الحسين والمداني: المغرب
يستمد المغرب ثراءه اللغوي من تاريخه الحضاري العريق، الذي أثثت تنوعَه ثقافاتٌ وفدت في مراحل معينة كالفينيقية والرومانية واليهودية والعربية...، وتعايشت مع الأمازيغية، مما أفرز تعدداً لغوياً يمثل صدى للظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي عاشها المغرب، ويتناغم مع الاستقرار السائد في غالب الأوقات، والذي أفضى إلى تمزيغ عدد من القبائل وتعريب أخرى بفعل عوامل اجتماعية ودينية.
تشكّل الأمازيغية أحد الروافد الثقافية الأساسية بالمغرب، ظل التواصل الشفهي مهيمناً على لهجاتها وتأدياتها التي تتوزع في مناطق أخرى كالجزائر وليبيا ومصر وجنوب تونس وموريتانيا والنيجر ومالي، وتلبي الحاجات الاجتماعية والإبداعية والتواصلية، وتلتقي كلها في أصل مشترك واضح في معطياته النظرية، كما أن لها حروفها الخاصة التي تسمى تيفيناغ tifinav، اتجاهُ كتابتها الأكثر اعتماداً هو المنحى الأفقي من اليسار إلى اليمين، عُثر عليها في نقوش صخرية قديمة تمتد إلى القرن الخامس الميلادي، وتحضر في الزخارف والنقوش والأوشام...، كما أن لها بنيتها الصوتية وقواعدها ونظاماً اشتقاقياً مرناً يتيح إنتاج المصطلحات الجديدة بالنحت والتركيب المزجي والاقتراض وغيرها.
ورغم التداول اللغوي والثقافي للأمازيغية في دول عديدة، إلا أن الحضور السياسي والفكري يهيمن في المغرب والجزائر أكثر بفعل تراكم موروثها المادي واللامادي في الدولتين، فضلاً عن الحيز الجغرافي والإحصائي الذي يشغله الأمازيغ فيهما، إضافة إلى الإصرار المؤسساتي من جهات رسمية ومدنية وجمعوية للحفاظ على المكوّن الأمازيغي بتنويعاته ومشكّلاته ورموزه وإنتاجاته.
تتفرع اللغة الأمازيغية في المغرب إلى ثلاث لهجات أساسية بخصوصيات فونولوجية ودلالية ومعجمية، وهي تريفيت في الشمال وتمازيغت في الوسط وتشلحيت في الجنوب، تتعايش مع المكوّنات اللغوية/الثقافية الأخرى: (العربية الفصحى، العربية الدارجة، الفرنسية) مما جعل من هذا الوضع مظهراً سوسيولسانياً للتعايش والتفاعل والاقتراض.
واستلزم هذا التعدد سياسة لغوية لتدبيره ومعالجة المشكلات السياسية والاجتماعية والثقافية التي تعيقه، برزت فيها محطاتان أساسيتان:
دراسة الواقع اللغوي بناء على معطيات لسانية وتاريخية واجتماعية..
استشراف الحاجات اللغوية لبناء إستراتيجية لغوية وطنية ضمن نسق شامل.
وقد شكّل الخطاب الملكي لأجدير في 2001 اللبنة الرسمية الأساسية لتوجيه الاهتمام نحو المكون الثقافي الأمازيغي الحاضر في كلّ معالم التاريخ والحضارة المغربية، في أفق إنجاز مشروع مجتمعي ديمقراطي حداثي، يقوم على تأكيد الاعتبار للشخصية الوطنية ورموزها اللغوية والثقافية والحضارية والهوياتية. كما أن تأسيس المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية سعى إلى حماية وتطوير مختلف أشكال التعبير الثقافي المغربي، ومهّد لإصدار القانون التنظيمي لتفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية وإدماجها في مجال التعليم وفي الحياة العامة.
وفي سياق هذه المأسسة يأتي المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية الذي شكّل محطة بارزة في مسار التجاوز الفعلي للمرحلة الشفهية، وذلك بعمله على توثيق الكتابة الأمازيغية سعياً لتسهيل تدريسها وتعلّمها وتداولها وتحقيق انتشارها ضمن رهان تقوية الوحدة الوطنية. غير أن هذه الرهان يتوزعه اختياران:
الأول يرتبط باحترام التعدد اللهجي باعتباره مظهراً هوياتياً يمثل عالماً يضمن الخصوصية والاحتياجات والمعطيات الصياتية لكل فرع لغوي خاص، والثاني يتعلّق بصياغة معيارية تقوم على توحيد البنية الصوتية.
هذان الاختياران يشكلان، في الأصل، معضلة تُعيق المعيَرة، فالتهيئة اللغوية للتقعيد في جميع الجغرافيا الأمازيغية يكاد يكون مستحيلاً أمام اختلاف سياسات الدول التي تضمها، إضافة إلى تعطيل حرف تيفناغ في عدد من المناطق واستبدال الحرف اللاتيني أو العربي به، فضلاً عن التعدد اللهجي حيث نجد في المغرب تريفيت وتمازيغت وتشلحيت، وفي الجزائر تشاويت وتقبايليت وتغارغرنت وتمزابيت....، وفي ليبيا تنفوسيت وتغدامسيت... وفي مصر تسيويت، في مالي تانسلمت وتاضاغت، وفي موريتانيا آزناك... إلخ. وتبعاً لذلك فإن الاشتغال داخل كل قطر بشكل منفصل يغدو حلاً مؤقتاً يفسح المجال أمام التوحيد الكلي لاحقاً، بل إن ثمة من ينادي بمعيرة الفروع اللغوية السائدة كمرحلة أولى، أو ما يسمى بالمعيرة المستقلة، في أفق التهيئة الشاملة للغة الموحَّدة داخل كل قطر، أي المعيرة التجميعية، قبل التوسيع المأمول نحو التوحيد الشامل، ذلك أن هذا الاختيار يضمن الحفاظ على العلامات والرموز والتراث اللغوي والحضاري للقبائل الصغيرة ضد الهيمنة.
وتثير اللغة الأمازيغية المعيار قضية تشكيل لغة أجنبية جديدة تختلف قطعاً عن الفروع، كما أن استعمالها سيظل منحصراً في المؤسسات الإدارية والتعليمية، مما سيفضي إلى الازدواجية اللغوية Diglossia، كما في العربية حيث لغة فصحى لا يمكن معرفتها والتواصل بها إلا عبر قناة المدرسة والتعليم، إلى جانب أخرى عامية متداولة خارج الدوائر الرسمية وتهيمن عليها الشفاهية.
وإذ تقتضي السياسة اللغوية تدبير ومعالجة هذه العوائق، فإن التوجه نحو التوحيد يمر بمراحل، يتم فيها اعتماد الفرع اللغوي في كل منطقة خلال السنوات التعليمية الأولى قبل الانتقال التدريجي نحو إدراك التغيرات الصوتية للتنويعات اللهجية واكتساب المترادفات المختلفة وقواعد الصرف والنحو والتركيب، مما سيفتح التبادل المعرفي والثقافي بين المناطق المختلفة، فضلاً عن التوظيف الرقمي الذي تحقق منه إقرار المنظمة الدولية للمعايير لجميع أوجه حروف تيفيناغ، وإنجاز مركز الدراسات المعلوماتية وأنظمة الإعلام والاتصال لثلاثة معايير ذات أهمية تاريخية للغة والثقافة الأمازيغية، وهي: يونيكود ومعيار الترتيب ومعيار لوحة المفاتيح، فضلاً عن إدراج الأمازيغية من قبل شركة ميكروسوفت ضمن إصداراتها الأخيرة.
فإذا كانت اللغة حاملاً ثقافياً ورؤية خاصة نحو العالم وتراكماً تاريخياً للرموز فإنها ليست شأناً سياسياً خالصاً ضمن التخطيط الرسمي، ولكنها أيضاً -وبشكل أكبر- شأن أكاديمي تستلزم المقاربة الأنثروبولوجية والتاريخية واللسانية والتداولية والثقافية...، وتقتضي التدبير العلمي خلال جميع أطوار التهيئة، وفي هذا السياق يقول عبدالسلام المسدي إن (اللغة أمر جليل، بل لولا خشية المظنات واتقاء انفلات التأويل لقلنا إن اللغة أجلّ من أن تترك بيد السياسيين، والسبب في ذلك أن رجال السياسة يصنعون الزمن الجماعي على مرآة زمنهم الفردي، أما رجال الفكر فينحتون زمنهم على مقاس الزمن الجماعي).
وبناء على ذلك، فإن توسيع شبكة المراكز العلمية التي تعنى بالثقافة الأمازيغية -ومن ضمنها شعب الدراسات الأمازيغية ومختبراتها- لتغطي كل المؤسسات الجامعية بالمملكة، يتيح توفير قاعدة معطيات علمية رصينة ونتائج تسمح ببناء الاختيارات الأكثر فاعلية والأضمن للعدالة والأمن اللغوييين.