مجلة شهرية - العدد (570)  | مارس 2024 م- شعبان 1445 هـ

الباب.. دالّاً ومدلولاً عليه

نقرأ الوجود في صفحة الحياة، ونتهجى (أبواب) متاهاتها باباً تلو باب، نستقصي جمال الحلم ونحن نطرق بابه، ونستقصي وجع الفقد عند بوابة الفراق. ومنذ يدلف المرء من رحم الأم إلى باب الحياة، وهو يبحث عن سعادته، وأمنه، و(أبواب السعادة كثيرة ولكن البشر أحياناً يقفون عند الباب المغلق، ولا ينتبهون إلى الأبواب الأخرى المفتوحة) - كما قالت هيلين كيلر.

ويظل المرء يلهث خلف كل باب يأمل أن تكون خلفه سعادته، وحلمه المأمول. والباب هو مدخل البناية أو البيت أو الغرفة، والباب في الكتاب، هو قسم تنضوي تحته عدة مسائل من جنس واحد، ويخصص لموضوع بعينه، وفي المعاجم بوب الدار: جعل لها باباً، وبوب الكتاب ونحوه: جعله أبواباً، وبوب على العدو: حمل عليه وهجم.
وكان الباب في العصور القديمة ينحت من الصخر والحجر، ثم جاءت الأبواب الخشبية وأفضلها الموسكي والماهوجني والأرو، وهناك أيضاً الأبواب الحديدية، والأبواب المصنوعة من الألومنيوم زيادة في تأمين المكان.
والباب باعتباره دالّاً، كان ولا يزال ملهماً للشعراء، وحاملاً لصورهم الشعرية التي يعلقونها على أبواب قرائهم ومتذوقي نظمهم، فها هو أبو مدين شعيب التلمساني يقول:
أمرُّ على الأبوابِ مِنْ غيرِ حاجةٍ
لعلِّي أراكم أو أرى مَنْ يراكمُ
فالباب هنا مخبأ المأمول، خلفه الحبيب الذي يطمع الشاعر في وصله، ومن أجمل قصائد الشاعر الكبير عبدالرزاق عبدالواحد نقرأ:
لا تَطرُق الباب.. تَدري أنَّهم رَحَلوا
خُذِ المَفاتيحَ وافتَحْ، أيُّها الرَّجُلُ!
أدري سَتَذهَبُ.. تَستَقصي نَوافِذَهُم
كما دأبْتَ.. وَتَسعى حَيثُما دَخَلُوا
فالباب هنا خلفه الألم، وعذاب الفراق، ولوعة رحيل الأحباب، وغصة الوحدة القاتلة.
أما الشاعر العراقي رعد بندر، فيتعاطف مع قلب الباب بقلب الشاعر الرقيق، فيقول:
لا تُوجِع البابَ القديمَ بطرقِهِ
فبهِ من الأوجاعِ ما يكفيهِ
لا تعتبنَّ عليهِ بابٌ فاقِدٌ
أحبابــــــــَهُ ومُفـــــارِقٌ أهليـــهِ
كبُرَ الصغارُ وغادروا عتباتهِ
لكنَّ آثـــــارَ الأصــــــــابعِ فيهِ
ولعل أمير الشعراء أحمد شوقي، كان على حق حينما صك أذنيه عن حديث العاذل، الذي يطلب منه أن يسلو حبيبه، فأعلنها صريحة:
بيني في الحبِّ وبينك ما
لا يَقْـــــــدِرُ واشٍ يُفْسِــــــــدُه
ما بـــالُ العـــاذِلِ يَفتــح لي
بـــابَ السُّلْــــوانِ وأُوصــــِدُه؟
وكما كان الباب شاهد اللقاء الأول بين العاشقين، فهو أيضاً شاهد الفراق واللقاء الأخير، كما عبر الشاعر نزار قباني في قصيدته:
لفظتها، ونحن عند الباب
فهمـتُ كـــلَّ شــــــيءٍ
فهمتُ مِنْ طريقةِ الوداعِ
ومِنْ جُمودِ الثغرِ والأهدابْ
فهمتُ أنِّي لمْ أعُدْ
أكثر مِنْ بطاقةٍ تترك تحتَ البابْ
فهمتُ يا سيِّدتي
أنكِ قدْ فرغتِ مِنْ قراءةِ الكتابْ
وفي غربته يتذكر بدر شاكر السياب (جيكور) قريته، ووجه (غيلان) ولده، وزوجته، وعيناه على الباب، وأذناه بانتظار سماع طرقة من ولده، فلا يطرق باب الغريب سوى الريح، فتذرف عيناه الدمع ويقطر شعره أسى وألماً فيكتب:
البابُ ما قرعتهُ غيرُ الرِّيحِ في الليلِ العميق
البابُ ما قرعتهُ كفك
أينَ كفك والطَّريق
ناء بحار بيننا مُدن صحارى مِنْ ظلام
الرِّيحُ تحملُ لي صدى القبلاتِ منها كالحريق
مِنْ نخلةٍ يعدو إلى أخرى ويزهو في الغمام
البابُ ما قرعتهُ غيرُ الرِّيحِ
آه لعل روحاً في الرياحْ
هامت تمر على المرافئ أو محطاتِ القطار
لتسائل الغرباءَ عني عن غريبٍ أمس راحْ
وفي بكائية موجعة للشاعر السعودي الراحل الدكتور غازي القصيبي يقول:
يا طارقَ البابِ رفقاً حينَ تطرقُهُ
فإنهُ لمْ يعدْ في الدَّارِ أصحابُ
تفرقوا في دروبِ الأرضِ وانتثروا
كأنهُ لمْ يكنْ أنسٌ وأحبابُ
وفي العهد المملوكي أقيمت أبواب مصر، بغية الأمان، إذ كانت تغلق ليلاً على أهل مصر، خوفاً من هجوم مباغت، ومنها: (باب النصر، باب الفتوح، باب زويلة، باب القلعة، باب القرافة، باب الحديد، بوابة المتولي.. وغيرها).
وكذا كانت أبواب دمشق سبعة أبواب على سورها، أنشأها نور الدين زنكي عام 1174م، وهي: (باب السلام، باب توما، باب كيسان، باب الفراديس، باب الجابية، باب شرقي، والباب الصغير).
وها هو أبو العتاهية في إحدى زهدياته يقول:
فَيا عَجَباً تَموتُ، وأنتَ تَبني
وتتَّخِذُ المصَانِعَ والقِبَابَا
أرَاكَ وكُلَّما فَتَّحْتَ بَاباً
مِنَ الدُّنيَا فَتَّحَتَ عليْكَ نَابَا
وفي إحدى قصائده التي كتبها ناصحاً، بعدم التكالب على الدنيا ونعيمها الزائل، وبها تناص مدهش، يقول المعري:
فلتفعلِ النفسُ الجميلَ، لأنهُ
خيرٌ وأحسنُ، لا لأجلِ ثوابِها
في بيتِهِ الحَكمُ، الذي هو صادقٌ،
فأتوا بيوتَ القومِ من أبوابِها
وفي مزج رائع بين الوطن والحبيبة، نرى عاشق فلسطين الشاعر محمود درويش يوظف رمزية الباب في قصيدته التي ينشدها لحبيبته فيقول:
وأنسى بعد حينٍ في لقاءِ العينِ بالعينِ
بأنّا مرةً كنّا وراءَ البابِ إثنين
كلامك كانَ أغنيةً
وكنتُ أحاولُ الإنشادَ
ولكنَّ الشقاءَ أحاطَ بالشفقة الربيعيّة
كلامك كالسنونو طارَ مِنْ بيتي
فهاجرَ بابُ منزلنا وعتبتنا الخريفيّة
وراءك، حيثُ شاءَ الشوقُ
وانكسرتْ مرايانا
وتتنوع الدلالات الرمزية للباب في النص الشعري، لتخلق لغتها الخاصة، صانعة صورة شعرية مغايرة، يقوم فيها خيال الشاعر بتحويل المعنى المادي للباب إلى معنى عاطفي يحمل أحاسيسه وانفعالاته، فالباب هو أحد أهم الرموز الإيحائية التي استخدمها الشعراء للتعبير عن رؤاهم، من خلال ربط تلك الرؤى بهذا الرمز، في شكل لغوي جمالي، يحمل في طياته العمق الدلالي، ويقدم مفهوماً جديداً للنص الشعري.

ذو صلة