يبدو أن المرء لا يشرع في كتابة سيرته إلا عندما يشعر بأن داخله صدى لا يكفّ عن المطالبة بالإنصات، وكأن حياته بكل ما امتلأت به من عثرات وومضات وانكسارات وارتفاعات تريد أن تُعاد صياغتها خارج حدود الذاكرة، كي تستقر في نص قادر على حملها إلى الآخرين. ليست السيرة مجرّد استدعاء لما جرى، بل إعادة ترتيب لما تراكم، وإعادة نظر فيما ظنّ المرء أنه تجاوزه. ولعل اللحظة التي يدرك فيها الكاتب أنه يكتب ذاته هي اللحظة نفسها التي يتعرّى فيها أمام نصه، من دون أن يفقد كرامته أو يتخلى عن قدرته على الحكي بوعي نقدي ينقذ السيرة من الوقوع في فخ البوح الطائش.
حين يسأل المرء: كيف أكتب نفسي؟ فإنه يطرح سؤالاً أعمق من حيلة لغوية أو رغبة في التوثيق، إنه سؤال الهوية وهي تتعامل مع مرايا متعددة، بعضها صافٍ وبعضها غائم وبعضها مشروخ، فيقف الكاتب كمن يتنقّل بين هذه المرايا بحثاً عن صورة تستحق الثبات، مع يقينه أن الصورة مهما بدت مكتملة فهي مشدودة دائماً إلى نقص ما، أو فائض ما، أو رغبةٍ في أن تُفهم بطريقة لا تُختزل في حدث أو جملة أو موقف.
التجلي الأول للسيرة يبدأ من تلك الرغبة القلقة في الإمساك بالذات قبل أن تفلت، رغبة تتقدم بحذر وتراجع، كأن المرء يخشى أن يضع يده على جزء من حياته فيكتشف أنه ليس ملكه تماماً. فالذاكرة، مهما بدت سخية، تخون أحياناً، تمحو حدثاً ظنناه مؤسساً، وتضخّم تفصيلة عابرة حتى تسيطر على المشهد كله. لذلك لا تُكتب السيرة بوصفها سجلاً لما حدث، بل بوصفها محاولة لإعادة بناء الذات التي اختبرت ما حدث، والفرق بين الأمرين يشبه الفرق بين سرد الطريق ووصف الرحلة: الأول يحصي المسافات، أما الثاني فيلتقط ما أضاء الروح وما أثقلها.
والتحوّل الثاني يظهر حين يدرك الكاتب أن السيرة ليست مرايا تُرى فيها الذات وحدها، بل نوافذ يطلّ منها الآخرون أيضاً، فالنص الذي يظنه المرء ذاتياً خالصاً يتحوّل سريعاً إلى مساحة مشتركة، يدخلها القارئ بعينه وتجربته وفقده وأسئلته. وهنا تتحول السيرة من كتابة تتبع أثراً فردياً إلى كتابة تُنصت لنبض جمعي في الخلفية. فكل سيرة، مهما بدت خاصة، تحمل طبقة غير مرئية من تاريخ العائلة والمدرسة والمدينة واللغة والأحلام التي صودرت والأخرى التي قاومت لتبقى. وحتى ذلك الألم الذي يظنه المرء حكراً عليه يتوزع بمجرد أن ينتقل إلى الصفحة، ويصبح جزءاً من أرشيف شعوري أوسع مما تخيّل.
وقد يسهّل على المرء فهم هذا التعقيد أن يتأمل كيف كتب كبار الكتّاب أنفسهم، فكل منهم لجأ إلى زاوية مختلفة كي يرى ذاته بوضوح. فطه حسين أعاد تشكيل طفولته في (الأيام) عبر صوت يوازن بين الحنان والصرامة، مانحاً ذاكرته عمقاً لم يكن متاحاً وقت حدوث الوقائع. ومحمد شكري فتح باباً آخر تماماً، إذ واجه حياته الأولى مواجهة لا تتوارى خلف المجاز، فحوّل قسوته إلى مادة تضيء ما هو إنساني في التجربة مهما اشتد ظلامها. أما العقاد فقد كتب نفسه في (أنا) كما لو كان يكتب بياناً فكرياً، جاعلاً من سيرته امتداداً لرؤيته للعالم وللثقافة. وتمضي السيرة مع محفوظ في اتجاه مختلف، فهو لم يكتبها كتابة مباشرة، بل سمح لها بأن تتشكل في الحوارات الطويلة التي تتردد فيها نبرة التأمل أكثر من نبرة الاعتراف. هذه النماذج، على اختلافها، تكشف أن كتابة الذات ليست قالباً ثابتاً، بل حركة مستمرة بين ما حدث فعلاً وما يعنيه هذا الحدث حين يعود الكاتب إليه بعينٍ أكثر نضجاً وهدوءاً.
ثم تأتي لحظة أكثر حساسية، لحظة يكتشف فيها الكاتب أن حياته الواقعية ليست خامة جاهزة، بل مادة تحتاج إلى التأويل. فالكتابة لا تقبل أن تُساق إليها الأحداث كما هي، كل حدث يطالب بالتفسير، وكل تفسير يفتح باباً جديداً للمعنى، وكل معنى يجرّ خلفه سلسلة من الأسئلة التي قد يتردّد الكاتب في مواجهتها. وهكذا تتحول السيرة من حكاية متماسكة إلى رحلة تفكيك وتركيب، لا لتجميل الماضي أو التبرير، بل لفهمه من جديد. وربما يكون هذا الفهم هو المكافأة الوحيدة التي ينالها الكاتب من مواجهة ذاته، إذ يكتشف أن ما ظنّه انتصاراً لم يكن إلا محطة عابرة، وما ظنه سقوطاً لم يكن إلا تمهيداً لصفحة أكثر رحابة.
ومع كل مرحلة من مراحل الكتابة يتغير شكل المرآة التي يرى بها المرء نفسه. فهناك مرآة الطفولة التي تلمع بتفاصيل لم تُفسدها المعرفة بعد، ومرآة المراهقة التي تتوهج بأسئلة لم تجد وقتاً لتستقر، ومرآة الرشد التي تحاول أن تجمع الشظايا المتناثرة لتصوغ معنى يليق بما تبقّى من الوقت. وبين هذه المرايا يظل الكاتب يتلمّس الطريق نحو صيغة تُنقذ سيرته من الاتكاء على الاستسهال، وتمنحها القدرة على الوقوف بثقة أمام قارئ لا يبحث عن الفضول المجاني بل عن نص يوقظ ما خمد داخله من مراجعات وأسئلة.
ولعل أجمل ما في السيرة ليس اكتمالها، بل هشاشتها. هذه الهشاشة التي تسمح للكاتب بأن يعترف من دون ادعاء، وأن يقترب من جراحه من دون أن يتظاهر ببطولة لم يعشها، وأن يمنح القارئ فرصة للدخول في المسافة الفاصلة بين ما عاشه وما ظنه يعيش. فالسيرة التي تتهرّب من الهشاشة تتحول إلى منشور دعائي، أما السيرة التي تواجه هشاشتها فتتحول إلى فعل إنساني يتجاوز حدود الذات إلى معنى أوسع وأعمق.
وقد يساعد المرء في فهم طبيعة هذا التحوّل أن يستعيد لحظة بعينها من حياته، لحظة تبدو عابرة عند النظر إليها من الخارج، لكنها حين تدخل النص تكتسب وزناً لم يكن مرئياً. قد يتذكّر الكاتب مثلاً يوماً عاد فيه إلى البيت منهكاً بعد خسارة كان يظنها قاسية، ثم جلس قرب نافذة مفتوحة بينما تهبّ رائحة غبار خفيف ممزوج بنسيم مالح يأتي من جهة البحر، فاكتشف أن حزنه ليس الحدث نفسه، بل الطريقة التي اجتاحته بها تلك الخسارة، والوقت الذي احتاجه كي يتصالح مع صوته الداخلي. وقد يتذكر مشهداً آخر من طفولته، مشهداً لا يتجاوز عبثه بظلّ شجرة في فناء المدرسة، ليكتشف أنه لم يكن يلعب بالظل بقدر ما كان يتدرّب على أول أشكال فهمه للعالم. هذه الأمثلة الصغيرة تتحول في السيرة الحقيقية إلى نقاط مضيئة تكشف ما لم يكن المرء يراه من قبل، وتمنحه القدرة على قراءة حياته كأنها نص يتجدّد كلما عاد إليه.
ويظل السؤال: كيف يكتب المرء نفسه من دون أن يسقط في غواية التجميل أو فخ الانتقام أو وهم الحياد؟ ربما يبدأ الجواب من يقظته أثناء الكتابة. فالكاتب الذي يكتب سيرته بوصفها مراجعة، لا بوصفها وصية أو حكماً نهائياً، ينجو من كثير من المزالق. والكاتب الذي يتعامل مع لغته كما لو كانت ممراً إلى نفسه، لا قناعاً يختبئ خلفه، يمنح سيرته صدقاً يصعب تزويره. والكاتب الذي يترك في النص مساحات بيضاء للقارئ كي يملأها بخبراته الخاصة يمنح سيرته فرصة كي تعيش أبعد من حدود حياته.
ولا تُكتب الذات مرة واحدة. كل محاولة لكتابة السيرة هي إعادة كتابة، وكل سطر هو مراجعة لصورة كنا نظنها ثابتة، فإذا بها تتبدل تحت نور اللغة. وربما كان سرّ السيرة في هذا التبدّل نفسه، في قدرتها على جعل المرء يرى حياته وكأنه يعيد اكتشافها، وفي قدرتها على جعل القارئ يرى في حياة الآخر بعضاً من حياته. وهكذا يتحول السؤال: كيف يكتب المرء نفسه؟ إلى سؤال آخر أكثر عمقاً: كيف يكتب المرء ذاته وهي تتغيّر، وكيف ينقذها من النسيان دون أن يحبسها في قالب لا يليق بحركتها الدائمة؟
بهذا المعنى تصبح السيرة مرآة متحركة، لا تعكس الحياة كما جرت، بل الحياة كما أُدركت، لا كما آلمت، بل كما أضاءت أيضاً، لا كما انتهت، بل كما لا تزال تتخلق في الذاكرة واللغة، وفي تلك المسافة الحميمة بينهما.