صباحاً نحاول أن يكون باكراً، نصل إلى مقر عملنا كل حسب طريقته، مبتدئين يوماً مملاً ثقيلاً، سجل الدوام الرسمي هدفنا، بعدها نأخذ أماكننا بفتور من حاز مبتغاه.
الفرّاش يأكله سأم الانتظار، مكتوب عليه الانتظار في كل شيء، في أول الدوام وفي آخره، ذات مرة طلب منحة أرض من الدولة، وجاء اسمه ضمن الممنوحين، طار فرحاً غير مصدق، وإذا به ينتظر دهراً خارج المكاتب حتى صارت إليه.
وحتى لا يجتمع عليه الانتظار والاستجداء يبقى حتى نكتمل، فيتطوع أحدنا وعادة ما يكون الأخير حضوراً بكتابة اسمه أسفل الورقة، ثم يترك الفراش، يوقع أمامه بسريالية عفوية غير مقصودة.
يرن الجرس مرة أو مرتين، يقوم الفرّاش بهمة ونشاط مردداً جرس الإنذار.. جرس الإنذار، ثم يأخذ سجل الدوام إلى المدير لإدمائه بالقلم الأحمر.
نرشقه بكلمات لاذعة عند عودته فلا يأبه بها، وينهمك في إعداد الشاي وهو يمضغ أغنية قديمة لابن فارس.
مضى الوقت رتيباً كسولاً تسبح فيه أحاديث نملأ بها هذا الزمن الفارغ، وتكون الصحف في مقدمة ما نفضله، حركة الأسهم، أخبار العالم الرياضة، وهوايات أخرى كحل الكلمات المتقاطعة توفرها الصحيفة مشكورة.
وفجأة انقطعت أحاديثنا ونحن نرى المدير يدخل علينا، تركزت أنظارنا عليه تعلو وجوهنا ابتسامة أمل، سار نحونا بخطى وئيدة، لا يُسمع لها صوت، آذاننا ازداد حجمها علها تلتقط منه شيئاً، لا ندري كيف تسنى لنا هذا الصمت الشامل، لقد عرف ما نرمي إليه فزاد في عناده وتجاهلنا.
وخروجاً من الموقف تناول المدير ورقة دوَّن عليها بعض الأوامر، وحثنا على سرعة العمل، ثم استعجل الفراش ليأتيه بالبريد وانصرف إلى مكتبه، تاركاً علامات استفهام على وجوهنا، هل قال لها؟ هل سمعه أحد منا، لكن الجميع أجمعوا على عدم حدوث شيء من ذلك.
انصرف كل منا إلى شأنه دون تعليق، فليست هذه المرة الأولى التي يخيب فيها أملنا، وشاءت القدرة الإلهية أن تبعث إلينا بمراجع، يخرجنا من جمود الكسل إلى حركة العمل، كان منظره وهو يدخل علينا يدعو للضحك، كانت يده اليمنى قابضة على ورقة واليسرى يحاول بها جاهداً إصلاح هندامه، كان العرق يتصبب من جبينه، ولما أحس ببرودة المكتب، التقط أنفاسه، ثم ألقى علينا التحية بصوت مرتفع، تفحصناه جيداً وأخذنا نحادثه بكلام مقتضب كالذي نهمش به معاملات المراجعين.
بعد تفحص معاملته، أمرناه بأن يأتي في الغد لاستلامها، حاول أن يحتج ويوسع الحديث، فأرشدناه إلى مكتب المدير، وقف في وسط الغرفة يجول فيها ببصره، كان يسترجع إجماعنا على القرار، فلم يجد بداً من الانصياع، ثم انصرف دون أن نرد عليه شيئاً حتى التحية التي أضنانا سماعها من المدير.
بعد ساعات من رتابة العمل و(بيروقراطيته)، حانت ساعة الفراق، فامتزج المنفصل بالمتصل، في رحلة العودة إلى البيوت نفتش عن شيء فقدناه.