقبال مسجد قرطبة في مطلع القرن العشرين، أراد أن يسجل حالة الانبهار التي اعترته أثناء مشاهدة هذا البناء العربي الإسلامي الفسيفسائي العريق، فأنشد قصيدة بعنوان (مسجد قرطبة) تضمنت أبياتاً تصف جمال الفسيفساء في المسجد، فقال:
 قصر التاريخ ومسجده               ما أروع ما صنعت يده
 للقوم بصدر حكايته                 صوت مـازال يـردده
 وكأن علائق زينته                    خفقات القلب ومعقـده
في الصخر فنون سرائرنا           بلطائفنا نتعهـده
 ليهيج رنين جوانبه                   بأنيـن الروح نزوده
 يا ظل الغرب ودوحته              من ذا تاريخـك يجحـده؟
 بل أضحت تربة أندلس            حرماً في الغرب نمجـده
 لا ند له في سـؤدده              إلا الإيمـان وسؤدده
 عربي اللحن حجازي              روح الإسلام تخلده
 يمنى العطر تهب بـه              أنسام الشـام وتحشده

 ولعل أبرز ما يميز مسجد قرطبة احتواؤه على مجموعات من الزخارف التي تنتمي إلى حضارات مختلفة منها الزخرفة العمانية والعثمانية والمملوكية والمغربية والمصرية الفرعونية والبيزنطية وزخرفة الفن المغولي وزخرفة آسيا الوسطى وزخرفة بلاد الحجاز والزخرفة الإسلامية المعاصرة، وتبدو الفسيفساء جلية في زخرفة القبة الثانية من قباب المسجد التي تكسوها بالكامل قشرة من أحجار الفسيفساء الذهبية، كما تمت زخرفة المصلى الرئيس بثمانية ملايين قطعة من الفسيفساء والرخام الأبيض والرخام الرمادي الغامق.. على أن أجمل ما في المسجد هو المحراب الذي أقيمت على واجهته سبعة عقود ثلاثية الفصوص مزججة دقيقة التكوين والزخرفة، يعلوها إفريزين بين بحرين من الفسيفساء المذهب على ألواح من الزجاج اللازوردي، وتحت هذه العقود إفريزان آخران تعلوهما رخامة مشبوكة محفورة منمقة تشبه القوقعة المقلوبة.

مبانٍ ومساجد مطرزة بالفسيفساء
خلاف ذلك هناك أيضاً على مرمى مساحة الوطن العربي والإسلامي عشرات وربما مئات المساجد والأبنية الفسيفسائية الخلابة التي لا يتسع المجال هنا للحديث عنها تفصيلاً، ونذكر منها الجامع الأموي في دمشق الذي جاءت فسيفساؤه تعبيراً حقيقياً عن طبيعة الحياة في ذلك العصر، وهناك قصر خربة المفجر الذي أنشأه هشام بن عبد الملك بالقرب من مدينة إريحا، الذي ظل مجهولاً لفترات طويلة إلى أن كشفت البحوث الأثرية تاريخ نشأته، وقد وجد بداخله حمام كسيت جميع جدارنه بالفسيفساء وحملت مواضيع زخرفية متعددة، من أبرزها تصوير لشجرة مثمرة من السفرجل يقف في يسارها غزالان يأكلان أوراقا نباتية، وفي اليمين صورة أسد يحاول الانقضاض على غزالة أخرى.. وتنوعت ألوان الفسيفساء من اللون الأخضر الفاتح إلى الأزرق المائل للخضرة يتداخل معها اللون الأحمر تعبيراً عن ثمار الأشجار.
إن الفسيفساء تراث عربي أصيل، وإذا كانت الدعوات والنداءات التي تطلق بين الفينة والأخرى للحفاظ على التراث، انطلقت من منطق أو تعبير «أن من لا تراث له لا حاضر له»، أو بعبارة أخرى «من لا ماضي له لا حاضر له».. فإنه يتبادر إلى الذهن تساؤل مفاده: ماذا يشمل التراث؟ هل يشمل قطاعات أو جانباً محدداً ؟ بالطبع لا.. فنحن العرب والمسلمين عامة أهل التراث وصانعوه، ولا يقتصر التراث على جانب محدد، فكل جانب من جوانب حياتنا يتضمن شيئاً من التراث، ونحن بشكل عام أصحاب مقالات تراثية وصناعات تراثية وآثار خالدة عجزت الأيام وستعجز عن محوها، وهذه المقالات والصناعات والآثار الخالدة وعلى رأسها الفسيفساء هي التي تعبر خير تعبير عن أصالة أمتنا وعراقتها وعمقها في التاريخ.

ذو صلة