مجلة شهرية - العدد (591)  | ديسمبر 2025 م- جمادى الثانية 1447 هـ

الأغنية السورية الجادة: البحث عن الشرعية

لا مبالغة في القول إن تقييم واقع الأغنية في البلاد العربية يعد مغامرة محفوفة بالأخطاء والتباينات وسوء الفهم وليست سوريا استثناء في هذا المقام، بل لعلها تعتبر نموذجا معبرا عن المشهد الغنائي العربي المضطرب والمتعثر والهابط في الكثير من الجوانب، سواء تعلق الأمر باللحن أو الكلمة أو الأداء؛ وهي العناصر الرئيسة للنهوض بالأغنية.

وفي حين كانت عقود الخمسينات والستينات والسبعينات من القرن الماضي زاخرة بقامات غنائية مرموقة من محمد عبد الوهاب إلى عبد الحليم حافظ إلى فريد الأطرش، ومن أم كلثوم إلى شادية ونجاة الصغيرة وليلى مراد وأسمهان وفايزة أحمد، فضلا عن ملحنين كبار مثل رياض السنباطي ومحمد الموجي وسيد مكاوي وبليغ حمدي وسواهم، ناهيك عن الكلمات الموحية والمعبرة لشعراء مثل نزار قباني وأحمد رامي وسعيد عقل؛ فإننا نجد أن الأغنية السائدة حاليا لا تنبئ البتة بأنها وريثة لهذا التراث الغنائي والموسيقي الثري والمميز.
ومن البديهي وسط هذا المستوى الغنائي الهابط أن نعثر هنا وهناك على استثناءات تؤكد القاعدة، ففي سوريا يمكن الإشارة إلى تجربة صباح فخري وميادة الحناوي وأخيرا أصالة نصري، رغم الالتباس في هوية فنها، وفي لبنان تبرز بجلاء تجربة الرحابنة ممثلة بفيروز وعاصي ومنصور، وكذلك ماجدة الرومي، وفي السعودية يتصدر المشهد طلال مداح ومحمد عبده، وفي مصر ثمة أصوات تبحث عن اللحن والأغنية الجادة مثل علي الحجار، ومحمد منير، ومحمد الحلو وهاني شاكر وغيرهم، وسنجد أسماء أخرى قليلة تمثيلا لا حصرا في مختلف البلاد العربية، غير أن الحقيقة المؤكدة تقول إن هذه الأصوات تشكل استثناء لقاعدة سائدة تتمثل في شيوع الفن الهابط والرديء على حساب الأغنية الجادة واللحن المؤثر والكلمة الدالة.
ولن نتورط هنا في تعداد الأسماء التي تحمل لواء الأغنية الهابطة، وتروج لها؛ لكن يمكن الإشارة بصورة سريعة وعامة إلى أهم ملامحها. فهذه الأغنية الهابطة هي ذات إيقاعات سريعة صاخبة ملائمة لـ«هز البطن»، وهي تتميز بكلماتها السطحية السخيفة التي تثير الغرائز الدنيا، بل قد تحض على «الرذيلة»، ذلك أن كتّاب الأغنية الآن ليسوا من الشعراء المعروفين، بل هم من أنصاف الموهوبين الذين يبحثون عن أكثر المفردات ضعفا ووضاعة ويجرون صياغة ركيكة تراعي القافية فحسب، حتى تكون مناسبة للحن الرديء بدوره.
وليس أدل على هبوط الأغنية مما يسمى بـ«الفيديو كليب»؛ هذا الأسلوب الذي طغى على الشاشات، فأصبحت الأغنية تخاطب العين قبل الأذن، وصارت تُرى ولا تُسمع، وبات المشاهد ينظر إلى مغامرات البطل وهو يتودد إلى الحسناء أو الحسناوات اللواتي يتمايلن بغنج ودلال أمام العدسة البارعة في إظهار ما يجب إخفاؤه، بدلا من الإصغاء إلى الأنغام والألحان الراقية. علاوة على ذلك فان المطرب ذاته - أو المطربة - يتباهي بصورته، ويتفاخر بوسامته في «الفيديو كليب» متناسيا أن الأغنية تتألف من الثالوث المعروف: اللحن، الكلمة، الأداء. ومهما كان مخرج الفيديو كليب بارعا فلن يستطيع أن يجعل من أغنية رديئة أغنية جيدة تصمد أمام امتحان الزمن القاسي كما هو الحال بالنسبة لأغاني أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم، فالصور والحركات والرقصات كلها سرعان ما تنتهي وتتلاشى بمجرد انتهاء بث الفيديو كليب، والمستمع الحصيف لن يتسامح مع هذا الإسفاف، بل سيتساءل: أين الفن وسط هذه المشهدية البصرية التي وإنْ بدت متقنة من ناحية جودة الصورة، بيد أنها خالية من أي ملمح فني جاد.
- أصوات تبحث عن شرعية ومكانة:
كما أشرنا قبل قليل فإن الأمر في سوريا لا يختلف باستثناء أسماء قليلة تسعى إلى إيجاد موقع ومكانة وسط هذا الهبوط الغنائي المهيمن، وإذا تجاوزنا أسماء لها مكانتها المحترمة ضمن المشهد الغنائي السوري مثل صباح فخري وميادة الحناوي وأصالة نصري؛ سنجد أسماء شابة أخرى تحاول أن تكون استمرارا لهذه الأسماء اللامعة، وتبحث لنفسها عن مشروعية وحضور إزاء الفوضى الغنائية.
الموسيقي السوري الشاب معن خليفة هو واحد من أولئك الشباب المتحمسين الحريصين على سمعة الأغنية السورية، وهو بعد دراسته الموسيقى في فرنسا عاد إلى بلاده لعله يسهم في الارتقاء بواقع هذه الأغنية، فأنشأ فرقة موسيقية باسم «حرارة عالية»، قدمت الكثير من الأغاني في أكثر من مناسبة، وأصدرت السنة الفائتة ألبوما لقي ترحيبا من الوسط الموسيقي. يمزج خليفة في هذا الألبوم بين الفلكلور والحداثة، ساعيا إلى نيل رضا المستمع من مختلف الشرائح والأذواق. وهو يقول إن فرقته تعكف هذه الأيام على الإعداد لمشروع «إعادة إحياء الأغاني السورية القديمة التي لحنها كبار الملحّنين السوريين أمثال: سهيل عرفة وعبد الفتاح سكر وإبراهيم جودت وعادل الكردي وعدنان قريش وسعيد قطب ونجيب السراج وزهير عيساوي، وستُسجّل هذه الأغاني بتوزيع حديث ورؤية فنية جديدة».
ويوضح خليفة في حديث لـ«المجلة العربية» أن «هذا المشروع هو بمثابة تكريم لهؤلاء الملحنين الذين حققوا نجاحات واسعة في مجال تقديم أغنية بسيطة ومحببة، من قبيل أغنية «عالبساطة» التي لحّنها سهيل عرفة وغنتها صباح، وأغنية «راحوا الغوالي» للملحن نفسه وقد غناها وديع الصافي، و«تعب المشوار» للملحن زهير عيساوي وغناها فؤاد غازي». لافتا إلى أن «الإذاعة السورية كانت من المنابر المهمة لكبار الموسيقيين والمطربين العرب، ومن بينهم الرحابنة، كما أن الأغنية السورية كانت حاضرة ومؤثرة في مختلف المناسبات».
والواقع أن فرقة «حرارة عالية» ليست وحيدة، بل أصبح تأسيس الفرق أشبه بظاهرة جاءت احتجاجا على الفن الغنائي السائد، وبغرض الحفاظ على هوية ومكانة الأغنية السورية، فتأسست في السنوات الأخيرة فرقا موسيقية عديدة مثل فرقة «مرمر» و«إطار شمع» و«قصيد» و«طرب ماجد سراي الدين» و«كلنا سوا» و«ارتجال» وفرقة «لينا شماميان».. وغيرها. ويعلق خليفة على ذلك بالقول: «هناك عدد كبير من الفرق السورية الحالية وبعض المغنين - بينهم لينا شماميان - يسهمون في إعادة تقديم الأغنية السورية, وباتت حفلات هذه الفرق تستقطب آلافاً خصوصاً أن أغلبها موجهة إلى الشباب وتبيع تذاكر حفلاتها بأسعار رمزية، وفي هذه الفرق يكمن مستقبل الأغنية السورية الجادة».
ويعرب خليفة عن اعتقاده أن «الطاقات والمواهب الفنية موجودة في سوريا لكن المشكلة تكمن في غياب شركات الإنتاج الفنية التي ينبغي أن تحتضن هذه المواهب وترعاها، كما حصل مثلا مع الدراما السورية التي نهضت بها شركات الإنتاج الخاصة». ويشكو خليفة كذلك من الدور الغائب للإعلام في هذا المجال، إذ يدعو إلى «ضرورة أن يقوم الإعلام بواجبه في هذا السياق ويركز على الأصوات ذات الجدية، ويسهم في نشر ثقافة موسيقية رفيعة»، وهو هنا ينتقد إذاعات الـ«إف.إم» والفضائيات التي «تتجاهل الأغاني الجادة وتركز على الأصوات الرديئة الملمعة بتقنية الـ«فيديو كليب». ولا يعترض خليفة على وجود الفيديو كليب، لكن شريطة أن تكون الأغنية المصورة «محققة للشروط الفنية»، وأن «تكون الصورة منسجمة مع الأداء، ومناخات الأغنية».
ويشيد خليفة بالأغنية الخليجية إذ يقول «من النادر أن تجد صوتا سيئا في الخليج العربي، فأصوات المطربين تنطوي على خامات فنية عالية مثل محمد عبده وطلال مداح وعبادي الجوهر، فضلا عن أن ظاهرة «أغنية الملاهي» المنتشرة في القاهرة وبيروت ودمشق، تكاد تكون غائبة في الخليج». ويرى خليفة أن «الأغنية الجادة هي الأغنية الملتصقة بهموم الواقع، والمعبرة عن القيم الجمالية كالحب والوفاء والتسامح، وهي في نهاية المطاف استمرار للتراث الموسيقي العربي، وليست تقليدا سقيما للأغاني الغربية البعيدة عن واقعنا. وفي سوريا ثمة أصوات شابة تسير في هذا الاتجاه مثل لينا شماميان وليندا بيطار ولبانة قنطار ورشا رزق وشُهد برمدا ونعمى عمران وأسامة كيوان وسومر نجار وينال طاهر».
الناقد والمؤرخ الموسيقي السوري أحمد بوبس يعترض منذ البداية على تعبير «الأغنية السورية»، موضحا: «ثمة ألوان غنائية سورية أو مغربية أو خليجية أو مصرية...، لكن الأغنية في مختلف البلاد العربية تتشابه في قوالبها وإيقاعاتها ومقاماتها، ومن هنا أنا أفضّل تعبير «الأغنية العربية» التي قد تختلف بشكل طفيف من بيئة إلى أخرى، وذلك تبعا للهجة المستخدمة، وتبعا لمدى توظيفها للموروث الشعبي المحلي، وما عدا ذلك فالأغنية العربية متقاربة بصورة عامة».
ووفقا لذلك يقول بوبس لـ«المجلة العربية»: «اللون الغنائي السوري ظهر مع مطلع الأربعينات من القرن الماضي بأغنية «بالفلا جمّالي ساري» التي لحنها رفيق شكري، وقبل هذا التاريخ كانت اللهجة المصرية طاغية على الغناء السوري بسبب هيمنة السينما المصرية، وأغاني الأفلام المصرية»، ويتابع بوبس: «بعد هذا التاريخ استمر الموسيقيون السوريون في تكريس اللون الغنائي السوري, حيث ظهر نجيب السراج ثم جاء معن دندشي وعدنان قريش، واستمرت الأغنية السورية في التطور على يد عبد الفتاح سكر حينما لحن لفهد بلان أغاني عدة، وظهر في الخمسينات والستينات والسبعينات ملحنون مثل محمد محسن وياسين العاشق وعدنان أبو الشامات وسهيل عرفة... ومطربون مثل مصطفى نصري «والد أصالة نصري»، وكروان ومها الجابري وصباح فخري».
ويعتقد بوبس أن «اللون الغنائي السوري الجاد بدأ بالهبوط في أواخر السبعينات من القرن الماضي، إذ ظهرت ما تسمى بـ«الأغنية الشبابية» على يد حميد الشاعري في مصر، وراحت تنتشر بشكل واسع، ويجب هنا ألا نغفل التجربة القصيرة لفهد يكن في مجال الأغنية السياسية الملتزمة، وكذلك تجربة سميح شقير الذي ركز في أغانيه على قضايا الوطن وهموم الفرد وأحلامه، وكذلك تجربة الملحن سمير كويفاتي وميادة بسيليس».
وردا على سؤال حول واقع الأغنية السورية يعرب بوبس عن عدم رضاه عن واقع الأغنية السورية حاليا، ويؤكد أنه باستثناء أسماء قليلة فإن الساحة الغنائية مليئة بالغناء السطحي السخيف، وهو يرى أن ثمة أسبابا عديدة لهذا الهبوط، فبعد غياب جيل الملحنين الكبار لم يظهر ملحنون جدد في مستوى من سبقوهم، وكذلك ندر عدد كتاب الأغنية الجادة. وأشار إلى أن الفضائيات والإذاعات بدلا من الارتقاء بالذائقة السمعية للمتلقي فإنها تكرس الرداءة والإسفاف عبر بث أغان هابطة، ويضيف: «حتى المعهد العالي للموسيقى في دمشق لم يقم بدوره المطلوب، فضلا عن تقصير وزارة الثقافة في هذا السياق».
ولا يغفل بوبس الإشارة إلى ما يصفها بـ«نهضة موسيقية» بدأت تتشكل ملامحها الأولى مع ظهور فرق موسيقية جادة، مثل فرقة ماجد سراي الدين وكذلك الفنانة وعد أبو حسون التي تقوم بتلحين قصائد ونصوص قديمة لجلال الدين الرومي وابن عربي وابن زيدون، وهي حققت شهرة عربية وعالمية، وكذلك الفنانة شهد برمدا، ونانسي زعبلاوي.. وسواها من الأصوات التي تتمسك بالفن الجاد رغم تجاهل الفضائيات لها».
ويعيد بوبس إلى الأذهان تجربة الإذاعة السورية التي «احتضنت قبل عقود الكثير من المواهب الغنائية، ولعبت دورا في النهوض بالأغنية السورية، لكن هذا الدور تقلص كثيرا، بل تلاشى مع وجود مئات الفضائيات التي تعزز موقع الأغنية الهابطة، وتركز على النمط الاستهلاكي ولا تلتفت إلى الفن النظيف، ويتواطأ أصحاب رؤوس الأموال مع هذا الواقع، فهم يحجمون عن تأسيس شركات إنتاج فنية خاصة تعنى بالموسيقى الجادة، لأنهم يعلمون أن مغامرتهم هذه ستكون خاسرة، فضلا عن غياب القوانين الناظمة لحقوق الملكية الفكرية والفنية، فالشركة التي تصدر قرصا مدمجا اليوم ستجد الآلاف من النسخ المقرصنة في اليوم التالي»، ويختم بوبس ببعض التفاؤل إذ يرى أن «أزمة الأغنية الجادة هي جزء من الأزمة الثقافية بصورة عامة، ويمكن الخروج من هذا الواقع عبر الحرص وبذل الجهد وإبداء الاهتمام من قبل الجهات المعنية بالفنون عموما، والسعي إلى البحث عن سبل تعيد الغناء إلى سابق عهده، وإلى أصالته ورفعة مستواه».


ذو صلة