مجلة شهرية - العدد (570)  | مارس 2024 م- شعبان 1445 هـ

ذكاء الصحافة أم صحافة الذكاء؟

بحلول الجيل السادس للاتصالات قد يبدو من الممكن أن تذوب الأشكال المعتادة من صناعة الصحافة وسط الذكاءات الصناعية ومع الأدوات والخوارزميات المتجددة والمتطورة، وقد يحدث العكس بأن تستخدم الصحافة ذكاءها المعتاد في التماهي مع التحولات الجديدة وتفرض نفسها وتتعامل وجودياً معها كأي تخصص آخر يطور أدواته باستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي، إذن لا يوجد ألغاز في العنوان، وآمل ألا يوحي بأن الصحافة كانت يوماً من الأيام غبية ثم استذكت فجأة أو أن قطع اللدائن ستلغي شيئاً اسمه صحافة أو تحذفه من التخصصات الاتصالية، فهذا غير واقعي في الوقت الراهن. واستطاعت الصناعة تجاوز اختبار الإعلام الإلكتروني، مع اعترافنا بوجود تأثيرات؛ لكنها استطاعت النجاح بفضل القدرة الفائقة والمرونة الكافية التي تملكها الصناعة للتعامل مع المستجدات والتماهي مع المتغيرات النوعية لكيفية صناعة المحتوى الإعلامي.

لا أدري لماذا تخيف التطورات التكنولوجية صناعة الصحافة وكأنها هشة إلى درجة تأثرها بأي نقلة نوعية ولا أدري أيضاً لماذا لا يكف المشتغلون بهذه المهنة في الحديث عن هذا الموضوع والمضي قدماً في استثمار أي تطور تقني وتكنولوجي بمعزل عن هذا التحوط القلق والمستمر. المتخصصون في سائر العلوم الرياضية والفيزيائية والجيولوجية والعلمية وغيرها من التخصصات الأخرى تغمرهم فرحة عارمة بأي تطورات تقنية تحدث تأثيراً في التخصص إلا عالم الصحافة الذي يرتاب من كل صغيرة وكبيرة، وتضج المجالس والمنتديات والمساحات بهذه الأحاديث المرتابة والمتشككة في مؤامرة القضاء على المهنة، ولا يكاد نقاش يمر إلا وتظهر سلبية من أن تحل الآلة محل البشر، وتفنى هذه الصناعة وجودياً من البشر، وهذه المقالة هي لمعالجة هذا الخلل من فهم العلاقة بين الأداة والمهنة، وكيف يمكن أن تكون هذه التطورات أحد أسباب بزوغ نجم المؤسسات الصحافية التي أفلت بفعل شركات التقنية التي زاحمت شركات الإعلام ردحاً من الزمن وشاركتها بل أكلت جزءاً كبيراً من حصص الدعاية التي تعد من أهم الموارد المالية للمؤسسات الإعلامية.
من الزحف السلحفائي إلى النقلة الضوئية.. نقلة صادمة
من أهم الأسباب التي تدعو المشتغلين بعالم الصحافة نحو القلق من المجهول هو اعتياد الصحافة على تغييرات بطيئة جداً، ومنذ القرن الـ15 وحتى القرن الماضي لم يطرأ تغيير جذري بالمعنى الحقيقي، وإنما تغيرات طفيفة طالت الورق والطباعة والنشر والتوزيع، فيما سجل القرن الحالي تغييرات هائلة وضوئية جاءت بعد الإنترنت والتحول الرقمي، وهذا يعني أن ما حدث في 20 عاماً يوازي ستة قرون مضت من عمر الصحافة بمفهومها الحديث، وبحسب الدكتور محمد القعاري أستاذ الصحافة والاتصال الجماهيري المشارك فإن رحلة الاتصال الإنساني مرت بستة عصور الأول عصر الإشارات والعلامات، والمقصود هو التواصل البدائي بالإشارات والكتابة على الصخور والعظام والرسوم الأولية للغة، ثم العصر الثاني، وهو عصر التخاطب وتكوين اللغة، ثم عصر التدوين والكتابة، ثم عصر الطباعة، ثم عصر الاتصال الجماهيري، ثم العصر الأخير وهو عصر الاتصال التفاعلي، ومنذ بدأ الاتصال التقليدي قبل أكثر من ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد وحتى حقبة ما قبل اختراع آلة الطباعة لم تتطور الصحافة إلا بطريقة بطيئة وبطيئة جداً لكن ومع مرحلة الاتصال الجماهيري ثم الاتصال التفاعلي أصبحت التطورات سريعة ونوعية بشكل مذهل، أذهلت المشتغلين والعاملين والمتخصصين والمستثمرين بشكل صادم أدى إلى ردة فعل مستنكرة للتغيير.
إذن ومنذ الأزل والصناعة في تغير، وإن كان تغيراً غير متساوي السرعة لكنه تغير نوعي وليس وجودياً، وهذا مصدر التخوف، وبعض الآراء تذهب إلى أن أدوات الذكاء الاصطناعي موجودة ومطبقة منذ سنوات ولم تؤثر في الصناعة بل أثرت فيها بصورة إيجابية ونضجت معها شكل الصور الإخراجية باعتبار أن آلات الطباعة القديمة منها والحديثة تعد أحد أشكال أدوات الذكاء الاصطناعي.
هل سيظل باب نجار الصحافة مخلوعاً؟
لم تكد تنجو المؤسسات الصحفية والإعلامية من منافسة شركات التقنية وتتنفس الصعداء بعد تأثيرات الثورة الرقمية لأجيال الإنترنت الأولى وصولاً للخامسة حتى حلت عليها طامة 6G وتحدياتها المقبلة، هذه النقلة الثورية -إن جاز التعبير- كانت صادمة للمهنة ذاتها فضلاً عن المشتغلين بها الذين ظلوا غير مصدقين أنها ستفنى كيفاً وليس نوعاً، وحتى هذه اللحظة هناك مؤسسات صحافية تغلق أبوابها تباعاً مشدوهة من الموقف السريع الذي كان يمكن معالجته في المراحل الأولى، وطفقت بعض المؤسسات تستخدم مرهماً لإخماد حرائق ضخمة، وحاولت جاهدة إيجاد حلول مساعدة للمضي بالمهنة إلى ضفة الأمان، لكن أتت كورونا على البقية الباقية من الحلم القديم ونسفت كل شيء، وتضاعف الضرر وطارت بعض الآمال المعلقة.
نحتاج الآن إلى أكثر من مجرد وعي.. نحتاج إلى يقين. كنا نقول سابقاً إن المتغيرات سريعة ومتلاحقة وهي درجة لا بأس بها من المعرفة والإدراك، ولكن ما نحن بصدده اليوم يحتاج إلى ما هو أعمق من ذلك، إلى اليقين واليقين المطلق بأهمية المتغيرات القادمة التي ستؤثر بلا شك على شكل الصحافة، وقد سلطنا الضوء في النقاط السابقة على أهمية استخدام الذكاء الاصطناعي في الصناعة الإعلامية، ودلالات الوضع الراهن للصحافة، وحتى تتحول الأماني إلى خطوات تنفيذية من المهم البدء بوعي الواقع لمعرفة الصعوبات والتحديات من أجل بذل الاستعداد الجيد والتخطيط المناسب، أولى خطوات ذلك التأكد بأن طريق تحول الصناعة ليس مفروشاً بالورود وسيكون صعباً ويحتاج إلى الكثير والكثير من التخطيط والاستعداد في ضوء جملة من التحديات والصعوبات التي يحدث بعضها الآن، والبعض الآخر سوف يحدث في القريب العاجل، وحتى تكون الصورة واضحة سوف أضع أهم وأبرز تلك الصعوبات والتحديات في التالي وستكون مرتبة بحسب الأهمية:
أولاً: الموارد البشرية
وهي القوة الحقيقية ومن يقودون الدفة لكنهم سيواجهون عقبة التدريب والتغيير ومواجهة التحول السريع. وفي الواقع إن الجامعات لا تقدم مثل هذه الخبرات، ولم ينضج السوق بما فيه الكفاية لتوليد الكفاءات، وعلى المؤسسات الإعلامية التفكير بجدية في وضع رؤية واضحة لما ستؤول إليه الأمور بعد عشرة أعوام من الآن وهو موضوع العنصر القادم.
ثانياً الرؤية الإستراتيجية
لقد وضعت الموارد البشرية أولاً لأنه لا يمكن قيام رؤية إستراتيجية دون العامل البشري القادر على التنفيذ بإحكام، فإن أي عمل ناجح يجب أن يستند إلى إستراتيجية وأهداف واضحة وإمكانات قادرة على تحقيق المستهدفات، وإلا يمكن كتابة خطة إستراتيجية وتعلق على المكاتب والتالي من المتعين أن تبدأ المؤسسات بالامتلاك التدريجي لتقنيات الذكاء الاصطناعي وتوسيع الشراكات محلياً ودولياً من أجل الحصول على التحديثات المتلاحقة واستطلاع براءات الاختراع ودعم المواهب القادرة على إحداث نقلة نوعية من خلال دعم الابتكار، وحتى يتحقق ذلك لابد من تنويع مصادر الدخل لإيجاد حلول تمويلية عبر مراكز الابتكار بعيداً عن عوامل الاستقرار السياسية، أي أن خوارزميات الذكاء الاصطناعي ستكون مرهونة بالأوضاع السياسية في غالب الأوقات مثلها مثل صناعة السلاح التي لا يمكن أن تتملكها كل الدول بطبيعة الحال، والحل هو وجود إستراتيجية واضحة يعني الحصول على فوائد حتمية باعتبار أن للذكاء الاصطناعي القدرة على التنافس في مجال المحتوى الدعائي والتسويقي والبراعة في جذب الشرائح المستهدفة بدقة.
ثالثاً: وعي القائد أو القيادة أو مجلس الإدارة أو المستثمر
بغض النظر عن شكل القائد وبصرف النظر عن الجدل الحاصل الآن فإنه من البديهي التفكير في تحويل الصعوبات إلى فرص والواقع يعكس كيف استطاعت وسائل إعلام في عدد من الدول بالتعامل مع التطورات النوعية في ميدان الصحافة والأخذ بزمام التفقه في التقنية وتوظيف الكوادر المؤهلة والأدوات المناسبة لذا من المهم التحرك فوراً.
رابعاً: الآلة تبقى آلة
فلا يمكن تعويض العقل البشري مهما تطورت الآلة، لأنه مناط التفكير والإبداع، ولا يستطيع الروبوت حالياً الوعي بالتطورات والمثيرات والقدرة على الاستقراء. ومن الجدل الدائر حول هذا التحدي إمكانية الاستغناء لاحقاً عن بعض الوظائف الإعلامية والوظائف الفنية، ومع اعترافنا بوجود حالات تم الاستغناء عن تخصصات لكن هذا لا يعني الإلغاء.
يمكن التقليص بفضل ضعف المهارات المتوفرة أو قلة التدريب أو عدم التخصص، وهذه ليست مسؤولية وسائل الإعلام وحدها؛ بل على المناهج والجامعات والمعاهد إعادة النظر في المخرجات المناسبة لسوق العمل الإعلامي وافتراض أن الآلة ستكون بديلاً للبشر هو افتراض مستمد من أن غرف الأخبار الحالية غير قادرة على التعامل مع الذكاء الاصطناعي. ويسوق المدافعون عن هذا الرأي عدداً من الحجج ومن ظريف القول مقال كتبه بالكامل آلة صناعية ونشرته جريدة (ذا جارديان) في أيلول (سبتمبر) من 2020 وكان عنوانه (هل أنت خائف بعد، يا بشري)؟
ما الخلاصة وما الذي نريد قوله باختصار؟
هناك أمور يتعين مراعاتها حتى تكون الصناعة قادرة على لعب دورها والمنافسة عبر تخطيط قادر على إحداث تغيير واتخاذ تدابير تهدف إلى تحقيق مستهدفات من أبرزها:
أولاً: التخطيط لتنويع مصادر الدخل وما يتعلق بأعمال التطوير والتأهيل والتدريب تشمل النواحي الفنية والبشرية.
ثانياً: التوسع في بناء وجذب جماهير جديدة من مختلف الأعمار والتخصصات واستثمار التقنيات التي تستخدمها منصات الجذب الاجتماعي.
ثالثاً: التركيز على المحتوى من خلال تلوينه والمرونة في تبني المنهجيات والأطر الجديدة والاتجاه نحو عنصرين أثبتا قدرتهما على إحداث التأثير، العنصر الأول المحتوى المتخصص الجاد والعميق عبر المقالات التحليلية والوثائقيات المرئية والبودكاست المسموع، والعنصر الآخر المحتوى الخفيف الترفيهي القصير وتلوين الأخبار الجافة بالأصباغ الإعلانية أي الإعلانات الإخبارية.
إن تشخيص المشكلة جزء من الحل لذا بدأت المؤسسات الإعلامية الانتقال من مرحلة الصحافة الرقمية إلى الذكاء الاصطناعي والأولى جزء صغير من الأخيرة ولا أتفق مع تسميتها بصحافة الموبايل أو صحافة الهواتف الذكية باعتبار أنها صناعة تعتمد على معطيات مختلفة مثل استخدام الأقمار الاصطناعية للاتصال والآلات للنقل الحي المباشر في مناطق يصعب على الإنسان الوصول إليها فضلاً عن المخاوف أن تتحول الدول الأقل استخداماً لأدوات الذكاء الاصطناعي في الإعلام إلى سوق مخترقة من تلك القنوات والتقنيات الحديثة كافة وصولاً لمعلومات سيادية من قبل وسائل الإعلام وصحافة الذكاء الاصطناعي.
ستتطور تجربة الواقع وأجهزة تحديد المواقع، أجهزة الرادار، والسونار والطائرات دون طيار لدعم البيانات المرئية وتحسين نقلها بسلاسة بلا حدود جغرافية، ولا قانونية، ولا قيود على حرية نقل الخبر، أو الوصول إلى المعلومات واشتداد المنافسة، والرابح في السباق من يقتنص تلك الفرص ويستحوذ على أحدث التقنيات الحديثة ويقوم بدمجها في صناعة الإعلام.

ذو صلة