كان حامد يحتضن النخلة، قريباً من رأسها ورائحة السعف الأخضر تفوح بعطر ربيعي وعلى طلعها البكر الغض لقاح الذكر انعقد الفحل، وقبيل أن ينزل بكرّ النخل لا يفتأ كلما اعتلى نخلة أن يرمق ببصره من بعيد قبة حمام أبو لوزة التي تلوح من بين رؤوس النخل في جلال ربيعي حيث رفاقه ينعمون الآن بالسباحة في مياهه العذبة والساخنة، هو فقط من بين رفاقه لا يملك حريته، يقضي بقية نهاره بعد عودته من المدرسة في النخيل مع أبيه الذي لا يستطيع مخالفة كلمته أو الفرار من سطوته وقراراته المحسومة، ولأنه الابن الأكبر، فكان على موعد يومي مع النخيل، يحرث الأرض ويسقي الزرع عبر قناة الماء، ثم يذهب إلى زريبة الأبقار حيث اعتاد على رائحة الروث المتراكم فوق بعضه بعضاً، يملأ الحاويات من أعشاب القصيب الذي اجتزه من أحد الآكام، ثم يريق الماء في الحاوية المخصصة للأبقار، والذباب لا ينفك يهوي على وجهه وأنفه وهو يطاردها بكفه بضجر شديد.
حتى في يومي الإجازة المدرسية لم يستطع الإفلات من أعمال المزرعة، وكان أبوه دائماً يردد حين يجلسان سوياً في عريش قديم مبني من الأخشاب وبعض الصفائح المعدنية: هذا يا ولدي رزقنا ولازم نحافظ عليه.
تناول الابن إبريق الشاي من تحت موقد الحطب المشتعل وصب له شاياً يفور ببخاره بينما الأب يواصل كلامه وهو يفك غترته حيناً ثم يلفها على شكل عمامة بشكل متكرر: أنا أقسو عليك يا ولدي كي نأكل لقمة العيش الحلال ولا نموت جوعاً.
بينما هو يصغي يومئ بالإيجاب وأحياناً يكتفي بقول: كلامك عين الصواب.
فهو يعلم أنه لو خالفه لنال عقابه، ولربما تناول الأب أقرب شيء منه، لا فرق إن كان حجرا أو حطبا يسحبها من موقد الإبريق فيرشقه بها....
قبيل غروب الشمس بقليل يغادران إلى البيت هرباً من وحشة النخيل وخشية من ألاعيب دعيدع، ففي إحدى المرات وهما عائدان من المزرعة وقد سبقتهما الشمس إلى الغروب واشتد الظلام شاهداً ظلاً لشخص لم يتبينا ملامحه بسبب الظلمة الحالكة وهو يتسلق نخلة طويلة ثم يبدأ يجتز سعف النخيل بشكل متتال وسريع بينما لا يقطع ذلك الظلام سوى أنوار السيارة وصوت صراصير الليل تأتيهم داخل ذلك الدغل وهم يمضون مسرعين بسيارتهم.
بينما هو يلقي بجسده النحيل على فراشه القطني كان نور القمر يتسلل من نافذة غرفته الصغيرة مجتازاً الشباك الحديدي الصدئ، كان النور يحمل معه تخوماً من الأحلام الوردية فيجد نفسه وقد ذهب مع الصبيان صباحاً للبحث عن العنقوش تلك الحشرة التي تسكن في الطين عند مجاري المياه ليضعوها في فخاخهم لصيد الطيور ثم يمضون للسباحة في إحدى عيون الماء القريبة، وقد يقصدون عيوناً أكثر بعداً ولكن حمام أبو لوزة هو مقصدهم الدائم، وما أن ينتهوا حتى يعودوا لفخاخهم عند العصر التي عادة ما يجدون تحت مقصلتها طيراً قد وقع في الأسر.
يفيق من أضغاث أحلامه على صوت أمه تناديه لتناول طعام العشاء، فيعود لحزنه القديم ويتحسر على أيامه التي مضت حينما كان حراً.
ويحل الصيف ويبدأ الرطب يتدرج في ألوانه رويداً رويداً حتى نضج وأصبح الوقت مناسباً لاجتزاز عقود النخلة.
فهو يأمل أن يأتي رطب هذا العام بالخير له ولأبيه ليتمكنوا من الوفاء بالغلات المتفق عليها مع صاحب الأرض.
ذات يوم حين كان يدفع أمامه العربة التي تئن بعجلتها الوحيدة بفعل السنين وهي مليئة بحشائش القصيب، تحجب من أمامه الرؤية، تعثرت قدماه وسقط على صخرة كانت تجثم دون أن يكترث لوجودها أحد، تورمت ساقه واندفع الدم غزيراً يجري كما يجري الماء في القناة، استنجد بأبيه الذي كان متعلقاً على إحدى النخلات، فنزل سريعاً وأقبل عليه وحامد يتلوى من الألم فأحضر له الأب بقبضة يده قليلاً من البن ونثره له على الجرح ثم نزع الأب غترته من رأسه دون تردد وشدّ بها الجرح كي يمنع النزيف، وحمله بسيارة الونيت إلى أقرب مستشفى.
في غرفة الطوارئ لف الطبيب ساق حامد بعد أن وضع له بعض الأدوية وكم سره وهو يسمع الطبيب يقول لأبيه: تلزمه الراحة.
ثم كتب له الطبيب مرهماً لاستعماله بشكل يومي وأردف قائلاً: المراجعة بعد ثلاثة أيام.
منعته الإصابة من الذهاب للعمل في المزرعة، لقد منحته هذه الإصابة شيئاً من الراحة من تلك الأعمال ولكن ذلك الشعور بالاسترخاء سرعان ما تحول إلى شعور بالرتابة، وطرأ على خاطره أبوه ذلك الغائب وحيداً، متنقلاً ما بين النخيل وسقي الزرع وإطعام الأبقار، أشفق عليه وتمنى لحظتها أن يشفى سريعاً، لأول مرة يخالجه هذا الشعور رغم الضيق الذي يخالجه جراء عمله هناك، بينما كان غارقاً في تلك الرتابة والنهار يتصرم وئيدا وئيدا على غير عادته تسللت إلى خاطره فكرة ما طربت إليه روحه حين أوحى له ذلك السكون المعتم أن يغتنم الفرصة ويخرج مع الأصدقاء بعد أن ينصرف أبوه للنخيل في الفجر.
جاءه الأصدقاء حسب الموعد وانطلقوا يجوبون الطرق الزراعية، وهم في مرح وسعادة، فرحته بخروجه كفرحة الطير الذي يتعلم الطيران لأول مرة.
اقترح أحدهم الذهاب لحمام أبو لوزة للاستحمام، كان حامد الأكثر تأييداً له رغم وجود الضمادة على ساقه، لكن هذه الفرصة لن تتكرر فقرر السباحة معهم، وصلوا للحمام، دخلوا إلى غرفة مستطيلة الشكل بها مصطبات يجلس فوقها رجلان عجوزان قد انتهيا من الاستحمام للتو، خلع رفاقه ملابسهم بينما هو نزع الضمادة عن ساقه فبان اخضرار الرضّ الذي أصابه ثم دخل رفاقه جميعاً عبر المدخل الصغير المؤدي للعين مباشرة.
كان عمود من ضوء الشمس يسطع منقبة الحمام عبر فتحاته الصغيرة، كان الماء يتلألأ كبلورات فضية تجعله يبرق في صفاء ودفء، ومن خلال الضوء تتراءى للسابح الأبخرة المتصاعدة من سخونة ماء العين، غاص الجميع ولعبوا وتراشقوا بالماء وسط هرج ومرج وقد نسي حامد في لجة ذلك المرح واجباته التي تركها ليؤديها أبوه وحيداً دون معين.
وبعد أن لبسوا ملابسهم صاح أحد الصبيان بدهشة: أين رضّ ساقك؟!
نظر حامد إلى ساقه في دهشة وقد غاب عن ذهنه في لجة المرح أنه كان قبل قليل لا يكاد يمشي فإذا بالرض قد شفي إلا من أثر بسيط جداً!
كان الجميع في حيرة والدهشة تملأ وجوههم كيف لماء هذه العين أن تشفي هذه السّاق؟! بينما هم في غمرة دهشتهم كان هو لا يفكر بشيء غير أبيه فكيف يشرح لأبيه الأمر في موعد الذهاب للعيادة؟!
رغم شفائه إلا أنه لم ينزل الشاش من ساقه وفي يوم الموعد المحدد لمراجعة الطبيب حاول أن يقنع أباه أن لا حاجة للذهاب إلى المستشفى لكن رأس أبيه أكبر من أن تلين، حين ذهبا إلى المستشفى وكشف الطبيب عن ساق حامد علت الدهشة وجهه قائلاً: أين ذهب الرضّ؟ ماذا فعلت يا ترى؟!
لم يشأ أن يجيبه في حضور والده، وترك الطبيب في حيرة والأب يتساءل هو الآخر عن سر اختفاء آثار الرضّ في ساقه.
في طريق عودتهما سأله والده مراراً عن العلاج الذي استعمله وجعل الأثر يذهب بهذه السرعة. وفي كل مرة يجيبه ذات الإجابة: أنا نفسي لا أعلم!
ومضت الأيام ونسي الأب الأمر منهمكاً بأعمال المزرعة التي لا تنتهي.
في اليوم التالي وهو أعلى النخلة، ينظر للشمس وهي تشرق من بين رؤوس النخيل وكأنها تسلقت من بين جذوعها، يرمق قبة حمام أبو لوزة التي لاحت في الأفق بعينين تملؤهما الدهشة والحنين.
*أبو لوزة: هو حمام أثري ذو مياه كبريتية معدنية بني على طراز الحمامات الشامية والتركية، جدد بناءه حاكم القطيف أحمد مهدي آل نصر الله، المعين من قبل الأمير فيصل بن تركي في عهد الدولة السعودية الثانية.