إن مما هو مسلّم به، أنه لا يمكن الاستغناء عن معطيات الأنواع الأدبية فيما قبل الإنترنت، ولهذا، فالأديب الرقمي التفاعلي لا يستطيع أن يستغني عن دور الكلمة السردية في نصوصه الإبداعية، أو أن يتخذ طريقة تعبيرية مخالفة تماماً لما كان قبلاً...، فكل أديب عصر يفيد من سابقه، مراعياً مستجدات للتكنولوجيا وتقنياتها، ولذلك (تطورت الأنواع الأدبية التقليدية المتعارف عليها من شعر وقصة ورواية ومسرح، وتغير شكلها، حيث اكتست هذه الأنواع لباس الرقمنة العصرية والشابكة المتواصلة وعرف ما يسمى بالأدب التفاعلي ويتجلى فيما يسمى بالرواية التفاعلية والمسرح التفاعلي والشعر التفاعلي والمقال التفاعلي، لم يعد المشهد الأدبي والروائي على وجه الخصوص قادراً على تجاهل التطور العلمي والتكنولوجي)، وبظهور تلك الأنماط الرقمية التفاعلية، لا يعني انفصامها وانفصالها عما قبلها من أدب ما قبل الإنترنت، وإنما ترابطها وامتدادها مع بعضها.
وسيتوقف الباحث عند الأنواع الأدبية ودخولها حقل الرقمنة، كما يلي:
أولاً : الشعر الرقمي التفاعلي
لقد دخل الشعر العربي حقل الرقمنة التفاعلية واكتملت أركانه، واستوى على سوقه على يد رائده الأول د. مشتاق معن، بتجربته الأولى (تباريح رقمية لسيرة بعضها أزرق) عام 2007م، إلى جانب وجود تجارب أخرى أمثال تجربة منعم أزرق في مجموعته (شجر البوغاز 2008م)، ثم ظهرت بعد ذلك تجربة أخرى عام 2017م لرائد الشعر الرقمي د. مشتاق (لا متناهيات الجدار الناري)، إلى جانب أحدث إصدار رقمي للشاعر نفسه، في مجموعته (وجع مسن 2020م) التي تتميز عن تجاربه، بكونها تجمع بيت الأصالة والمعاصرة لفظاً ومعنى، فهي من نوع (العمود الومضة) التي لا تتجاوز أبيات قصائدها سبعة أبيات، وكأنها مقطوعات شعرية في أبياتها، وحديثة لأنها تعبر عن المعنى واللفظ بكونها (محدودية تختزل الأبيات إلى ما دون السبعة، إلى جانب تكثيف الدلالة وتعددها بأقل ألفاظ، وكذلك سمة الإيماضية، فالنص الشعري يتوزع بين آليتي (الظهور والخفاء) فمنه ما يظهر للمتلقي، ومنه ما يختفي)، وبهذا تعد هذه المجموعة في صورتيها الرقمية والتكنو ورقية أحدث إصدار تتوافر فيه خصائص الشعر الرقمي التفاعلي العربي حتى الآن.
ثانياً : المسرح الرقمي التفاعلي
لقد اهتدى الغرب إلي المسرح الرقمي التفاعلي قبل العرب بعقود عدة، فقد نضجت إبداعات غربية في الثمانينات، حيث (يعد (تشارلز Charles Deemer) رائد (المسرح التفاعلي) في الأدب الغربي بلا منازع، فقد ألف أول مسرحية تفاعلية عام 1985م، باستخدام برنامج (Iris)، وتعد مسرحية (Chateau de mort) أول (مسرحية تفاعلية)، وكذلك مسرحية الروائي الروسي (تشيكوف Chekhov) بإبداعه مسرحية (النورس البحري Seagull) في القرن التاسع عشر)، فهاتان المسرحيتان أرخت لظهور المسرح الرقمي التفاعلي في الغرب، وعلى الجانب العربي، فلم يهتد المبدعون العرب إلى الكتابة الفعلية في المسرح الرقمي التفاعلي إلا في القرن الحادي والعشرين على يد المبدع العراقي: (د. محمد حسين حبيب) وأصدقائه بعنوان (مقهى بغداد) بأسلوب عرض مختلف عما كان معهوداً، فقد كانت في صورة افتراضية (لمقهى في بلجيكا وآخر في بغداد وعدد من الأجهزة (كمبيوتر، أجهزة إضاءة، ساحة المقهى هنا وهناك) ثم فريق هنا للمشاركة والمتابعة، وفريق هناك كذلك، وقد عرضت المسرحية عام 2006م)، لم تتوقف إبداعات العرب عند هذه المسرحية، فقد ظهرت بعض التجارب لمبدعها د. حمزة قريرة على مدونته (الفن والأدب التفاعلي) لمسرحيته الرقمية التفاعلية: (بلا نظارات الحياة أفضل)، وهي تجربة بدائية في عناصرها الفنية، فهي لا ترقى لكونها مسرحية رقمية تفاعلية تكتمل أركانها الموضوعية والفنية، بقدر ما هي مكتملة البناء الرقمي التفاعلي، ولهذا يعد المسرح الرقمي التفاعلي أقل جنس أدبي تتوافر فيه نصوص إبداعية على الساحة العربية حاليّاً.
ثالثاً: القصة الرقمية التفاعلية
لم تتوقف الأنواع الأدبية عند أدب الكبار فحسب، وإنما أنتجت أنماط للقصة تتناسب وطبيعة المرحلة العمرية التي يناسبها المرح واللعب وحب التفاعلية...، كل هذا يتوافر في خصائص الواقع الافتراضي لنماذج القصة الرقمية التفاعلية للأطفال، وتعد (قصة العقرب) (أول قصة رقمية تكتمل فيها شروط الأدب التفاعلي، وإن كانت هناك بعض التجارب السابقة في هذا المجال، كتطبيق (ناصر) أو تطبيق (الهدهد))، ومن ثم حققت تلك القصص ما يتلاءم مع طبيعة الطفل وإدخاله في عالم افتراضي يتعايش به مع واقع حاضره ومستقبله، القصة الرقمية التفاعلية قد أسهمت في العملية التعليمية والتربوية، فقصص الأطفال الرقمية التفاعلية هدفها غرس قيمة تعليمة أو تربوية لمرحلته العمرية، لاسيما في مجال التعليم، فهناك نمط القصص التعليمة الرقمية التفاعلية المستخدم في مجال التعليم هدفها التواصل العلمي بين المعلم والتلميذ.
رابعاً: الرواية الرقمية التفاعلية
لقد تمثل الروائيون الغربيون حمل لواء ريادة الرواية الرقمية التفاعلية قبل العرب بعشرات السنين، ومن هنا، ينبغي التوقف عند تاريخ ظهور الرواية الرقمية التفاعلية عند الغرب أولاً، ثم بعدها يأتي الحديث بشكل أكثر تفصيلاً عن تاريخ ظهور الرواية الافتراضية العربية وأنماطها حسب وسيطها، وذلك فيما يلي:
نشأة الرواية الافتراضية الرقمية التفاعلية
لقد سبق ظهور الرواية الرقمية التفاعلية في الغرب من الثمانينات في صورة ناضجة، مكتملة الأركان، إذ (تعد رواية (الظهيرة، قصة) من كلاسيكيات الأدب التفاعلي، وذلك لأنها أول رواية تفاعلية على المستوى العالمي، ألفها (ميشيل جويس) عام 1986م، مستخدماً البرنامج الذي وضعه بمعية (ديفيد جي بولتر) في عام 1984م، وأسمياه (المسرد)، وبعد مرور عشر سنوات من صدور الرواية التفاعلية الأولى في العالم باللغة الإنجليزية، صدرت أول روايتين تفاعليتين فرنسيتين عام 1996م، على قرص مضغوط، إحداهما بعنوان: (عشرين في المئة حب زيادة) للروائي (فرانسوا كولون) والأخرى بعنوان: (الزمن القذر) للروائي (فرانك دوفور)، كما صدرت رواية أخرى من العام نفسه (1996م)، بعنوان: (شروق شمس 69) للروائي (روبرت أرلانو) المعروف باسم (بوبي رابيد)، وليست هذه الروايات كل ما كتب في الأدب الغربي، لأنها أكثر من أن تحصى أو تُستقصى)، وهذه الطفرة التفاعلية للرواية الغربية، كان لها عوامل عدة، ساعدت على ظهورها وانتشارها، وذلك أنها (حينما كانت في مهدها ظهرت في تربة الأدب الغربي الذي عرف التكنولوجيا الحديثة وزاوج بينها وبينه، فتمخضت عن تلك المزاوجة أشكال مختلفة من الإنتاج الذي عرف بـ (الأدب الرقمي) ووصف بالأدب الإلكتروني، أو (التكنو أدبي) ومنه جنس الروواية التفاعلية)، وبهذه الإمكانيات حاز الأدباء الغربيون التفاعليون أولية الكتابة التفاعلية قبل العرب، بما أتيح لهم من نهضة تكنولوجية لبلادهم، إلى جانب طبيعة لغتهم التي هي اللغة الأساسية للبرمجيات الحاسوبية الحديثة.
ثم ظهرت الرواية الرقمية التفاعلية عند العرب أوائل الألفية الثالثة، فقد حمل لواءها في الوطن العربي المبدع الرقمي التفاعلي الروائي/ محمد سناجلة، وذلك من عام 2001م، حينما أنتج الرواية الرقمية التفاعلية (في ظلال الواحد).
وتعرف الرواية الرقمية التفاعلية بأنها هي تلك الرواية (التي تم إبداعها بواسطة الوسيط الرقمي ويتخذ المبدعون الذين يمكن وصفهم بالمصممين من بيئة الحاسوب والإنترنت ساحة لتشكيل تجاربهم وتقديمها رقمياً، فأصبح القراء أمام أشكال سردية رقمية لا يمكن قراءتها إلا من خلال الاتصال بالإنترنت، وهي أشكال قصصية، لأنها اعتمدت في نسيجها على مقومات السرد القصصي: السرد والراوي والشخصيات والزمان والمكان...، لكنها لم تكتف بهذه المقومات، بل أضافت إليها مؤثرات أخرى رقمية مستمدة من الوسيط الرقمي)، ومن هذا يتضح أن رواية ما قبل الإنترنت قد وظفت بعض التقنيات الواقعية الافتراضية بوسيطها الورقي، وبخاصة مصطلحات التكنولوجيا الحديثة وبعض التطبيقات الحاسوبية (شات) وغيره مع الشخصيات، لكن بعد ظهور الرواية الرقمية الافتراضية انتقلت تلك الافتراضية الورقية إلى الواقعية الافتراضية الرقمية التفاعلية، عبر وسيط حاسوبي متصل بالإنترنت، إلى جانب توظيف الوسائط المتعددة والروابط المتشعبة التي افتقدتها الرواية الورقية الافتراضية، فلم تَعْدُ قدر وسيطها الورقي.