الثقافة إرث إنساني تشترك الحضارات البشرية في بنائه وتناقله، وأشكالها التعبيرية متنوعة، حصيلة التفاعل بين الإنسان ومظاهر بيئته، هي (مجموع النشاط الفكري والفني بمعناهما الواسع) في وصف المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الإلكسو).
واللغة أداة التعبير هي تلك الأصوات التي يعبر بها كل قوم عن أغراضهم، بكلمات اللغوي ابن جني، إشارة إلى ارتباطها بالجانب الاجتماعي من جهة، وإلى تعددها وتنوعها بتعدد وتنوع الأقوام البشرية، ما نتج عنه علم اللغة الاجتماعي.
إن اللهجات العربية المحلية في مجموعها إثراء ثقافي (حاملة لخصائص الإبداع في الغناء، وفي الشعر الشعبي، وفي النص المسرحي) بعبارة الأكاديمي الكاتب عبدالسلام المسدي، تلتصق باللهجات العربية القديمة، فتتلون بها، وتحتمي في ثناياها، وتندفع فتتدفق في مساراتها النطقية والدلالية.
نسمع صوت الجيم من قراء القرآن الكريم فنجده مركباً (مُعَطشاً)، ونُنْصِتُ لنطقه عند القاهريين فإذا به شديداً، ويأخذ صفة الرخاوة عند أهل الشام وسكان ليبيا، ونتمعن في الألفاظ المقولة فـ(الدَحي) في القطر الليبي يعرفه المصريون بـ(البَيْض)، ويلفظه التونسيون بـ(العظم)، تترسخ وتتعزز جميعها لبناء معجم عربي مشترك.
والتاريخ العربي الإسلامي يحدثنا عن القبائل العربية التي وطأت الأرض الليبية، انتماؤها إلى جُهَينة ولَخَم وجُذام وغسان وهُذَيل وربيعة وطي، وتتعزز بقبائل بني سُلِيم وبطون بني هلال، وبهما تجذرت العربية ورسخت.
يطوف الرحالة العبدري بالآفاق، ويجد نفسه بين أهل برقة في القرن السابع الهجري، فَذُهِل من فصاحة لغة الأعراب فقال: (وعرب برقة اليوم من أفصح عرب رأيناهم، وعرب الحجاز أيضاً فصحاء، ولكن عرب برقة لم يكثر ورود الناس عليهم، فلم يختلط كلامهم بغيره، وهم إلى الآن على عروبتهم لم يفسد من كلامهم إلا القليل).
واختلاف اللهجات العربية المحلية في بلادنا ليبيا هو أثر ظاهر، لا لبس فيه، يرجع إلى تلك القبائل التي استقرت بكل منطقة، والجاحظ يدلنا على أن أهل الأمصار إنما يتكلمون على لغة النازلة فيهم من العرب، فالفتح والإمالة ظاهرتان صوتيتان معروفتان في اللسان العربي من خلال القراءات القرآنية، تتكشفان وتبرزان جلياً في لهجتي برقة ذات الفتح وطرابلس صاحبة الإمالة.
ونرتاد مسار اللهجة الطرابلسية فتستحوذ علينا ألفاظ التصغير: قِهِيوة، وخِبِيزة، وخْويتم، ونْوِيرة، وعْصِيفير، ونستدعي دلالة الاستظراف، فنستطيب تلك الألفاظ ونتذوق أصواتها المغناة!
ويبث ديورانت في قصة الحاضرة مقولته: (من يعرف تاريخ الألفاظ يعرف التاريخ كله) التي تفسح للهجات العربية الليبية مكاناً لها في معجمها اللغوي، فتُفضي إلى إثراء ثقافي متنوع، دعمٌ للمعجمية العربية.
وتوثيق الثقافة المحلية ورصدها في مجالات الفلاحة والرعي والصناعات التقليدية وغيرها، هو الزاد الداعم للثراء الثقافي، ونظرة دقيقة لمعجم الحرفي الليبي في صياغة الذهب والفضة والحياكة والتطريز والنقش وطرق النحاس، يُبدي ذلك العطاء ويبرزه، فالخُرص الذي يحيط بالأذن هو (التكليلة) تنحدر بفتائلها إلى أسفل الوجه، و(الدف) هو الحف، الخشبة العريضة التي تجيء وتذهب في النول، تضم النسيج بعضه إلى بعض.
و(الفارغة) هي قصبة ملفوف عليها الحرير أو الصوف أو القطن، والتسمية باعتبار ما ستؤول إليه، فإنْ لم يكن شيء فيها فهي (شِقْفة) وفي ذلك دلالة على الأثر النفسي في اختيار الألفاظ وتسمياتها، والذر هم الأطفال في لهجة الزنتان، وهو النمل لغةً، استعارته اللهجة لعلاقة المشابهة بين المدلولين، والشَمْلُول في لهجة محروقة بالشاطئ بالجنوب الليبي: ما تفرق من شُعب رؤوس الأغصان الحاملة لتمر النخلة، وهو كذلك لغةً، غصن من الشجرة متشعب.
والإدام ما يُسقى به الطعام من مرق أو حساء، من الجذور العربية الأندلسية التي اصطفت وانتظمت بمحاذاة: الخابية (وعاء للحفظ) والبسيسة (أكلة من حُلبة تُطحن وتُغمر بالزيت) والسِدة (مكان مرتفع تُسْدل عليه الكِلة للنوم) والسفنز (عجين يُرَوب بالتخمير ويُقلى في الزيت، إفطار صباحي) والصردوك (ذَكَرُ الدجاج) والقمجة (قميص نسائي فضفاض مزين بخيوط الفضة يُرتدى في الأعراس).
والشعر الشعبي رصيد للثراء الثقافي بما يحمله من دلالات اجتماعية:
الدُنيا طويلة، والزمان يكافي، واللي عطاك جْمَام رُدَهْ وافي
واللِي جاك صافي النية، وفي القلب ما يحملش ذَرَة سية
اُصدق معاه وكُونْ مِية مِية