مجلة شهرية - العدد (584)  | مايو 2025 م- ذو القعدة 1446 هـ

الترفيه والترويح دلالات إمكانية الحياة

الإنسان ثنائي التكوين، الروح والجسد، ولكل من هذين المكونين متطلبات تختلف عن الآخر، لكنها تتكامل لتحقق له حداً ما من التواؤم مع الحياة في معناها الكبير، الحياة بكل تحدياتها وما تشكله عناصرها ومفاهيمها عند الفرد، كل كما يعتقد. فمثلاً نجد عند أصحاب الأديان أن حواء وجدت لتُسري عن آدم وحدته في الجنة، وتؤنس روحه البائسة، المؤانسة هنا نوع من الترويح عنه.
وأنا أجد أن كلمة ترويح أقرب للمعنى الذي نتحدث عنه من كلمة ترفيه، فالترويح يكون للسمو بالروح من مرحلة إلى أخرى، تشعر بعدها بالراحة والسعادة، مما يجعل التعايش مع التحديات ممكناً، بل يسهم في تجاوزنا لتلك التحديات وحل العصي من المشكلات الحياتية، وقد مرت البشرية بأشكال مختلفة ووسائل متعددة يروح بها الإنسان عن نفسه بدءاً من أبي البشر آدم الذي روحت عنه حواؤه إلى الإنسان الأول الذي رسم على جدران الكهوف ليوصل رسالة ما، أو ليروح عن نفسه التي أثقلها اكتشاف سبل الحياة. كما اهتمت الأديان بالنفس والترويح عنها، فكان التسامح عند المسيح عليه السلام والترفع عن المشكلات هو نوع سامٍ من أنواع تربية النفس والترويح عنها، وتمت ترجمته بسلوكه وسط أقرانه حين كان يقضي معهم الوقت مُروحاً عن نفسه، يحكي لهم عما في بيوتهم ويأتيهم بالمعجزات، ومن خلال ذلك بث رسالته المقدسة. وفي الإسلام سن لنا الله عيدين نحتفل فيهما بشعائرنا التي تقربنا بها إلى الله ارتقاء بأرواحنا، ففيهما أُجيز لنا السمر واللعب والطيب من القول والفعل، ولعل الحديث عن أن النبي صلى الله عليه وسلم ساعد عائشة رضي الله عنها كي تستطيع مشاهدة رقصات الأحباش في العيد دليل على ذلك.
تطور الإنسان وتعددت سبل عيشه لكن الترويح ظل دوماً ملازماً له، وكلما شق واجبه في الحياة ودوره كلما كانت وسيلته في الترويح عن نفسه مبتكرة وجديدة، توازي وتتناسب طردياً مع ما يبذله من جهد. نجد أن للمزارعين في السودان طريقة ومواعيد محددة للترويح عن أنفسهم خلال اليوم، فنجد (الضحوية)، وهي الوقت الذي يستريحون فيه ويأخذون فيه وجبتهم ويشربون قهوتهم ويروحون عن أنفسهم بما يتوافر لهم من وسائل كراديو وخلافه، بعد جهد بُذل في تسوية الأرض وبذر البذور ومتابعة أعمالهم المختلفة. في الأسبوع نجد أن الجمعة عيد، وللمواسم أعيادها يحتفلون فيها بنظم الشعر والغناء والرقص والتباري في ذلك، كمواسم الحصاد والهيوب أول الطلع من ثمار المحصول، أما الرعاة فيحملون مزاميرهم لتؤنس وحشة فلاتهم العظيمة، يعزفون بها ألحاناً وأشجاناً جميلة تفهمها السعية التي يرعونها، بل يصل التناغم ما بين سبل العيش ووسيلة الترويح لتصنع نمطاً حياتياً يختلف عنهما إن كانا منعزلين، نمط حياتي يرتقي بالإنسان إلى المدارج العليا.
في وقتنا الراهن كان الترويح من أهم ما عملت عليه ثورة الرأسمال، وقد عملت عليه في محورين، المحور الأول في كيفية استغلال كل الطاقة التي ينتجها الفرد في مجتمعه، ووجد أنه لتستخرج طاقة الفرد ويكون مبدعاً وخلاقاً يجب أن تتاح له سبل الترويح عن نفسه ووسائل ذلك الترويح، فعملت على إنتاجها وتبارت في خلق وتوقع ما يدهش الفرد العامل، طورت ملكاته الأصيلة، كالرسم والحكي الشفاهي والكتابة بالرموز، ونظم الشعر والرقص، وفنون القتال والدفاع عن النفس، وطورت كل تلك الملكات البدائية، وأطلقت عليها الحديث من المسميات كالفن التشكيلي، فنون السرد، الأغنيات الملحنة، والرقص المنظم، الرياضات التي لا تعد ولا تحصى، بل تم دمج بعض تلك الملكات المتباينة لإنتاج فن حديث مختلف كالمسرح والسينما، وتطلب هذا تخصيص أماكن محددة ومواصفات معينة تدرس عبر مناهج للذين يرغبون في العمل في صناعة الترويح.
هكذا نكون قد أسهمنا في إضاءة هذا المبحث بأشكاله البدائية والحديثة وضرورة وجوده في حياة الفرد جنباً للجنب مع ضروريات الحياة المختلفة كالأكل والشرب والسكن.. إلخ.
ونجد أن بعضاً من هذه الوسائل صار يستشرف ما سيكون غداً أو بعد عشرة أعوام، ويمضي أبعد من ذلك إلى تشكيل وعينا لاستقبال القادم وفقاً لرؤية مرسل الرسالة عبر وسيلة الترويح المحددة.
في الماضي أنتجت كل فئة عمرية وسيلة ترويحها عن نفسها حسبما تقتضي حاجتها وبيئتها، الأطفال يلعبون في جماعات تجمعهم ميولهم وقدراتهم، الفتيات يروحن عن أنفسهن بتعلم فنون الخياطة والتطريز أو الأعمال اليدوية المتميزة والتي بدورها ترتبط بالموارد المتوافرة حولهن، هكذا يدخل الترويح المتباين في اقتصاديات المجتمعات التي تنتجه وتستهلكه.
كما أن الترويح في سموه بالنفس يحفظ لها توازنها ويبعدها من مخاطر الوقوع في الكبت الذي يتراكم وينتج براكين يسبب انفجارها دماراً شاملاً، لكن مع ذلك يجب ألا نكون مستهلكين لكل ما يقدم لنا عبر وسائل الترويح المختلفة، بل يجب أن ننتجها حسبما نعتقد ونفكر، إن لم نستطع إنتاج وسائل ترويحنا، وجب علينا تحليل ما يقدم لنا من رسائل والتعامل معها بحكمة ودراية وقدرة على استخلاص الجيد الذي نريده منها ولفظ السيئ الذي لا يوافقنا، وكثيراً ما نجد أن سمها خلط مع دسمها.

ذو صلة