مجلة شهرية - العدد (591)  | ديسمبر 2025 م- جمادى الثانية 1447 هـ

شيللر وجوته .. ريادة الرومانتيكية الألمانية

تحتفل ألمانيا هذه الأيام بمرور 265 عاماً على مولد الشاعر الكبير فريدريش شيللر الذي يمثل القطب الآخر من الأدب الألماني، إلى جانب الشاعر يوهان فولفجانج جوته. وقد تمحورت معظم أعمال شيللر حول فكرة الحرية والخلاص من الطغيان.
وإذا كان جوته هو أمير الشعراء وشاعر الأمراء الألمان؛ فإن شيللر هو الشاعر الفقير الثائر على البلاط والأمراء. ورغم تباين ظروف حياة الشاعرين تبايناً واسعاً؛ إلا أنهما صارا صديقين حميمين، واستطاعا أن يتربعا على عرش الأدب الألماني.
توطدت الصلة بين شيللر وبين جوته في فترة إقامته في يينا، وكثيراً ما أمضى جوته أياماً طويلة معه عند زيارته إلى يينا، وكثيراً ما تبادلا الرأي في مختلف الموضوعات، واعترف جوته بأن شيللر هو صاحب الفضل في إعادته إلى كتابة الشعر بعد انقطاعه عنه، واتجاهه إلى العلم، وأنه أعاده إلى الشباب ثانية، واشتركا سوياً في كتابة (إبيجرامات) تميزت بشدة سخريتها، وفي هذه الفترة وهن اهتمام شيللر بالفلسفة والميتافيزيقا، وازدادت عنايته بالشعر، وقد يعزى هذا التغير إلى جوته، لأنه كان يرى الشعر في منزلة أسمى من الفلسفة، ففيه على حد قوله كل شيء يبدو في صور حقيقية حية بهيجة متوافقة، بعكس الفلسفة التي تظهر الأشياء جامدة مجردة مصطنعة، ففي الشعر تبدو الحياة في صورة متآلفة، أما الفلسفة فتظهرها مليئة بالنقائض.
لم يختلف المؤرخون كثيراً في إشادتهم بدور شيللر وبدور جوته في خلق أدب ألماني عالمي، ولم تعرف أكثر المحاولات الأدبية السابقة لهما خارج ألمانيا إلا فيما ندر، ولا يختلف المؤرخون كذلك في الثناء على شيللر، وتشامخه واعتزازه بذاته، وعدم استسلامه لليأس أو القنوط، لأنه لم يكن متشائماً، إذ اعتقد في وجود قوة في الإنسان تساعده على التسامي والتحليق بعيداً عن أوصاب الحياة.
من البدء، ينبغي التنويه بأننا لن نتناول هنا إلا دور شيللر في صورة عرضية عابرة من جوانبه الأدبية المتعددة، التي تمثلت في شاعريته الفذة، باعتباره من أعظم ممثلي الأدب الألماني الحديث، كما تمثلت في دوره الكبير بالتمهيد للحركة الرومانتيكية بألمانيا، لذا فقد يكون من المستوجب في حالة شيللر، وأمثاله من أصحاب المواهب المتعددة، ألا يقتصر الأمر على مقال واحد في التعريف بتراثهم الإنساني.
يقال إن شيللر كان يحب الوحدة منذ طفولته، لهذا كره القيود المدرسية، وأحب الانطلاق في الجبال والغابات، وكثيراً ما سأل أمه في طفولته عدة أسئلة تدل على حيرة ميتافيزيقية ولهفة إلى معرفة سر الوجود.
يقول شيللر في رسالته الثامنة: لن أستطيع إخفاء تقديري للميزات التي يفخر الجيل الحاضر بها، إذا نظرنا إليه في مجموعة، ونحن إذا اتبعنا المنطق، رأينا أننا قد تفوقنا على أفضل صور مجتمعات الماضي. ولكن هل يرضى أي فرد الآن المقارنة بأي يوناني؛ من حيث التمتع بالخصائص الإنسانية؟
فما هو سر المحنة التي تعرض لها الناس من ناحيتهم الفردية برغم كل المميزات التي حصلوا عليها من مجموعهم؟ ولماذا تميز الفرد أيام اليونانيين بمميزات جعلته أفضل ممثل لعصره؟ ولماذا لا يستطيع الفرد الحديث مماثلته في هذا الشأن؟ إن هذا يرجع إلى تأثر اليونانيين بالطبيعة ووحدتها، ومحاولتهم الاقتداء بها، أما ما بدا من تمزق في حالة المحدثين، فيرجع إلى (الفهم) واتجاهه إلى التحليل والتمزيق.
إن ما أصاب الإنسانية الحديثة من جراح إنما يرجع إلى الحضارة. فلقد تطلبت التجربة بعد اتساعها، وما تحتاج إليه من دقة في التأمل؛ وجوب إقامة قسمة حادة بين العموم. وعلاوة على ذلك، فإن جهاز الدولة المعقدة قد اقتضى توزيع المهام والمراتب، فأدى هذا إلى تمزق أواصر الطبيعة الإنسانية، وإلى حدوث عداء بين ملكة الحدس، وملكة الفهم، وأقام كل منها حدوداً حوله، ونظر بعين الشك والريبة إلى كل من يحاول الاعتداء على هذه الحدود، وأصبحت أفعالنا مقصورة على مجال واحد، كما أصبحنا في قبضة سيد واحد، يميل في أكثر الأحيان إلى قمع باقي ملكاتنا، فمن ناحية، يفسد خيالنا المترف كل الثمار التي حصل عليها الذهن. ومن ناحية ثانية، تطفئ روح التجريد جذوة الخيال المشتعلة للفنان وعصره.
التربية الجمالية عند شيللر
هنا تأتي رسائل شيللر الفلسفية، ومقاله عن الصلاح والغفران أو النعمة والكرامة، ورسائله عن الشعر في صورته الفطرية، وفي صورته العاطفية،، وسنعنى في هذا المقال لتقديم القليل من رسائله الفلسفية، وعنوانها (حول التربية الجمالية للناس) أو (في التربية الجمالية للإنسان)
في الرسالة التاسعة جاء قوله:
لا جدال أن الفنان ابن زمانه، والويل له، إن كان هذا يعني خضوعه الكامل له، أو حتى أن يكون من المفضلين في نظر هذا الزمان، فيا حبذا لو التقط إليه الطفل في الوقت المناسب، من أحضان أمه، ويا حبذا لو أرضعه لبناً ينتمي إلى عصر أفضل، واستطاع أن يرعاه حتى يصل مرحلة النضج تحت ظل سماء اليونان القصية، فإذا بلغ أشده، يعود ثانية إلى عصره شخصاً آخر مختلفاً عنه، مثل ابن أجاممنون، إذ أنه سيعمل على تطهيره، والفنان مضطر ولا ريب إلى اختيار موضوعه من الحاضر، أما الشكل الذي يظهر فيه هذا الموضوع، فلا بد أن يستعيره من زمان، أعني من وحدة وجوده المطلقة التي تتغير، فهناك في أعماق كيانه، الذي يماثل الأثير في صفائه، ينساب ينبوع الجمال، دون أن يتلوث بفعل فساد الأجيال والعصور المتلاحقة، التي تعيث في غياهب الظلام.
لقد سجد الرومانيون طويلاً في القرن الأول الميلادي أمام قياصرهم، بينما وقفت تماثيل الآلهة شامخة الرأس، كما ظلت المعابد مقدسة في أعين الناس، حتى بعد أن أصبح الآلهة موضع سخرية، وبدت جرائم نيرون مثيرة للاشمئزاز بالمقارنة بالأبنية الرائعة التي طغت بمظهرها على هذه الجرائم، وفقدت الإنسانية عزتها وكرامتها، ولكن الفن استطاع إنقاذها وحفظها في أحجار باقية الأثر، إن الحقائق تستطيع أن تحيا في وسط الخداع، وأصل الأشياء سيستعاد يوماً ما حتى من خلال صورة، وكما استطاع الفن الرفيع أن يحيي الطبيعة المجيدة، فإنه كذلك يستطيع أن يتقدمها، وبفضل إلهامها، يستطيع أن يتنبه وأن يبدع، فقبل أن تشع الحقيقة في أعماق القلب، يكشف الخيال ملامحها، لأن قمم جبال الإنسانية تبدو متوهجة في الوقت الذي يخيم الظلام في أوديتها.
ولكن كيف يستطيع الفنان أن يؤمن نفسه في وجه فساد زمانه الذي يحيط به من كل جانب؟ الرد على ذلك هو أن يزدري معتقداته، فعليه أن ينظر بعيداً إلى أمجاده وشرائعه الخالدة، بدلاً من أن يفكر في الحظ وتفاهات الحياة اليومية، فمن الضروري أن يتحرر من السعي الذي لا طائل وراءه، الذي تتسم به اللحظات العابرة، وأن يتجنب روح المبالغة العابثة التي تطبق معايير المطلق على أشياء عرضية زائلة، وعليه أن يدع عالم الأشياء الفعلية إلى الفهم باعتباره أقدر على ذلك، وأن يسعى لإبداع (المثال)، بعد التوفيق بين الممكن والضروري. التنويه بقيمة الشكل.
وفي الرسالة الثانية والعشرين نختار رؤيته عن مهمة الفنان، فيقول:
ولا يقتصر واجب الفنان على التغلب على القصور الكامن في طابع نوع الفن الذي يتناوله، بل عليه كذلك التغلب على كل قصور يرجع إلى طبيعة مادته الفنية الوسيطة كذلك، ففي العمل الفني الجميل الحق، ليس هناك دور ما للمضمون، لأن كل شيء يعتمد على الشكل، فالإنسان في كليته، لا يتأثر إلا بالشكل. وقدراته الجزئية وحدها هي التي تتأثر بالمضمون، ومهما اتصف المضمون بالسمو وسهولة الإدراك، فإنه لا يبدو في نظر الروح إلا في صورة عائق يعوق حريتها ولا تشعر الروح بحريتها الجمالية (الاستاطيقية) الحقة إلا عند اطلاعها على الشكل.
وتتجلى براعة الفنان لهذا السبب في قدرته على تحطيم مادة العمل الفني بوساطة الشكل. وكلما اتصفت هذه المادة بطابعها المهيب وصلابتها وسحرها، ازداد تحكمها وهيمنتها، وكلما زاد ميل متأمل العمل الفني إلى الاهتمام بالمادة، ازدادت قمة الفن الذي يملي ناحيته المادية، والذي يؤكد سيطرة المادة على الشكل، ومن الواجب أن يكون متذوق العمل الفني حراً، غير خاضع لهوى، أو غارق في الحس، ويجب أن يتصف العمل الفني بعد خروجه من بين يدي الفنان السحريتين بالنقاء والكمال، وكأنه قد صدر عن الخالق ذاته، فإذا تناول الفنان أتفه الموضوعات، جعلنا نتقبله تقبلاً مماثلاً لتقبل أكثر الموضوعات جدية.
يقول: كما ينبغي أن الموضوعات الجادة تعالج بحيث نستطيع أن نتلقاها بسهولة ويسر مماثلين لأبسط أنواع اللعب، ولا تستثنى من ذلك الفنون المعتمدة على العاطفة مثل المأساة، فمن ناحية، هذه الفنون ليست حرة حرية كاملة، لأنها تخدم غرضاً معيناً هو إثارة النفس. ولن يميل أي محب للفنون إلى إنكار اعتماد قيمة مثل هذا النوع من الأعمال الفنية على مدى قدرتها على إظهار حرية الروح، مهما أثارت مشاعرنا، فهناك فن رفيع يتناول الانفعالات والعواطف غير أنه لا وجود لفن رفيع يرمي إلى إثارة المشاعر، لأن هذه العبارة تتضمن تناقضاً منطقياً، لأن أول تأثير حتمي للجميل هو التحرر من الخضوع للعواطف، ومن العبارات المتناقضة كذلك، القول بفن تهذيبي أو تقويمي، فليس هناك تعارض مع تصور الجميل أكثر من القول بأن له تأثيراً توجيهياً على السلوك.
ومع هذا، فلا يلزم أن يكون العمل الفني خالياً من الشكل إذا لم يتأثر المتذوق بغير مضمونه، فكثيراً ما يرجع ذلك إلى افتقار المتذوق للقدرة على إدراك الشكل، فإذا اتصف المتذوق ببلادة حسه أو شدة توتره، وإذا اعتاد الاعتماد على الفهم وحده أو على حواسه وحدها؛ فإنه لن يستطيع إدراك العمل الفني، إلا في صورة جزئية، مهما اتصف بكليته، كما أنه لن يستطيع إدراك أكثر من مادته حتى لو كان له أجمل الأشكال.
فبحكم استجابته للمادة الأولية فقط، فإنه مرغم على استبعاد كل الملامح الجمالية في العمل الفني، قبل أن يتمكن من الاستمتاع به. كما أنه لن يعنى إلا بالكشف عن الخصائص الجزئية التي حرص الفنان ببراعة فنية فائقة على إخفائها، بحيث لا تؤثر على تآلف العمل الفني في كليته، لأن ما يعنيه في العمل الفني هو غايته الأخلاقية أو الحسية، أما الغاية الجمالية، التي تمثل غاية العمل الفني الحق فلا تعنيه بالمرة.
والقراء الذين ينتمون إلى هذه الطائفة يستمتعون بالعمل الفني الجاد، وكأنه موعظة، كما أن تأثير الملهاة لا يختلف عندهم عن تأثير أية مادة مخدرة، فهم إذا افتقروا إلى الذوق، لن يبحثوا عند تذوقهم المأساة أو ملحمة عظيمة مثل (المسيح) لكلوبشتوك، عن غير جوانبها التهذيبية، كما أنهم لن يشعروا بأي اشمئزاز عند قراءة قصيدة غنائية مؤلفة على طريقة أناكريون أو كاتوللوس.
يرى شيللر أن ما يقال في الإشادة بحضارتنا ورقينا ونحن محقون في رأينا عند المقارنة بالطبيعة في حالة فطرتها فحسب؛ لن يكون في صالحنا، أما في حالة المقارنة بأحوال اليونانيين، الذين جمعوا بين سحر الفن، ووقار الحكمة، بغير أن يصبحوا ضحية لهما كما هو الحال عندنا، وسنشعر بالخزي عندما نقارن باليونانيين، لتميزهم بالبساطة التي تعد غريبة عن عصرنا، بل لأنهم قد كانوا منافسين لنا، كما كانوا بحق في أغلب الأحيان، أفضل نماذج لنا في كل نواحي التفوق، التي تشعرنا بالأسى، بسبب تكلف أحوالنا. واليونانيون، بفضل جمعهم بين اكتمال الشكل واكتمال المضمون؛ التقى عندهم عمق الفلسفة بالجوانب الخلاقة، كما التقت الرقة والحيوية، فقد استطاعوا تحقيق التآلف بين الخيال في نضارته، وعنفوان العقل، في صورة إنسانية رائعة.
ففي ذلك الوقت، عندما تنبهت قوى الفكر في تلك الصورة الرائعة، لم يكن هناك انفصال بين الجانب الحسي، والجانب العقلي، فلم يظهر بينهما خلاف يدعو إلى تعارضهما، أو إقامة حدود تفصلهما، فالشعر لم يكن قد أصبح شعر مناسبات أو شعر ندماء، كما أن التأمل لم يكن قد تلوث بالسفسطة، وكان من المستطاع اضطلاع كل من الشعر والفلسفة بنفس الدور باعتبارهما ينشدان الحقيقة، كل وفقاً لطابعه وخصائصه، فمهما حلقت الروح بعيداً، فإنها لا تنسى تحديد موضوعها، ومهما اضطرت إلى إقامة تقسيمات حادة فإنها لا تضطر إلى المسخ أو البتر، ولقد قامت بالفعل بتجزئة الطبيعة الإنسانية، ووزعت مكوناتها المختلفة على مجموعة الآلهة.
ولكن هذا لم يعنِ تمزيق هذه الطبيعة إرباً، فعلى العكس، مثلت هذه الآلهة الإنسانية مكتملة، باتباع سبل مختلفة، لأن الإنسانية كانت على الدوام ممثلة في صورة كل إله بمفرده، فكم هناك من اختلاف بينهم وبيننا نحن المحدثين! فعندنا كذلك قد قسمت صورة الإنسانية على نطاق واسع بين الأفراد، ولكن هذه القسمة قد بدت ذات طابع جزئي فلم تظهر الأجزاء في صورة وحدات متكاملة، ولهذا علينا أن نتعرف إلى كل فرد على حدة، حتى نستطيع أن نحيط بالإنسانية إحاطة كاملة، وربما شعرنا بالميل إلى القول بأن الملكات الإنسانية في حالتنا تظهر وكأنما تعمل منفردة، مثلما تبدو عندما يقوم بدراستها علم النفس.
ولهذا فإننا لا نرى أفراداً متكاملين، بل نرى طوائف كاملة من الناس لا يقومون بتنمية أكثر من جانب واحد من قدراتهم، بينما لا يظهر الباقون أكثر من آثار واهنة من طبائعهم، تجعلهم يبدون مثل النباتات العاجزة عن النمو.

ذو صلة