مجلة شهرية - العدد (591)  | ديسمبر 2025 م- جمادى الثانية 1447 هـ

محروس الهاجري.. صوت من البحر

غدار أعرفك يا بحر
ضحكة أمواجك تسل سيوف
تطعن في الظهر
تغوص في صدر الخليج
فوق الشواطي صرخة للنهام
غبنات وقهر
خذ يا بحر كل ما تبي اللولو
والمرجان والثوب الحرير
كل الحلي صارت رماد فدوه لعيون السندباد
فدوه لكم يا عيون هلي
خذ يا بحر كل ما تبي بس يرجع
المحبوب طول في السفر
هذه الكلمات شدا بها صوت خارج من أعماق البحر، صوت امتزج بملوحة الماء ليكون القاسم المشترك في غالبية أغانيه، ليذيقنا ملوحة البحر عذوبة بصوته.. محروس الهاجري.. صوت البحر، ونشيد أمواجه بامتياز، ألم يقل في أغنية خليجية «غرفنا من البحر لونه... لوَّنا أمانينا... وغنينا وغنينا... خلينا العرايس في البحر تعشق أغانينا.. تغنيها لكل الناس.. للبحار للغواص». حالة من التماهي مع البحر جعلته يلون حتى الأماني بملوحته؛ بل حتى في أغنية (مات النخل) وهو يغني لمكان نقيض للبحر ليتقمص صوت الفلاح وهو يرثي حال النخلة.
نجد البحر حاضرا عنده حين يقول «آسف يا ريف تعطش والبحر يشرب.. آسف يا دود تشبع والنخل يجوع»، علاقة مع البحر قلما تتكرر في تجربة فنان وهو هنا لا يقدم مفردة البحر لمجرد أن تكون حاضرة أو يبحث عنها، بالأحرى بين كلمات الشعراء لعلاقة خاصة بقدر ما فيها من إحساس المكان وعبقه كمفرد لها بالوجدان صدى، لتكون الأغنية عند محروس الهاجري أشبه بحالة الولادة حينما يأخذ المولود الكثير من سمات الجذر، أي بمعنى آخر أن محروس الهاجري يغني ليس لمجرد الغناء، وإنما ليخرج من داخلنا كل الحكايات الساكنة في أعماقنا، التي تعيش حالة ولادة مستمرة، تذكرنا دائما بأن الصوت والنص فيه الكثير من ملامحنا لنغني معه «غدار أعرفك يا بحر ضحكة أمواجك تسل سيوف تطعن في الظهر».. أو أغنية (مات النخل) : «ما فيه أحد في هالبلد كل رحل الأرض بيعت والمنابع جفت ومات النخل..».
محروس الهاجري صوت ربما لو استمر في الغناء بظرف أفضل لأصبح علامة بارزة في خارطة الغناء الخليجي، وربما العربي، ومن هنا كان هذا اللقاء مع  تجربة قدر لها أن تتوقف حتى إشعار آخر؛ ليبدو خليطاً من الحنين للعودة للغناء، واستذكار للتجربة التي كانت تحمل ملامح المكان واضحة، ليأتي هذا اللقاء مليئاً بعبق المكان في عفوية لرائعة صوت البحر أو قل بالسهل الممتنع فيها.
غدار يا بحر .. والانطلاقة الفعلية
- لو حدثتنا قليلا عن بداية تجربتك مع الغناء كيف كانت؟ 
• بدأت تجربتي مع لقائي بالملحن عبدالرحمن الحمد والشاعر جواد الشيخ في أواخر عام 1975م، حيث كنت الانطلاقة في بداية 1976م مع أغنية «بعدك حبيب»، وأغنية «حبينا ياليل»، من ألحان عبدالرحمن الحمد، وأغنيتين كانت من ألحاني، لكن الانتشار كان مع مجموعة من الأغاني الإنسانية التي كانت تحكي قصة معاناة الإنسان، لذا كانت الانطلاقة الحقيقية في نظري مع أغنية «غدار يا بحر»، للشاعر جواد الشيخ وألحان عبدالرحمن الحمد.
- ما السبب -في رأيك- الذي جعل من أغنية إنسانية جادة  كأغنية «غدار يا بحر» تكون البطاقة التعريفية بمحروس الهاجري، كون الدارج في الغالب أن الأغنية العاطفية هي من تعرف بالمغني؟
• لا تستطيع أن تصفها بأنها ليست عاطفية؛ بل هي عاطفية إنسانية، تعتمد على الصدق، كونها تنطلق من الحياة نفسها، فأنت لو غصت في داخل الكلمة وجدتها تتحدث عن معاناة إنسانة تنتظر حبيبها العائد من محيط البحر، إضافة إلى أن معاناة البحارة مع البحر كونهم يغيبون فترة طويلة، وعند قرب وصولهم إلى الشاطئ يخرج محبوهم لملاقاتهم.
 - هل توقعت نجاح هذا اللون الذي يبدو جديدا على الأغنية السعودية في أغنية «غدار يا بحر»؟
• نعم توقعت ذلك لأني كنت ألمس تأثيرها الشديد على من حولي حينما كنت أغنيها في الجلسات الخاصة والحفلات العامة سواء كان ذلك على المستوى الإقليمي أو خارج الإقليم، وبالرغم خصوصية اللهجة وجدت  العمل يصل وبقوة للمتلقي.
ومن المواقف الطريفة التي حصلت لنا في بداية  انتشار أغنية غدار يا بحر أننا كنا في الرياض أنا وملحن  الأغنية الأستاذ عبدالرحمن الحمد وكاتبها الشاعر جواد الشيخ، حيث وجدنا لافتة على باب أحد محلات بيع الكاسيت مكتوب عليها «لدينا أغنية محروس الهاجري غدار يا بحر»، وحينما دخلنا المحل وطلبنا الشريط، قال لنا صاحب المحل سجلوا أسماءكم وراجعونا بعد أسبوع، وهذا الموقف تكرر لنا  في أكثر من محل.
البيئة لها تأثير على لون الفنان
-  بمن كان تأثرك  خصوصاً وأن بدايتك كانت بثوب جديد إلى حد ما؟
• تأثري كان انتماء للبيئة والمحيط الذي نشأت فيه، لكن هذا لا يمنع أنه كان لي تأثر بالأغنية العراقية والخليجية واليمنية وغيرها في الوطن العربي، نحن في المنطقة الشرقية لدينا مقدرة على استيعاب ألوان الفنون في الوطن العربي.
- تعاونك كان في الغالب مع الملحن عبد الرحمن والشاعر جواد الشيخ. حدثنا كيف كان اللقاء؟
•  كان أول لقاء بيننا سريعاً لكن سرعان ما تحول إلى التصاق أخوي شديد، حيث لم نكن نفترق إلا ساعات قليلة وهذا ما ساعدنا في التفاهم بيننا كثيرا.
علاقتي بالملحنين تنفي تهمة الاحتكار
- هل نستطيع أن نقول إنهم احتكروا صوت محروس الهاجري؟
• لا لم يكن هناك احتكار، بل كان هناك تفاهم كبير، حيث كان كل منا هاضما للثاني، وتحولت علاقتنا لأكثر من صداقة، بل إنه عند مجيئي إلى جمعية الثقافة والفنون بالإحساء كان هناك عدد من الملحنين البارزين مثل: عبدالرحمن الحمد وسعد الجوف وسعد الخميس ومبارك السعيد، كل هؤلاء غنيت لهم، ولكن أكثر من غنيت له هو عبدالرحمن الحمد، ومعنى هذا  أنه لم يكن هناك احتكار.
-  كم استمرت هذه التجربة أستاذ محروس؟
• استمرت تجربتي عشرين عاماً منذ (1975 إلى  1996م)، حيث كانت آخر أغنية هي (يلي تزفونا) من كلمات جواد الشيخ وألحان عبدالرحمن الحمد.
المنتج ونمط أغنية اليوم أديا لتوقفي
- لماذا توقفت  في هذه السنة 1996م؟
•  توقفت بسبب عدم وجود المنتج لأعمالي.
- هل عدم وجود المنتج سببه نوعية الأغنية التي تقدمها؟
• كانت لي مواقف مع شركات الإنتاج فرضت علي نمطاً معيناً من الأغنية، فلم يكن أمامي ألا أن أرفض.
-  هل هي سبب التوقف لدى محروس الهاجري؟
• هي أحد الأسباب، بالإضافة إلى نمط الأغنية الموجودة اليوم.
- ألم تستطع أن تكيف نفسك مع شركات الإنتاج أسوة بفناني اليوم؟
• النمط الموجود اليوم في الساحة الغنائية يختلف عن نمط الأغنية التي أقدمها.
هناك أصوات مبدعة لم تحقق الانتشار
- قد يكون هناك فنانون لم يستطيعوا أن يستمروا بسبب الإنتاج ولكن هناك أصوات بدأت قبلكم أو بعدكم ومازالت مستمرة.
• لا نجد إلا قليلاً ممن استمر منهم، ولدينا أصوات جبارة في الوطن العربي ولكن ليست منتشرة، خذ مثلاً صابر الرباعي صوت جبار ولكن ليس منتشراً وكذلك لطفي بوشناق وماجدة الرومي.
-  ما ذكرت من أصوات مازالت موجودة اليوم في الساحة.
• عذرا هناك فرق بين أن يكون موجوداً وبين أن يكون عطاؤه مستمراً، وللأسف هناك أصوات أقل من هؤلاء وتجدهم كل ستة أشهر يطرحون ألبوماً، وهذه الظاهرة على مستوى الوطن العربي. خذ مثلاً في السعودية، أين هو اليوم محمد عمر وعلي عبد الكريم وسراج عمر كملحن.
أتمنى العودة وأنتظر الفرصة
-  هل أنت متوقف إلى أن تحين الفرصة أم اعتزلت الغناء أم ماذا؟
• توقفي عن الغناء غير متعمد.
- معنى ذلك أنك تحنّ للرجوع إلى الغناء؟
• طبعا أتمنى أنني لم أتوقف نهائياً، ولو جاءت الفرصة من إحدى شركات الإنتاج سوف أشكرها.
- لكن النمط الذي تقدمه نمط يختلف عن غناء اليوم ألا تخشى الفشل.
• لو اقتنع به المنتج وحاول نشره مثل ما نحن مقتنعون به فسوف ينتشر، لأنه بالتالي عمل إنساني، ولدي عمل اجتماعي وهو عمل خاص بالفلاح يتمثل في أغنية (مات النخل) التي لاقت صدى ممتازاً.
-  هل هناك أصوات في الخليج أو الوطن العربي تقدم نفس نوعية الأغنية التي طرحتها؟
• هناك مرسيل خليفة في لبنان -ونحن قد بدأنا قبله- وهو لم يتنازل حتى الآن عن تقديم الأغنية الجادة فأصبح غناؤه للنخبة لذلك لم ينتشر جماهيرياً، وهذا الكلام ينطبق على ماجدة الرومي وكاظم الساهر. كل هؤلاء حصلوا على الدعم من بعض المنتجين، وهو الشيء الذي لم أحصل.
«مات النخل» والقوة في الكلمة والأداء واللحن
-  أستاذ محروس ذكرت قبل قليل أغنية مات النخل لو حدثتنا قليلا عن هذه الأغنية؟
• من أشهر الأغاني الجادة جداً، وحققت انتشاراً كبيراً، وقد عملت لمسرحية «عقاقير وعقار، سنة 1980م»، وكتب مقدمتها جواد الشيخ، واستمر عرضها سبع ليال، وفي كل مرة كان الجمهور عند نهاية الأغنية يصفق واقفا من قوة الكلمة واللحن والأداء، بالرغم من أنها لم تحصل على قنوات لتوصيلها عكس ما كان لأغنية غدار يا بحر.
- اليوم لو قمت بغناء مات النخل مرة أخرى هل ستلقى نفس الصدى الذي لاقته عندما غنيتها في سنة 1980م؟
 • هذا يعتمد على من سيدعم هذه الأغنية، لأن العمل في ظني متكامل، وبالمناسبة أنا غنيت هذه الأغنية في الجزائر، وبعدها زارني صحفي وعمل معي لقاء، وكان قد سمع الأغنية من شريط لدى الأستاذ محمد القشعمي. وحينما بينت له بأني هاوٍ ولست محترفاً، قال لي إن كان لديك مثل هذا العمل وتصف نفسك بأنك هاو فأنت تجرم في حق نفسك.
-  هل تتوقع اليوم أن الجمهور قد نسي محروس الهاجري؟
• هناك من عاصر محروس منذ البداية ولم ينس، وهناك من لم يعاصر محروس ومن الطبيعي أنه لا يعرفني.
المتلقي لن يرفض الأغنية الجيدة
-  هل ترى المنتج اليوم لو أقدم على إنتاج عمل  لمحروس الهاجري يغامر كون نوعية الأغنية التي تقدمها تختلف عن المطلوبة اليوم؟
• هذا في علم المجهول، فلو كان هناك منتج مؤمن بنوعية الأغنية التي أقدمها ويرغب في إيصالها سوف تصل الأغنية للمتلقي لأنني لا أظن أن ذوق المتلقي سيئاً بحيث يرفض أغنية جيدة.
-  هل معنى هذا أن ذوق المتلقي لم يتغير؟
• أغنية اليوم مفروضة على المتلقي وتحاصره أينما اتجه سواء في الفضائيات أو  في الإذاعة أو الكاسيت.
-  هناك من يقول بأن هدف الأغنية اليوم تغير عن السابق.
• هذا في وجهة نظر المنتج، وهو الذي فرض على المتلقي الأغنية السريعة بحجة تغير العصر، ولكن هل المتلقي أيضاً قد تغير، وإذا كان كذلك فليس ذلك التغير الجذري، والحاصل اليوم أن المتلقي مازال يحن للأغنية الطربية والجادة.
- في ختام هذا اللقاء كيف تنظر لهذه التجربة أستاذ محروس؟
• تجربة جميلة جدا وفيها من الشقاء ولكنها لذيذة وحققنا فيها الكثير من النجاح.
pantoprazol 60mg pantoprazol yan etkileri pantoprazol iv
ذو صلة