مجلة شهرية - العدد (584)  | مايو 2025 م- ذو القعدة 1446 هـ

ثقافة الترفيه.. تأثيراتها الإيجابية والسلبية على الحضارة والقيم

تحول الترفيه مع مر الأزمنة حتى عصرنا الحالي من خانة الكماليات إلى قائمة الضروريات، وبات اللعب والتسلية بأنواعهما من الأمور الثابتة في حياة الناس، جعلوا لها البرامج المنتظمة، وحددوا لها الأوقات المتعددة، وباتت بعض مصنفات التسلية والترفيه عبارة عن طقس عالمي محدد بالدورات الزمنية أو مدناً للسياحة (ديزني لاند، مزلجات ثلجية، دورات رياضية ومهرجانات مختلفة).
الترفيه بين سلطة التدين وحرية الحركة
في البداية لابد من التنويه أن مفهوم الترفيه يختلف شكلاً ومضموناً بين المتقيد بتعاليم الإسلام والملتزم بها، وبين غيره من الكينونات الثقافية والمجتمعية والدينية الأخرى.
وضمن رؤيته التعبدية، يرى الأول أن التسلية والترفيه تتطلبان (وقت فراغ) وأن هذا المصطلح (وقت فراغ) غير ذي معنى عند المسلم الحق والذي لا تمُرُّ عليه دقيقة واحدةٌ دون شيء يؤديه: فإنْ لم يكن واجباً دينياً، فهناك واجبٌ دنيوي، وحتى في غيابهما فالسننُ كثيرةٌ، بدءاً من قيام الليل وانتهاءً بالتفكر في خلق السموات والأرض. وعلى أساس هذا يخلص إلى أن (الفراغ المُشتكى) منه اليوم إنما هو خواءٌ روحي وقلبي وعقلي ونفسي، وهو نتاج طبيعي لابتعاد الناس عن طاعة الله وعن إحياء شعائر الدين وعن مجاهدة النفس بما يضمن لها الجنة.
بالمقابل، يرى الشق الآخر أن صيرورة الحياة وضغطها المتواصل ما فتئا يسببان رهقاً صحياً ونفسياً، لذا بدأت أغلب الشعوب والدول في الاستثمار لرفع هذا الكلل والملل ضمن إستراتيجيات صحية وثقافية ورياضية تتنوع بتنوع مصادر الدول والأفراد،
فقد تنبه الغرب، بعيد الحرب العالمية الثانية، إلى مشكلة الفراغ، فتم إنشاء علم بحاله سُمي بـ(علم الفراغ)، وهو فرعٌ من فروع علم الاجتماع. وهذا العلم يعتنون فيه بالأنشطة الترويحية والترفيهية، يحاولون فيه إيجاد أنواعٍ من اللهو والترفيه تعمل على تنمية المواهب في الأشخاص، وزيادة الطاقة الإنتاجية في المجتمع. وقام الباحثون المنتمون إلى ذلك العلم بدراسات حول أرجاء العالم لتحديد حجم هذه المشكلة، فتوصلوا إلى نتائج مخيفة في هذا الشأن ففي مقارنة بين أوقات الفراغ ونسبة أوقات الإنتاج في حياة الإنسان في المئة والثلاثين عاماً الأخيرة، بينت الإحصائيات أنه في عام 1875م أن نسبة وقت الفراغ في حياة الإنسان تبلغ 7.8 % وأما نسبة وقت العمل الإنتاجي في حياته تناهز 26 %.
وفي عام 1950م، ارتفعت نسبة وقت الفراغ في حياة الإنسان إلى 20.7 % وانخفضت نسبة وقت العمل الإنتاجي في حياته إلى 15 % فقط. وفي بداية الألفية الثانية ميلادية، صارت نسبة أوقات الفراغ في حياة الإنسان العادي27 %، وانخفضت بالمقابل نسبة أوقات العمل الإنتاجي فيها إلى 8 % تقريباً.
خلاصة القول إن أوقات الفراغ في ازدياد، وأوقات الإنتاج في انخفاض، بحساب زيادة أربع ساعات أسبوعياً كوقت فراغ (نتيجة الإمضاء على عدد من المعاهدات والمواثيق الدولية الخاصة بالحريات وبالحقوق الشغلية والنقابية والإنسانية وكذا حقوق الطفل والمرأة...).
وفي دراسة أخرى أُجْرِيت على أربع دول عربية: الإمارات، وتونس، والسودان، وموريتانيا، وجد أن وقت الفراغ عند الطلاب في أيام الدارسة من ثلاث إلى أربع ساعات يومياً، وتسع ساعات في الإجازات.
الترفيه صناعة وثقافة.. التأثير الثقافي والفكري
كتب جورج جيبرنر في مجلة سينتفيك أمريكان سنة 1972: (إن بنية الثقافة الشعبية التي تربط عناصر الوجود بعضها ببعض وتشكل الوعي العام بما هو كائن، بما هو مهم وما هو حق، وماهو مرتبط بأي شيء آخر، هذه البنية أصبحت في الوقت الحاضر منتجاً يتم تصنيعه).
فمع التطور التكنولوجي السريع الذي شهده العالم الآن، واستجابة لحاجة ملء وقت الفراغ عند الناس، طوع أهل المال المفكرين لابتكار برامج ترفيهية من رحم ثقافات الشعوب ومن غير ذلك (الصولجان، القولف، ملاهي القمار، ألعاب تلفزية فكرية...). وأصبحت صناعة التسلية والترفيه صناعة مؤسسة على علوم ونظريات وإستراتيجيات، تؤثر ثقافياً واقتصادياً واجتماعياً على كل الشعوب تقريباً، وذلك في خضم عولمة الاقتصاديات وانفتاح الشعوب على بعضها.
نشطت المعامل الأمريكية في (ماديسون سكوير) و(هوليوود) في مأسسة عالم من الخيال المصنوع، وبرزت شركات كبرى متعددة الجنسيات تنتج وتوزع الصناعات الترفيهية في كل أصقاع العالم. وباتت في أغلب الأحيان تساعد على تشكيل وعي جديد لدى المقبلين عليها. وعي تراكمي بحكم الطرق على الذوائق، فالعنف الذي غزا الصور المتحركة ولد عنفاً كبيراً لدى شرائح كبيرة من الأطفال، وبقدر ما ساهمت ثقافة الانفتاح على شحذ معاني قبول الآخر، إلا أن بعضاً من التفسخ طغى أيضاً على أجيال متتالية، زادت رداءة المادة التعليمية والظروف الاجتماعية والاقتصادية من استفحاله. ولعل هذه الفئات العمرية المعنية بالحديث هي التي تمثل اليوم العامود الفقري لحركات العنف والجريمة والإرهاب الدولية بحكم الفراغ الهووي والانبتات الثقافي والخواء العائلي.
تطور وسائل التسلية (الألعاب الإلكترونية نموذجاً)
أول ظهور للألعاب الإلكترونية كان في بداية الثمانينات من القرن الماضي في الولايات المتحدة ثم انتشرت في العالم خلال التسعينات. وبعد ظهور الهواتف الذكية، انتشرت الألعاب بشكل سرطاني بين الناس كأحد الحلول العملية لملء وقت الفراغ. وتؤكد أغلب الدراسات أن التأثيرات الهدامة لهذه الألعاب تبدأ عند الأطفال خاصة بنشوء سلوكيات جديدة ليس أقلها الانسحاب التدريجي من الحياة العامة وانقطاع المدمن على هذه الألعاب عن محيطة العائلي وبيئته الاجتماعية. وهنا تتمظهر المفارقة العجيبة، بمعنى أن العولمة التي جاءت لتفتح الحضارات والأسواق والمجتمعات على بعضها، صارت سبباً مباشراً في التقوقع الفردي والانكفاء على الذات.
تشترك الألعاب جميعها في موضوع صناعة الرموز الوهمية عند الناس، وتبدأ هذه العملية عند الأطفال، وتستمر بشكل تراكمي عبر مراحل، تتشابك خلالها السينما وأفلام الكرتون والألعاب الإلكترونية، كما أن قسماً كبيراً من هذه الألعاب تحرض على العنف مباشرة (بشكل ترفيهي، لا واع) مثل لعبة (كلاش أوف كلانز)، وبعض الألعاب التي جرى تصميمها لخدمة فكرة صراع الحضارات لصامويل هنتغتون، مثل: لعبة (الإمبراطورية والممالك الأربعة)، التي هي لعبة حرب على شكل العصور الإقطاعية ويجري تشكيل تحالفاتها تفاعلياً عبر النت، على شكل: حلف الشرق الأوسط ضد الحلف التركي! وهنا تسقط الحيادية وتمرر (لا أيديولوجياً) أيضاً لتدخل هذه الألعاب في خدمة تعزيز وسيادة وضع راهن أريد لمستعملي اللعبة أن يتبنوها وهي عبارة عن عملية غسيل مخ إرادية،
خاتمة
حاجة الإنسان وخاصة العامل إلى الاستراحة بعد قضاء يومٍ شاقّ أكيدة، فما نبذله من طاقة يستدعي الحصول على قسطٍ من الرّاحة، وقضاء بعض الوقت في التّرفيه والتّسلية لتجديد خلايا الروح وبعث طاقاتها من جديد لطرد الملل الذي يسببه الروتين ورتابة الحياة، وكما يقال تكلّ وتملّ كما تكلّ وتملّ الأبدان. فتكرار بعض الأعمال يجعل النّفس تسأم من أدائها وتفتر العزائم أحياناً وتضيق الأمزجة. لذا، كان لابد أن يخصّص الإنسان وقتاً يرفّه فيه عن نفسه بالذّهاب إلى أماكن التّنزه والحدائق، أو ممارسة الألعاب الرّياضيّة، حتى تستعيد النفس طاقتها، وتصبح مستعدّةً للعودة من جديد لأداء نفس الحركات والأعمال.
إنّ التّرفيه عن النفس من خلال الالتقاء بالنّاس والتّحدّث معهم يساهم في تعظيم الجانب الإيجابيّ في المعاني الإنسانيّة، ومحاصرة الجانب السّلبيّ فيها، خاصّةً عندما يلتقي الإنسان بأناس وأصدقاء إيجابييّن يبثّون في نفسه معاني الحبّ والجمال والتّسامح، ليعود بعد لقائه معهم إنساناً جديداً ممتلئاً بالطّاقة والرّوح المعنويّة، ويقبل على عمله بحبّ. وقد أكدت الدراسات النفسية والاجتماعية الخاصة بميدان الشغل على أهميّة ومعنى التّرفيه عن النّفس، فالضّحك على سبيل المثال يحفّز هرمونات السّعادة التي تعدّ دافعاً قويّاً للإنسان في الحياة، كما أنّ ممارسة الرّياضة كذلك من وسائل تجديد النّفس وإسعادها من خلال ما يفرز الجسم من هرمونات أثناء ممارسة النّشاط البدنيّ، بل إنّ كثيراً من الأطبّاء النّفسيّين يوجّهون من يعاني من القلق والتّوتر أو الاكتئاب إلى ممارسة الرّياضة كعلاج للحالة النّفسيّة المتردّية. وسائل للتّرفيه وأخيراً يجب أن نتحدّث عن بعض الوسائل التي تعين الإنسان على التّرفيه عن النّفس وتجديد الطّاقة للعمل، فالسّفر أيضاً وتغيير جغرافية الحياة يمكنان من استعادة الراحة النفسية والاختلاط الإيجابي بمكونات اجتماعية أخرى، ومن ثم توسيع دائرة المعارف بكل أنواعها.

ذو صلة