تشكلت مع الزمن رؤية سطحية عن الغناء العربي، تماما كما تكونت صورة ضبابية عن الموسيقى, حيث ينقصهما الفهم والذوق، ولعل هذه الصورة هي التي ولدت تلك الرؤية، فضاعت معالم الأغنية الجادة، واختفى معها الذوق الموسيقي العربي الأصيل. وإن المتتبع لسيرورة الغناء العربي قديما ليجدن الكافي الكاشف عن مكامن الجمال في الأغنية العربية التي أصبحت اليوم تعيش غربة وعزلة يساهم فيهما المتلقي قبل المغني والموسيقي.
تعود علاقة المجتمعات العربية بالموسيقى والغناء إلى زمن بعيد، حيث تؤكد الدراسات أن الشعوب العربية قد استفادت من الحضارات التي سبقتها، فاحتفظت برصيد موسيقي كبير، استطاعت أن تضيف إليه وتكيفه مع فهمها البسيط للموسيقى والغناء حينذاك. فقد كان الشعر يحتل منزلة كبرى في نفس العربي، والشاعر بطبعه موسيقي يعتمد الإيقاع في نظم الشعر، وقد استخدم الشعراء آلة تسمى القضيب، وهي عبارة عن عصا يضرب بها الأرض لضبط وزن البحر الشعري الذي سينظم عليه قصيدته. كما اهتم الشاعر أيضا بالإلقاء الشعري، تماما كاهتمامه باختيار ألفاظ قصيدته، فكانت طريقة الإلقاء وجمالية الصوت يلعبان دورا أساسا في شهرة القصيدة وصاحبها، لهذا وجدنا بعض الشعراء الذين لم تتوافر لهم سبل الإلقاء الجيد، يسندون مهمة إلقاء قصائدهم لغيرهم من الشعراء حتى وإن كانوا أقل مرتبة منهم, وكان من الشعراء من يجمع بين النظم الجيد والإلقاء الجيد، ويقال إن عدي بن ربيعة قد لقب بالمهلهل لحسن صوته. ويمكننا اعتبار هذا الاهتمام -بقليل من التجوز- اهتماما بالغناء والموسيقى على حد سواء، لكن أول ذكر واضح وصريح للغناء جاء بين ثنايا كتاب «مروج الذهب» للمسعودي، حيث أشار إلى صنفين من الغناء هما الحنفي والحميري، كما نجد في مظان أخرى صنفين آخرين هما الحداء والنصب. ويصف المستشرق الإنجليزي براون الغناء قبل الإسلام «بكونه شيئا أكثر قليلا من الترنيم البسيط خاضعا لتصرف المغني أنثى كان أم ذكرا...، وكانت كفاءة المغني تتوقف على نبرة صوته وترجيعه وانتقالاته، والمشاعر التي تجعل الصوت يخرج مستقيما أو مرتجفا». ويقول ابن خلدون: «ثم تغنى الحداة منهم في حداء إبلهم, والفتيان في خلواتهم, فرجعوا الأصوات وترنموا وكانوا يسمون الترنم إذا كان بالشعر غناء». لكن رغم هذا التطور على مستوى الفهم والتذوق، فالغناء العربي ظل في أغلبه إلى ما قبل الإسلام أسيرا لتأثير إيقاعية التفاعيل العروضية، لكن مع مرور الوقت سرعان ما بدأت تتشكل معالم غناء جديد يدعى الغناء المتقن، وقد أشار المسعودي إلى إنشاء أول مدرسة موسيقية على يد عبد الله بن جعفر، مما أسهم في التقاء ثلة من مشاهير الغناء في ذلك الوقت كعبد الله الدائب المعروف بالطويس، الذي كان يحفظ الأغاني الفارسية التي كان يغنيها الأسرى الفرس، وما يهم هنا هو الاستقلالية التامة للغناء العربي عن العروض الشعري، وبداية الحديث عن أنواع غنائية متنوعة.
ويجمل بنا ونحن بصدد لملمة الخيوط ذات الصلة بالغناء العربي، أن نتوقف عند مرحلة مهمة من مراحله، وهي مرحلة الحكم العباسي. يقول صاحب المقدمة «ما زال الغناء، يتدرج عند العرب حتى اكتمل أيام بني العباس», فقد كان للخلفاء العباسيين الدور الكبير في تأطير الحركة الفنية والأدبية، وتقديم الدعم المادي والمعنوي للفنانين والشعراء، ولعل دعوة هارون الرشيد لاختيار وترتيب أحسن مئة صوت (أغنية) منذ الجاهلية وصولا إلى فترة حكمه، ثم اختيار الأفضل من بينها؛ يعد مثالا جليا لقيمة الغناء في هذه الفترة عند العامة والخاصة. وقد جمع لنا كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني أدق تفاصيل جلسات الغناء (وهي تقليد ساساني) كان يقيمه الخلفاء للاحتفاء بالغناء وأصحابه، فأصبحت هذه الجلسات تقليدا توارثه الخلفاء عن بعضهم، وأدى هذا إلى تقريب بعض المغنيين دون سواهم، كإبراهيم الموصلي الذي حظي بمكانة كبيرة داخل البلاط، فنتج عن ذلك صراع بينه وبين غيره، ورثه عنهم إسحاق الموصلي وإبراهيم بن المهدي، حيث كان إسحاق زعيما للمدرسة التقليدية متشبعا بتقاليد الغناء العربي، يريد الحفاظ على التراث ويعتبره أمانة يجب أن تنقل من جيل إلى جيل فكان امتدادا لإبراهيم الموصلي وعزة الميلاء.
في مقابل هذا التوجه كانت معالم مدرسة أخرى قد بدأت تتشكل بريادة إبراهيم بن المهدي، لكنها تخالف التوجه السابق، من حيث الالتزام بالقواعد، فكان ابن المهدي يدخل تغييرات جديدة على الألحان السابقة، ويلغي أقساما من النظم ويضيف أخرى مستحدثة. لكن الذوق السائد كان يرفض اتجاه ابن المهدي ويعتبره جهلا بقواعد الغناء العربي، وهو ما يؤكده الأصفهاني بقوله « أفسدوا الغناء ورغبوا أن يقرب مأخذه... وقد تبعهم آخرون جاهلون لم يعطوا الغناء الوقت والجهد اللذين يتطلبهما».
وما يهم هنا هو نشوء مدرسة أخرى في الغناء تخرج عن النسق التقليدي، لكن بواعثها كانت غير جادة، فكان الحسد أبرز دوافعها، ثم الخلاف من أجل الخلاف، ومنه يمكننا الحديث عن بداية نشوء أغنية غير جادة وغير أصيلة، تقوم على الأهواء ولا تخضع لمعايير الغناء المعروفة أوانئذ. وقد كان الغناء شأنه شأن باقي الفنون يتأثر بضعف الدولة الإسلامية سياسيا، فتراه في أعلى المراتب إبان حكم خليفة معين، ليتراجع إلى أدنى المراتب مع خليفة آخر. وإذا كان الغناء قد وجد عند بني العباس البيئة الملائمة ليتطور، فإنه قد وجد في الأندلس ما لم يجده في المشرق، فقد اهتمت الأندلسيون بالموسيقى كاهتمامهم بباقي الفنون والعلوم، « فقد حملت الأندلس مشعل العلم والمدنية مضيئاً ساطعاً لأوروبا الغربية عندما كانت كل هذه القارة تائهة في الجهل ومتلظية بنزاع بربري دام». وبمرور سحابة الانحطاط على الأمة العربية تراجع الغناء والموسيقى بتراجع الحياة الأدبية والسياسية والاجتماعية.
وفي أواخر القرن الثامن عشر، وبداية القرن التاسع عشر، شهد المشرق عموما ومصر خصوصا بزوغ أول مدرسة موسيقية وغنائية في العصر الحديث، كانت متأثرة بروحها وموروثها الحضاري والفني. استطاعت هذه المدرسة أن توائم بين جمالية الإنشاد الديني والابتهالات والتواشيح، وبين انطلاقة الغناء وحيويته وعذوبته، مستحدثة مجموعة من التجديدات في الأداء والموسيقى، ومن أعلام هذه المدرسة نجد محمد عبد الرحيم المسلوب، الذي أسس أول مدرسة مصرية غنائية، ومن جوانب تجديده وعبقريته الموسيقية، تطويره في غناء الطقطوقة وإضفاء ملامحه الخاصة فيما يعرف باسم الدور. وأعلام هذه المدرسة كثر بحيث وجب إفراد كل واحد منهم بدراسة خاصة،كخليل محرم، ومحمد الشلموني، وعلي القصبجي، ويوسف المنيلاوي وسلامة حجازي وغيرهم، وقد أحدث هؤلاء نهضة فنية لا زال العالم العربي يحن إليها غناء وأداء وتلحينا. ثم أكمل مشوار هؤلاء الرواد مجموعة أخرى من الفنانين: كسيد درويش وأبو العلا محمد السنباطي وزكريا أحمد ومحمد القصبجي وأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب ومحمود الشريف وعبد الحليم حافظ ومحمد فوزي...، ويعتبر الشيح سلامة حجازي من أوائل من اجتذبوا أصحاب المسرح، حيث نجحوا بعناء في إقناعه باعتلاء خشبة المسرح فكانت بداية مجده وخلوده، حيث اعتبر رائد المسرح الغنائي.
ونحن نتحدث عن التراث الغنائي العربي يعترضنا سؤال مؤرق، وبصياغة محددة عن مكانة الأغنية العربية الحالية؟ سؤال قد تتناسل عنه أسئلة أخرى عن الفوضى الغنائية التي يعيشها الوطن العربي. لقد كان تاريخ الغناء العربي صارما في تحديد مقاييس جمالية الصوت، ولكن هذا التاريخ لم يخض في باقي مكونات الأغنية العربية، مما ترك الوعي الناقص بالشكل والوظيفة الغنائيتين، ممتدا عبر الزمن، هذا الوعي الناقص كان في حقيقته، أزمة في التنظير صاحبت عملية الغناء، فكان تلقي الأغنية العربية، تلقي عفوي انطباعي، يحتكم فيه المستمع إلى صوت المغني أولا، ثم هواه الشخصي ثانيا. وإذا كان هذا المعيار معيارا فعالا في تلقي الأغنية العربية إيجابا، فإنه قد أصبح اليوم يؤدي عكس وظيفته السابقة وبطريقة سلبية أيضاً، في ظل المنافسة الشرسة التي تلقاها الأغنية العربية من أنواع موسيقية أخرى قد تشاطرها نفس اللغة، وقد تختلف عنها أيضا. إن الذوق العفوي الذي تحدثنا عنه سابقا أصبح اليوم يصنف الأغنية إلى أغنية قديمة وأغنية حديثة، وهذا التصنيف لا يمكن أن نحتكم إليه؛ لأنه ولسبب بسيط ليس هناك أغنية قديمة وأخرى حديثة، هناك أغنية تحمل قيمة وذوقا وأخرى تفتقر إلى ذلك، والتي تحمل القيمة والذوق يمكن أن نصفها بالجادة، وهذه الأغنية يمكن أن توجد في كل مكان وزمان، كما وجدت من قبل. وفي غياب تربية موسيقية يصعب على المتلقي اليوم أن يميز و ينتقي المسموع، في زمن أصبح ينتصر للمرئي، في ظل هيمنة ثقافة الصورة التي أصبحت وجهة الجمهور المنشودة. وحال الأغنية العربية اليوم لا يعني أنها لم تواجه صعوبات في فتراتها السابقة، فقد كانت الأغنية الأصيلة والجادة دائما في صراع مع ما دونهما قيمة، منذ العصر العباسي وصولا إلى العصر الحديث، مع اختلاف في المتغيرات و التفاصيل طبعا، لكن التاريخ احتفظ فقط بما هو جميل، وهو ما يحدث مع الإنتاج الموجود حاليا، لكن الحاجة ملحة اليوم إلى وجود ثقافة موسيقية تنشأ مع الفرد منذ الصغر، تمكنه من التذوق والانتقاء والتمييز. إن الثابت اليوم هو أن الأغنية العربية الجادة قد فقدت بريقها و ضاقت قاعدة جمهورها، حيث أصبح المتلقي يفضل الأغنية الشبابية، كتفضيله للوجبات السريعة, دون أي وعي بمقومات الغناء. صحيح أنّ الشباب يُبهَرون بما يسمّى بالأغنية الحديثة أو الشبابية، لكن بعدما يجدونها مملّة ومكرّرة سيبحثون عن الأغنية الجادة المطربة، والطرب يعني تنمية الذوق في الاختيار، كما نقصد بالمغني من يستطيع تناول الكلمات بدرجة أرقى من القراءة ويتمكّن من إيصال مشاعر وأحاسيس ما كتبه المؤلّف وما لحّنه الموسيقي للجمهور، فشارع الفن مزدحم بالمطربين وغير المطربين، وأصبح تعدادهم رهيبا يغطي حتى على الأصوات الجميلة والجادة التي أصبحت تجد صعوبة في المواصلة، فتقف عاجزة في منتصفه، أو تساير الموجود بدون رغبة.
ومهما يكن من أمر فحال الأغنية لا يمكن أن ينفصل عن حال متلقيها ومؤديها، وكل منهما مساهم فيما آل إليه حالها. وقد يكون الإنسان العربي اليوم لا يستشعر الخطر، ولكننا مقدمون على فراغ موسيقي وفني وثقافي مخجل، وإذا كان مقياس رقي الأمم بحسب ما تنتجه من غناء وموسيقى جادة، فنحن لا محالة في الدرجة الصفر.