مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

مدائن صالح.. التحليق بجناحي الحضارة والفن

أنت أيها المار من هناك، تمهل قليلاً حين تلتقيك مدائن صالح، مدينة ليست ككل المدن.. تأن، خفف الوطء، فلسوف تلتقي ما لا عين رأت، دهشة وجمالاً وسحراً، دقق في كل التفاصيل، تأني في حضرة المكان، فأنت في أكبر مدينة جنوبية لمملكة الأنباط!
حدّق أكثر، توقف طويلاً أمام ما تشاهده من الحاضر الآن، فهو ارتداد لما كان قبل مئات الأعوام في سالف الزمان.. تأمل.. قد ترى ناقة تسعى، كأنها معجزة نبي أخذت المدينة اسمه، وبقيت بعد أن ارتقى.. لا تربكك الحالة، فهناك سجل لا يتوقف، زمن وراء زمن، إنها ليست مدينة واحدة، كما يشي بهذا اسمها، إنها المدائن، جمع يفيد التفخيم والرقي وأكثر.

ها أنت الآن تترقب موكب الملك الحارث الرابع، أعظم ملوك الأنباط، حين أتى يدشن المدينة حاضرة تجارية وسياسة، ثانية له، هو لا يريد أن يحاصره الرومان في البترا التي تبعد خمسمئة كيلو متر، فكان قراره الإستراتيجي أن تكون مدائن صالح عمقاً إستراتيجيا للأنباط، مكتملة الحضور بشعبها وجندها ومهندسيها ومعمارييها وتجارها، لتبقى امتداداً لمملكته بموقعها المهم على الطريق الرابط بين جنوب شبه الجزيرة العربية ببلاد الرافدين وبلاد الشام ومصر، على طرق التجارة شرقاً وغرباً، فلا تتوقف قوافل التجار التي تحميها جحافل جنود الأنباط.
كن أيها المتأمل للمدينة، للمدائن، راصداً لسجل التاريخ الساكن هنا، فما ضلّ من قرأ تاريخ المدينة التي كان اسمها الحجر، هي درّة العلا، التي تتبارك بالقرب من المدينة المنورة.
إنها الحجر التي استوطنها الأنباط منذ القرن الأول قبل الميلاد، وعلى صخورها حروف تشهد على امتدادها التاريخي عبر الزمان، إنها نقوش بالعربية الجنوبية واللحيانية والثمودية والنبطية واللاتينية والإسلامية، ففي كل عصر كانت تتعزز أهميتها كطريق تجارية ودينية.
للصخر قيمة ودلالة في الحجر، ومن تواؤم الصخر ووفرة الماء، كانت الدعوة للاستيطان في الحجر على وادي القرى، التي كانت ديار ثمود الذين استجابوا لدعوة نبي الله صالح، ثم ارتدوا عن دينهم، وعقروا الناقة التي أرسلها الله لهم آية، فأهلكهم بالصيحة.
ومدائن صالح متجذرة في التاريخ، تفيد المراجع والمصادر بأنها كانت تابعة لمملكة معين من القرن الخامس قبل الميلاد حتى بدايات القرن الأول قبل الميلاد، في مرحلة سابقة على مرحلة مملكة لحيان التي كانت العلا مركزاً لهم، وكانت نهايتهم على يد الأنباط الذين استولوا على الحجر سنة 65 ق.م، وتوسعوا باتجاه العلا سنة 9 ق.م.
أيها القادم إلى مدائن صالح، تلمس نبض الصخر فيها، هنا تراكم مئات الأعوام من الذاكرة المحتجبة هناك، بين يديك سجلات تاريخ الأنباط الذين استوطنوا الحجر في القرن الأول قبل الميلاد، في عهد الملك الحارث الرابع، الذي اتخذها عاصمة له بعد عاصمته الأولى البترا، لتكون العاصمة الجنوبية لمملكة الأنباط.
هنا كان حضور الأنباط الذين تركوا معالم حضارة كبيرة شيدوا فيها المعابد والواجهات المعمارية والمقابر ونحتوا الجبال ليضيفوا لها جماليات البناء القديم، وهم الذين حفروا الآبار، وعملوا خزانات المياه، وطوروا زراعة الواحات، وتحكموا في الحجر بطرق التجارة القديمة، فاحتكروا تجارة البخور والمر والتوابل، وعندما خشي الرومان من توسع نفوذ الأنباط، شنوا حرباً كبيرة، لينهوا هذا النفوذ عام 106م.
فسلام على الأنباط وحضارتهم التي بقيت خالدة، تنبئ آثارها عن عظمة هؤلاء الأجداد الأوائل، من خلال 153 واجهة صخيرة منحوتة بإتقان وفخامة، كأنها مشغولة الآن بأيدي أمهر النحاتين الذين أبدعوا فناً باقياً وشاهداً على أجمل المدن، وأعظم الحضارات.
مدائن صالح.. ذاكرة الأنباط
كانوا يبنون قبورهم كما يبنون قصورهم، يشيدونها بإتقان وفن وفخامة وإبهار، أولئك هم الأنباط، الذين نحتوا مدنهم في الصخر، فصار الحجر كما الصلصال مطواعاً بين أيدي معمارييهم، وبرؤى فنية عالية المستوى عبر عنها مخيال مهندسيهم، فكانت مبانيهم كأنها تحف وأيقونات فائقة السحر والجمال، وهي في مجملها تدل على الثراء والفخامة وعلو المكانة الاجتماعية. وبقي المعماريون والنحاتون والحرفيون الماهرون على امتداد عمر حضارة الأنباط، يتفننون في نحت رموز الأنباط الدينية والتعبير بذائقة عالية من خلال إبداعهم لتكون بيوتهم ومضافاتهم ومعابدهم كلها انعكاساً لتلك النهضة الحضارية التي شهدتها مملكة الأنباط.
ذات مؤتمر حول حضارة الأنباط في البترا جنوب الأردن، كانت الدكتورة السعودية هتون الفاسي، تقدم ورقة حول مدائن صالح في السعودية، المدينة الشبيهة بالبترا، فأخذتنا في رحلة فاتنة إلى عوالم أخرى، كأننا نرى توأم البترا، كأننا نحلق في فضاءات شبيهة بما كان من حضارة وحضور وجمال وسحر في الواجهات، والمنحوتات، والهندسة، والمعمار هنا، جنوب الأردن، كما هو الحال هناك في مدائن صالح.
كيف لي أن أكتب عن الأنباط، والحارث الرابع، والبترا، وقوافل التجار، وخيول الجنود، دون أن ألقي سلاماً على مدائن صالح في السعودية الآن، تلك المدينة النبطية التي كان اسمها ذات زمن مضى الحجر، وهي الآن تحتضنها محافظة العلا التابعة لمنطقة المدينة المنورة، حيث كانت، فيما مضى من الزمان، تحتل موقعا إستراتيجياً في قلب العالم القديم على الطريق الذي يربط ببلاد الرافدين واليمن وبلاد الشام ومصر، وهي ذاتها ديار ثمود بوادي القرى بين المدينة المنورة وتبوك.
هنا أقلب الكتابات الأثرية، فأجد أنه في قديم الزمان سُكنت مدينة الحجر من قبل المعينيين (الثموديين)، في الألفية الثالثة قبل الميلاد، ومن بعدهم عمرها اللحيانيون في القرن التاسع قبل الميلاد، أما في القرن الثاني قبل الميلاد فقد ضمها الأنباط إلى مملكتهم، وبنوا بيوتهم ومعابدهم ومقابرهم في صخر المدينة، مضيفين معماراً وبناء وحضارة، على ما تركه السابقون فيها من آثار، لذا فإنه يوجد فيها كثير من النقوش النبطية وكذلك الثمودية واللحيانية، واستحقاقاً لهذا الحضور الحضاري، أعلنت اليونسكو في عام 2008م، أن مدائن صالح موقع تراث عالمي، حيث تم ضمه إلى قائمة مواقع التراث العالمي.
في الحجر تتراكم الحضارة وتظهر آثارها من خلال النقوش الكتابة التي تنوعت على صخورها بين العربية الجنوبية واللحيانية والثمودية والنبطية واللاتينية والإسلامية، وقد ورد ذكر الحجر في القرآن على أنها موطن قوم ثمود الذين عقروا الناقة التي أرسلها لهم الله آية فأهلكهم بالصيحة.
هناك يحضر من عمق التاريخ بئر ناقة النبي صالح الذي شربت منه، كان مصدر الماء الوحيد في تلك الفترة البعيد، سيدور الزمان، ويبني العثمانيون في القرن الثامن عشر ميلادي حول هذا البئر قلعة الحجر في المدائن.
سيكتب التاريخ أنه على ضفاف وادي القرى كان قد استوطن الأنباط الحجر في القرن الثاني قبل الميلاد وأسسوا حضارة عربية من أعظم حضارات العالم القديم، ذلك أن وفرة المياه في المدينة كان من أهم أسباب استيطانها.
أيها الذاهب إلى مدائن صالح، خفف الوطء وأنت تمشي هناك، وتأمل شواهد حضارة الأنباط، فأنت في واحدة من أعظم المدن القديمة، سترى ما لا عين رأت، سترى أكثر من 150 واجهة صخرية منحوتة، وترى معها عدداً من الآثار الإسلامية التي تتمثل في بعض القلاع وبقايا خط سكة حديد الحجاز التي تمتد حوالي 13 كم.
تأمل أكثر في المنطقة، ستمر على الآثار القديمة التي نحتت ببراعة شديدة كما هو حال قصر الصانع، الذي هو عبارة عن واجهة منحوتة بالأعمدة والزخارف والتماثيل، وفي داخلها حفرة الدفن، وهناك أيضا قصر البنت، وعدد المقابر الموجودة هناك، إنها 30 مقبرة، هي من أجمل مقابر الأنباط.
كلما تجولت، وأجزلت في المسير، سترى معالم تدهشك بروعتها، ستقف عند قصر الفريد، هذا القصر الفريد بانفراده بكتلة صخرية مستقلة نقشت عليها الرسوم، قيل إنه يخص شخصاً يدعى حيان بن كوزا، تابع المشي، ستصل قصر العجوز، وسشاهد عند موطئ قدميك أكثر من 60 بئراً نبطياً محفورة في الصخر.
لا وقت يمر عبثاً في مدائن صالح، والمناطق المحيطة بها، ففي كل خطوة هناك أثر يدل على صفحة من صفحات سجلات الحضارة التي واطنت المكان هنا، فطب نفساً، وتمتع بالتاريخ إذ يعبر عن نفسه، بأبهى صوره، هناك في مدائن صالح.. فيا لعظمة الذاكرة النابضة بكل ما هو مهيب شامخ وجميل على هذه الأرض الطيبة، الراسخة الحضور على مر الزمان.

ذو صلة