يرى البعض أن الثقافة هي التعليم والتربية الاجتماعية والذاكرة والإرث التاريخي والفهم الأولي لمتطلبات الحياة بفروعها الكثيرة، فكل شيء يقع في باب الثقافة، وليست الثقافة الصرف هي المعيار الأخير للأمم والشعوب. فالزراعة ثقافة والعلم ثقافة والصحة ثقافة والفلك ثقافة والرياضة ثقافة والأخلاق ثقافة أيضاً.
حتى اللغة والسلوكيات والنشاطات اليومية التي يمارسها الإنسان تعد ثقافة.
ولعل من أهم هذه النشاطات نشاط المرح والترفيه، وهو ثقافة تعنى بالجماعة أكثر من عنايتها بالفرد، لكنها تنطلق من ذائقة الفرد ووعيه وانسجامه مع روح الجماعة في مكان ما وزمن ما وحالة ما.
فالترفيه في أبسط معانيه هو: السعة، الفسحة، الانبساط، إزالة التعب والمشقة، إدخال السرور على النفس، الانتقال من حال إلى حال آخر أكثر تشويقاً منه.. ونحو ذلك؛ لأجل تحقيق توازن بين متطلبات الكائن البشري الروحية، العقلية، وحتى البدنية.
ولا تقتصر ثقافة الترفيه على أمة أو جماعة أو منطقة أو شعب بعينه، فالجميع في هذا العصر المخيف بآلياته العلمية والتكنولوجية يبحثون عن ثقافة الترفيه، هرباً من يوميات الآلة وضغط الحياة ومتطلبات الأسرة. فالإنسان يحتاج في أوقات كثيرة أن يتأمل ذاته ويرى المحيط من حوله بعين أخرى هي عين الترفيه الذي يحمل في ثناياه ثقافة الحياة الجديدة بمعانيها العريضة.
تاريخياً مارست الشعوب طقوساً كثيرة من الترفيه والتسلية وإشاعة ثقافاتها المجتمعية لأغراض شتى ليس أقلها الخروج من مألوفية التوتر اليومي والعمل المستمر.
فتعددت أشكال الترفيه وطقوسه بتعدد الشعوب وتغير نظمها البيئية والاجتماعية.
فنجد مثلاً:
- الرقص والموسيقى: يعتبر الرقص والاستماع إلى الموسيقى أحد الوسائل التي يتبعها الكثير من أجل التخلص من الإجهاد النفسي والعقلي، وهو نوع من أنواع التسلية والترفيه عن النفس لديهم. ففي مصر القديمة مثلاً لعب الرقص دوراً واضحاً في إشاعة ثقافة لها سمات طقوسية واجتماعية ودينية في مناسبات محددة. وجل الشعوب الأفريقية وعلى مدار تواريخها المتعاقبة انسجمت مع هذا اللون من الثقافة وأشاعته في غاباتها وقراها، وكذلك الإنسان القديم كان هو الآخر قريباً من هذا، وقد ترك لنا آثاراً صورية ورسومات بدائية تعبر عن حاجته إلى ثقافة الترفيه في الرقص والغناء والطرب.
- الكوميديا: تتميز الكوميديا بقدرتها الكبيرة على تسلية الناس بمختلف الأعمار والفئات، وإدخال السرور والفرح إلى قلوبهم، وهذا ما يسعى إليه الكثير في أوقات فراغهم.
- الرسوم الهزلية: الكثير يفضلون إما البحث عن الصور الهزلية أو ما تسمى بالكاريكاتير من أجل الضحك والتسلية، والبعض الآخر لديه هواية رسمها كنوع من أنواع الفنون الترفيهية، والهدف منها ليس فقط تسلية المشاهد، وإنما إيصال فكرة اجتماعية معينة من أجل رفع مستوى الوعي الاجتماعي عند الناس، وذلك من خلال مناقشة قضية اجتماعية معينة.
- الرسوم المتحركة: البعض يعتقد بأن مشاهدة الرسوم المتحركة تحقق لهم أعلى درجة من الترفيه، وغالباً ما يفضل الأطفال مشاهدة هذه البرامج.
- السينما والمسرح: يجد البعض في هذه الشكل النموذج الأفضل للحصول على التسلية المطلوبة.
- شبكة الإنترنت: وهي ثقافة شاملة تتوافر على المفيد والرائع لجميع الشرائح ولا تقتصر على مجتمع أو وطن أو جهة ما، لذلك نرى أن فضائل الإنترنت أكثر من مساوئه، وهو بحق لغة العصر وثقافته العملية والترفيهية في آن واحد. وما انتشار مقاهي الإنترنت في كل مكان إلا دليل على حضوره المُلحّ في الحياة اليومية، فغريزة المعرفة أزلية لدى كل إنسان وأينما كان.
- الرياضة: وما لها من فائدة عظيمة في خدمة الجسم والعقل، وبالتالي إكساب النفس راحة وترويحاً، ومرحاً ينعش الروح. وما فيها من متعة اللعب. كما روي عن عائشة- رضي الله عنها- أنها كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر قالت: فسابقته فسبقته على رجلي، فلما حملت اللحم، سابقته فسبقني فقال: (هذه بتلك) رواه أبو داود.
- القراءة: يلجأ العديد من الناس وبخاصة المثقفون إلى قراءة الكتب والمجلات كنوع من أنواع الترفيه، فهم يجدون في الحصول على المعلومات أفضل وسائل التسلية.
فنجد أن هذه الطقوس الترفيهية تختلف باختلاف أذواق الناس الذين يمارسونها.
إذاً فالترفيه هو نشاط نمارسه ونبدع فيه، أي هو صناعة نطورها حسب قدراتنا على الممارسة، فتتولد ثقافات مختلفة المناشئ. وعبر تطور الحياة الاقتصادية والاجتماعية وحتى الصناعية للفرد يصبح نِتاج ثقافة شعبية، كما يعرفها عالم الاجتماع الفرنسي ميشال دوسرتو (ثقافة الترفيه هي ثقافة الناس الاعتياديين، أي ثقافة تصنع يوماً بيوم، من خلال الأنشطة العادية والمتجددة).
وهذا ما شاهدناه في المجتمعات المتطورة، بل حتى غير المتطورة منها، حيث أقبلت على هذه الصناعة وأعدتها جزءاً من برامجها.
لهذا صار هذا النوع من الثقافة في موقع الرصد الإعلامي والنفسي أيضاً، إذ تعددت منافذه وتوالت المشروعات التجارية والاقتصادية لترسيخ هذا اللون من الحياة العامة. وباتت الحكومات تصرف الملايين من الدولارات في سبيل تثبيت هذه القناعة الاجتماعية بين الشعوب، في جانب منها إرضاء الأفراد وتقبل متطلباتهم اليومية المختلفة.
وخير مثال على ذلك الولايات المتحدة الأمريكية التي تشغّل حالياً أكثر من 3 ملايين شخص في صناعة الترفيه والتسلية، كما تنفق 60 مليار دولار على هذه الصناعة.
أما في الوطن العربي فيقدر حجم سوق الترفيه والتسلية بما يقارب 10 مليارات دولار سنوياً، وهو رقم مرشح للتصاعد بحسب تقرير نشرته (برايسوتر هاوس كوبرز إل إل بي) لعام 2015م.
إذاً فالترفيه والترويح عن النفس يعتبران ثقافة نصنعها، ونبدع ونتفنن في ممارسة طقوسها. وهو ليس مضيعة للوقت كما يراه البعض، وإنما جزء مهم للبناء التربوي والاجتماعي للإنسان، وعامل مهم في صناعة البيئة الاجتماعية والثقافية وحتى الاقتصادية لكل الدول.