مجلة شهرية - العدد (576)  | سبتمبر 2024 م- ربيع الأول 1446 هـ

(أني) الإربدية في شمال الأردن بين الراهن المعاصر والمستقبل المقبل

(أني) كلمة مشهورة جداً، تستخدم للتعبير عن الذات في اللهجة المحكية لأبناء إربد شمال الأردن على وجه التحديد، حيث يمتاز هذا المجتمع المتكون من مدينة إربد وقراها بلهجة محكية، تختلف اختلافاً واضحاً عن تلك اللهجات في بقية أقاليم المملكة الأردنية، وتختلف أحياناً فيما بينها ببعض المفردات، وتعد امتداداً طبيعياً للهجة الحورانية الممتدة من جنوب سوريا حتى شمال الأردن، بما يُسمى بـ(سهل حوران).
تعد منطقة الدراسة منطقة جغرافية تقع في الشمال الغربي من المملكة الأردنية الهاشمية، تسمى وفق التصنيف الإداري الحديث بمحافظة إربد، حيث الامتداد من الحدود الشمالية مع سوريا، من نهر اليرموك، وصولاً إلى المنطقة الشرقية المتمثلة بسهل حوران، بينما تتصل المنطقة الغربية بالحدود الأردنية الفلسطينية، حيث الهضاب متوسطة الارتفاع، وصولاً إلى قمم المزار الشمالي العالية من الجهة الجنوبية.
تتميز هذه المنطقة المهمة تاريخياً بتعاقب كثير من الحضارات عليها، وقد قطنها كثير من الأقوام الذين عملوا على إغنائها ثقافياً ومعرفياً، الأمر الذي انعكس على اللهجة المحكية المتعاقبة عبر العصور، فالناظر في مفردات هذه اللهجة يرى بكل وضوح، وبما لا يدع مجالاً للشك مدى الأثر الذي تركته الحضارات واللغات السابقة التي مرت على تلك المنطقة. ففي حين نرى وجود بقايا ألفاظ ومفردات عثمانية، كاستخدام حرفي (جي) للدلالة على الحِرفة والمهنة في لهجة إربد المحكية (كهربجي، موسرجي)، نجد أنها هي ذاتها المستخدمة في اللغة العثمانية أثناء الحكم العثماني الممتد لأربعة قرون مضت، وكذلك الأمر بالنسبة للحضارات الأمم الأخرى كالسريانية، والآرامية، والكنعانية، وغيرها.
تتشارك اللهجة الأردنية بخصائص لغوية على جميع المستويات: التركيبية، والنحو والصرف، والمفردات، ولها خصائص يميزها أهل المكان على السليقة من حيث انتمائها لأي منطقة، ففي حين تمتاز اللهجة الإربدية بضم الحرف الأوسط في كثير من المفردات (قَمُح، قَبُر، ...)، نرى أن هذا الحرف يمتاز بالكسر في مناطق أخرى، وقد ظهر التباين لدى أبناء إربد الآن، من خلال استخدام الكسر بدلاً من الضم، أسوة بأصحاب الاتجاه الحداثي من الناطقين باللهجة المدنية، أو ما تسمى باللهجة المتحضرة، في إشارة صريحة إلى أن أولئك المحافظين على اللهجة الأم أصبح يُنظر إليهم نظرة فوقية على اعتبار أنهم من الرجعيين الذين لا يتطورون.
تحتفظ اللهجة الإربدية باستخدام صيغ خاصة لمؤنث ومذكر الجمع في نهايات الكلمات، فيقولون: (هم، هِنّه، إنتو، إنتن)، كذلك نظام النفي الذي يحوي علامتي (ما، مش)، واللتين قد تأتيان متلاصقتين أو منفصلتين، (مش سامع، ما سمعتش) بمعنى (لم أسمع)، كذلك لفظ حرف (ق)، الذي يلفظ على شكل (ج) مصرية غير معطشة. في حين أن صيغة الأمر دائماً تكون باستخدام الأداة (لا)، (لا تسمعش). ومن مزايا اللهجة الإربدية أنها تفخم اللام -أسوة بلفظ الجلالة- في كثير من المفردات (قال، خال، برغل، نخلة، ...)، وهذه الميزة غزاها الترقيق المنتمي إلى الحداثة، حتى أضحى الناس يذهبون باتجاه الترقيق.
(أني) لفظة تستخدم بمعنى (أنا) للدلالة على الذات، ويعود تاريخ هذه المفردة استخداماً إلى ما قبل تكوين الدولة الأردنية الحديثة، لا بل إلى ما قبل الإسلام، حيث يرى الباحث أحمد الزعبي أنها تنتمي إلى مجموعة المفردات السريانية التي بقيت متوارثة في المنطقة كجزء من التراث الثقافي السرياني، الذي ما يزال إلى الآن ماثلاً في اللهجة المحكية، مع عدم المعرفة العلمية لسكان المكان بتاريخ مثل هذه اللهجات، ويكمن سبب الاختلاف عن بقية اللهجات المتناثرة في أنحاء المملكة إلى اختلاف الأقوام والحضارات التي تعاقبت على المنطقة، ففي حين كانت اللغة الآرامية تسيطر على شمال الأردن، نجد أن العمونية وغيرها تسيطر على الوسط، أما الجنوب فكانت لغة الأنباط ماثلة عندهم.
بقيت هذه المفردة دارجة في المجتمع الإربدي حتى وقت قريب، حيث بدأت ملامح الثقافة الحديثة تغير طابع المدينة والقرى، وظهرت ملامح التطور الحضاري الجديد وفناء التراث الشعبي في بداية الأمر لدى الطلبة الجامعيين، الذين أصبحوا مقلدين لما يشاهدونه ويسمعونه من ألفاظ مستجدة على الأذن الإربدية، ولاسيما أن لها استحساناً عند الناس. ومع مرور الوقت أصبح الأمر أكثر انتشاراً حتى غدا المجتمع الإربدي الآن مجتمعاً متحضراً بمفهوم الحضارة الجديد، طارداً للتراث الذي يُعد من وجهة نظر أصحاب الحداثة دلالة على التخلف والرجعية.
إن الإشارة الآتية من الفكر الشعبوي لدى أبناء إربد في لهجتهم المحكية تشير صراحة إلى قرب اندثار مثل هذه المفردات، التي غدت عند الحديث فيها دليل على الرجعية، وموضع سخرية لدى العديد من الأشخاص. فمن الأسباب التي أدت إلى هذا التغيير الاحتكاك الكبير والمباشر الذي كان بين السكان الأصليين، واللاجئين الفلسطينيين بعد حرب 1948م وما بعد، بالإضافة إلى الاحتكاك مع الأفراد القادمين بسبب عمليات النزوح واللجوء على مر الفترة الزمنية الممتدة ما بين بدايات القرن العشرين إلى الزمن الحالي، فتغير النطق بالنسبة لعدد من الحروف، حتى أصبحت القاف همزة (أ)، وأصبحت (أني)، (أنا).

ذو صلة