مجلة شهرية - العدد (589)  | أكتوبر 2025 م- ربيع الثاني 1447 هـ

قصاصة ذكرى منسية

عندما يأتي خالي من القرية المجاورة لزيارتنا في المزرعة، أسابق الريح لاستقبالهم، وفي الحقيقة ما أن أمسك بيد (موضي) حتى أنسى الجميع، وأركض بها نحو الأثلة لنتأرجح على أغصانها المنسدلة، ثم نسارع بلهفة طفولية لجمع البلح المتساقط من النخيل، رغم لونه الأخضر وطعمه المر.
ندوس بقوة على الأرض الندية بأقدامنا ونرى من أحدث أثر أكثر عمقاً، ولا تسلم شجرة البنبرة من غزواتنا المفاجئة، عندما نهزها بشدة، لتفوح رائحة ثمارها اللزجة، ونتلذذ بالطعم ونضحك.
تمر بي الذكرى وأنا أمر بديارها، التي لا تبعد كثيراً عن دياري. في طريق عودتي بعد انتهاء رحلتي الدراسية، جئت أبحث عن قلبي المعلق في فضاء قريتي.
أقترب من مزرعة والدي، ها هو مخبز حسين، ودكان العم أبوصالح، ذلك النبيل الذي يخبئني خلف البضائع عندما يتنمر علي الأولاد، وحالما يرحلون يعطيني قطعة حلوى، أحتفظ بها لأقتسمها مع (موضي) عندما تحضر.
الخامسة صباحاً، أسابق شعاع شمسٍ ضئيل يتسلل في خفة بين الغيوم إلى تنور أمي، تعج في المكان رائحة الخبز، وأصوات الدجاج والماعز والبقرة الوحيدة، ربما لم تعد وحيدة.
أخبرتني أمي أن كل شي جاهز لحفل زواجي على (موضي) في نهاية الأسبوع، تسارعت خفقات قلبي، من يلملم فرحتي بها.
مازلت أحتفظ بمنديلها الأبيض المطرز بورود ملونة من صنع يدها، ولا يفارق جيبي، ينتقل إلى كل ملبس أرتديه منذ أن أهدته لي في آخر لقاء لنا بين أشجار القطن الخضراء التي زينتها ندف البياض، بعد أن كبرنا، وأصبح لدينا ما نخفيه عن الجميع الذين يعرفون.
في مساء يوم احتفالية الزواج، اجتمع الشباب كالعادة، ومدت البُسط على مساحة واسعة، وبدأ الرجال في الحضور، علا صوت النجر، الذي تفنن القهوجي في إرسال نغماته.
وقف الرجال في صفوف متقابلة للعرضة، كنت بينهم أرتدي البشت، وفي يدي السيف أتمايل وأردد أبيات الشعر معهم، لوهلة خِلت أن العالم في رقصة واحدة من أجلي..
لحظة ترقب وشوق رهيب للقاء، تمر بي ذكريات عذبة، لا يتوقف معها مد السعادة في وجهي، عندما طلب مني والدي التوجه لمكان احتفال النساء، سرت قشعريرة في جسدي، لا أدري أن كنت خائفاً أم هي رهبة اللقاء الأول بلا حواجز، شعرت أن أطرافي الأربعة ستخذلني، أمشي في خطوات ثابتة متوازية مع والدي وخالي.
ترتفع زغاريد النساء، وتفوح روائح العطر والبخور، يعلو صوت الدفوف، والمغنيات يرددن بصوت صاخب (يا مرحباً بالمقبلين)..
تنفر من بين سواد النساء امرأة تصرخ:
- هو ولدكم (محسن)؟
- لا، حرام.. مايجوز.. أنا مرضعته! وزوجة زوجي الثانية مرضعةٍ موضي.. أخوها يا مسلمين!

ذو صلة