مجلة شهرية - العدد (589)  | أكتوبر 2025 م- ربيع الثاني 1447 هـ

العقل وزمن اللاثقافة (6)

عندما يفقد العقل وظيفة من وظائفه السبع: (الاختيار والرفض والرغبة والنفور والتحضير والغرض والقبول) عندها نجد أنه يعيش في (اللاوعي) أو كما قال فرويد عندما قَسَّم العقل إلى: (العقل اللاوعي والمسبق والواعي) والسبب في ذلك أنه يعيش في عصر الثقافة المتسارعة التي قلت عنها من قبل أنها أشبه بثقافة (راكب عربة القطار) الذي يمر بالأشياء ولكنها تمر أمامه بسرعة، فكأنه لا يرى شيئاً، فعندما يحاول تمييز المناظر فإذا هو مع منظر آخر، وهكذا تتعاقب المناظر أمامه فيخرج بلا شيء لأنه لم يحزها أصلاً.
إن ما قلناه سابقاً لا نقصد به (العقل بمعناه العام)، بل العقل بمعناه المنطقي المحدود فيما يسمى (بالأفكار) أو كما قال زكي نجيب محمود الذي أسماه العقاد (بأديب الفلاسفة).
إن العقل في عصرنا هذا يعيش أزمة، مما يصعب التكهن بقدرته السيطرة على إيقاعه فيما يسمى بـ(العصر الرقمي)، لأن العقل أصلاً ليس مجرد آلة تفكير، بل هو سمفونية معقدة من الأفكار والمشاعر، تلك التي تتناغم مع تجاربنا أو كما قال (كارل مارسي).
إن الواقع المعيش ينبئنا أن العقل (خصوصاً الثقافي) لن ينمو في ظل الثقافة المتسارعة، لأن من شروط نمو العقل السوي:
- إدامة التفكير.
- ومطالعة كتب المفكرين.
- واليقظة لتجارب الحياة.
وتلك أشياء لا تتفق معها الثقافة المتسارعة التي هي شبيهة بألعاب الأطفال التي تومض فترة ثم تنطفئ فجأة، وهنا نخرج بالّلاعقل لأن من خصال العقل السوي أنه آلة كل علم وميزانه الذي به يعرف صحيحه من سقيمه، أو كما قال (ابن القيم) الذي قسم العقل إلى عقلين:
- عقل غريزي وهو أب العلم ومربيه ومثمره.
- وعقل مكتسب مستفاد وهو ولد العلم وثمرته ونتيجته.
فإذا اجتمعا في العبد فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وإذا فقدهما فالحيوان البهيم أحسن حالاً منه، وإذا انفردا نقص الرجل بنقصان أحدهما.
إننا لن نناقش هذه الأقوال والآراء لأننا نعيش عصراً مختلفاً تعيش الأفكار (العقول) فيه أزمة، تلك التي تتمثل في الثقافة المتسارعة، وهي ثقافة لا يبين خلالها العقل الغريزي من العقل المكتسب لأنها هشة، ويدخل فيها الناس كلهم، وكل ساعة إن لم تكن كل دقيقة تحمل خبراً جديداً، وبالتالي، فإن هذه السرعة وعدم الاحتواء يخرجان بعقل مضطرب لا نتوقع أنه سينتج ثقافة تدل على أقل تقدير على ثقافة عصره، بل إن العقل في هذه الأحوال يقف موقف المتفرج المشدوه،
فهو إن فكر ففيم يفكر؟
وإن طالع فالوقت لا يسعفه بملاحظة ما يطالعه، ثم إنه غير محفوظ، بل مجرد خبر، أو ومضة، أو تغريدة لا تحكمها أوراق، ولا تدونها كتب، ثم إن هذا كله لا يعبر عن تجارب حياتية معينة لعدم وجود خبرة تصقل كاتبها، أو تجعله يعيش مع حياة العلم والعلماء والكُتّاب والكِتاب.
إنه زمن اللاثقافة بحق، وإن كان يحمل شيئاً منها، فإنما هي كالغبار الذي يذر في العيون فيؤلمها ويجرحها أكثر من أن يمتعها بالنظر ويزين ذاكرتها بالفكر.
إنها طبيعة المرحلة..
والقادم في علم الغيب، فالله وحده هو الذي يعرف المآل، ويقلب الأحوال.
وأخيراً، قالوا عن العقل: ثقافة العقل شمس أخرى للمثقفين.
وقالوا: لا يمكن أن نعيد للعقل مكانته في نفوسنا إذا بقينا نسخر من الكلمات الداعية إلى استعمال هذا العقل.

ذو صلة