مجلة شهرية - العدد (591)  | ديسمبر 2025 م- جمادى الثانية 1447 هـ

الفن الأصيل: غياب الدعم وصراع البقاء

لا يكاد الفن «الغنائي» -أو الأدائي- يغني أو يسمن في ظل التدفق غير المحدود للأغنية والفيديو كليب، لأن العملية تحولت إلى صناعة تلعب فيها التكنولوجيا وتقنية معالجة الأصوات الدور الأكبر مع غياب عنصر الإبداع في الكلمة واللحن، والغناء، ما أفقد الفن نكهته، وجعله فاقد الهوية.
ويرتكز الغناء اليوم على «الفيديو كليب»، وما به من صور استعراضية ذات دلالات وإيحاءات بعيدة عن الفن ورسالته، في حين تساهم الفضائيات في نشر هذه «الموجة الغنائية» الطاغية على قاعدة أن الجمهور يريد ذلك.

وحول هذا يقول الموسيقار الدكتور أيمن تيسير رئيس منتدى الموسيقى الأردني المشرف على فرقة «جوقة الغناء العربي» المنبثقة عن المعهد الوطني للموسيقى: «إن رفض تيار الفن الهابط، وتأثيره على ذائقة الجيل هو أحد أبرز أهداف الفرقة، ونحن نعتبر أن تقديم الموروث العربي من الطرب الأصيل، والحفاظ على مجد العمالقة من الملحنين والمطربين كأم كلثوم، وعبدالوهاب، وسيد درويش، وبليغ حمدي وفيروز هو من واجباتنا كفنانين، وهو فن عرضة للضياع سيما وأننا نواجه تيارا جارفا مدعما بقدرات إعلامية هائلة، وفضائيات ومحطات إذاعة وصحف أصبحت تحول دون وصول ذلك الموروث إلى الأجيال الحالية».
ويضيف تيسير في حديثه لـ«المجلة العربية»: «الطرب أصبح غير موجود في الوجدان والتراث الغنائي العربي, وغائبا عن الأغنية المعاصرة أو ما تسمى بـ(أغنية الفيديو كليب), وأنا حريص على الاستمرار في الغناء الطربي الأصيل بكل أشكاله والذي أجد به مكاناً لي».
وحول تجربة إحياء الموروث، أشار الأستاذ المساعد بقسم الموسيقى بكلية الفنون في الجامعة الأردنية إلى أن هنالك عدة تجارب في الغناء الموسيقي, منها إطلاق أول مهرجان له، وأيضاً «وهابيات»، وهي «تجربة جديدة جاءت تلبية لحاجة ملحة لإيجاد وسيلة لتقديم الغناء العربي الكلاسيكي لجيل الشباب الصاعد الذي ينأى يوما تلو الآخر بعيدا عن روائع عمالقة الفن العربي الأصيل وعلى رأسهم الموسيقار محمد عبدالوهاب، وهذه الوسيلة هي موسيقى الجاز حيث تستحوذ على اهتمام هذا الجيل عربا وأجانب، وكذلك لوجود صفة مشتركة بين الجاز والموسيقى العربية وهي «الارتجال» الذي يصعد بالموسيقى إلى قمم بعيدة تحمل الجمهور إلى روح الموسيقى وعبقها».
من جانبها أكدت الفنانة مكادي نحاس بقاء الفن الجاد، مشيرةً إلى أن هنالك فنانين كثر يعملون بجد على الطرب الأصيل، مندفعين بكل حرص على ألا يموت أو يندثر هذا الفن، مهما سرع إيقاع الحياة، موضحةً أن هذا الفن «لم ينته فهناك أعمال فنية جادة لا تستخف بعقل المستمع والمتلقي العربي، إلا أن زمن عبد الحليم و أم كلثوم بات زمنا مختلفا، ونحن نعيش على أمجاده وعلينا أن نجد بديلا ثقافيا فنيا له».
وتضيف في حديثها للمجلة العربية: «يبقى هناك دائما منفذ لكل ما هو أصيل وجميل ودائما تحن إليه الشعوب أما المنتوج السريع والمسلوق سلقا فيذهب أدراج الرياح ولا يعيش طويلا».
وتشير إلى أن عملية مزاوجة القديم بالحديث في الغناء والخروج بقالب ومضمون معاصر حديث يتمتع بأصالة القديم تأتت من فكرة توظيف كلاهما، لأننا «نتكئ دائما على تراثنا العربي العظيم وننطلق منه إلى تجارب تشبهنا اليوم وتشبه زماننا».
أما الفنان والمطرب نايف الزعبي، فيرى أن «الفن هو الفن؛ وليس هناك فن غير جاد عند تقديمه، مهما تعددت أشكاله وألوانه، إذ في حال قدم العمل الفني للجمهور بأي صيغة من صيغ التقديم سواء على خشبة مسرح أو على حاملات الصوت المسموعة أو المرئية وبأي شكل من أشكال الميديا وصولاً للأدوات التكنولوجية الحديثة، المهم أن تتوافر صفة الجدية لدى مقدم العمل سواء كان فنانا أو منتجا، وغالباً ما يكون المقدم منتجا حيث يخضع العمل لتكلفة مادية وجهود جماعية».
ويوضح قائلاً: «عند الحديث عن الأغنية، لا يمكن تجاهل أربع عوامل رئيسة هي المبدع والإبداع والإنتاج ثم التسويق، ويأتي هذا الأخير على رأس القائمة إذ لو توافرت العوامل الثلاثة من غيره في عمل فني ولم يصل إلى المستمع فليس له قيمة. وذلك يؤكد أن العمل الإبداعي ذا علاقة بين المرسل والمتلقي».
ويضيف الزعبي أن «بعض الأغاني الطربية أصبحت جزءا من فلكلور الأمة العربية الحديث، وهناك أمثلة متعددة ومتنوعة كالرحابنة في لبنان وصباح فخري في سوريا ومحمد عبده في السعودية وبليغ حمدي وأم كلثوم وعبد الوهاب في مصر.. وغيرهم, وإنما أوردت ذكر هذه الأسماء لشيوعها وتنوعها كما هي مجرد أمثلة لما قدم خلال القرن الماضي. فلو أمعنا النظر فيما أعيد تقديمه من أعمال لهؤلاء الفنانين من خلال أصوات معظم نجوم الغناء على الساحة العربية حالياً لوجدناها كثيرة ولاقت رواجاً لدى المستمع العربي، ربما يفوق أغنياتهم الخاصة في بعض الأحيان».
ويؤكد في حديثه أن «الأغنية العربية الحديثة لا تخلو من الإبداع والطرب والجمال، فهناك مما لا شك فيه أصوات غنائية مهمة وكذلك أعمال فنية مميزة على الرغم من قصر وقتها وتغيير هيكلها من ناحية المذهب والمرجع والكوبليه وما إلى ذلك، وهذا ما يجعل بعض النقاد يدرج مسميات تأتي ضمن تسارع وتيرة الغناء على نحو يتناسب وإيقاع العصر، وهذا أمر طبيعي وواقعي حيث لا يتسنى للمستمع في هذا الوقت التعايش مع أغنية ما لوقت طويل, أما التحديث الحاصل في التوزيع الموسيقي فهو أمر ضروري لا مفر منه حيث لو أن ذلك تكرر سيشكل مللاً عند المستمع. وجدير بالذكر أيضاً مسألة الإيقاعات وإبرازها جلية في سياق الأغنية أمر طبيعي وله كل العلاقة بما يحدث من تطور في حياتنا الحالية، إذ هو انعكاس وإسقاط لما تفرزه تطورات الحياة في الأغنية».
وفيما يتعلق بمشروعه الفلكلوري الغنائي أوضح: «جاء لتثبيت وإبراز هوية الأغنية الفلكلورية الأصيلة كما جاءت من مصدرها لحناً، ومسألة وضعها في قالب المعاصرة أتى من خلال التوزيع الموسيقي واستخدام التقنيات التكنولوجية في التسجيلات لتتماشى مع ما يقدم في هذا العصر، مع الحفاظ على رسم شخصية خاصة بها لتبقى مستقلة بشخصيتها وبروحها».
ذو صلة