مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

ثورات التواصل المحمومة

قبل ربع قرن من الآن تقريباً بدأت طلائع المد العنكبوتي تدخل على استحياء المنازل رويداً رويداً عبر أجهزة الحاسوب المكتبية، وكنا حينها نرى أن الماسنجر والمنتديات غزواً صارخاً في وجه الكتاب الذي بدأنا نشعر أنه أصبح/ أمسى غريباً لا يلتفت إلى قراءته أو تصفحه إلا النزر القليل، ما زلت أتذكر جيداً بعض أهم المنتديات المحلية والعربية التي كنا نفرغ فيها جُلّ أوقاتنا مثل الساحات، وجسد الثقافة.
استمر هذا الوضع ما يقارب عشر سنوات تقريباً، تفاجأنا بعدها بدخول وسائل التواصل الحديثة مثل الواتساب وتويتر في البداية، وكان الواتساب يسمح لك بإنشاء مجموعة لا يزيد عددها -فيما أذكر- عن عشرة أعضاء حتى وصل العدد إلى ما وصل إليه، وقد كانت أيقونة الواتساب حينها ثورة بكل المقاييس بما يقدمه من محادثات كتابية تطورت إلى صوتية مع إمكانية إرفاق المقاطع الصوتية والمرئية والرسومات أو الصور حتى أصبحنا ليل نهار أمام هذه الأيقونة نتجاذب أطراف الحديث ونتطارح الأفكار ونقدم البرامج ونشرف عليها وكأن تلك المجموعات ممالك حقيقية قد نصّب المشرفون أنفسهم من خلالها ملوكاً ورؤساء يضاهون زعماء الدنيا كيف لا، وهم يتنافسون في اجتذاب أبرز وأهم الكتاب والمبدعين من الجنسين في كل الدول.
لا أنسى أيضاً دخول كثير من الأقلام الرجالية والنسائية بمعرفات أدبية مستعارة، استحياء وربما حرصاً يصل إلى درجة الخوف من دوائر الضبط الاجتماعي المعروفة، امتد الواتساب مع نافذة تويتر والفيس متنفساً للجميع مسيطرين على الساحة. فكل منا قد وجد ضالته، فواحد يكتب سبعين حرفاً لا يمكن تجاوزها في تويتر محاولاً استقطاب أكبر عدد من المتابعين، وآخر يباشر فتح صفحته الرسمية في الفيس مع كل إشراقة شمس، وثالث يشرف على مجموعته التي اتفق الجميع على تسميتها بـ(القروبات) فتجده مرحباً هذا المساء بعضو حديث وربما يطرد آخر لتجاوزه قوانين ملتقاه الحريص على نجاحه واستمراريته. وما علمنا أن الثورة الواتسابية والتويترية والفيسبوكية سيأتي من يهدد وجودها واستمرارها كما فعلت هي مع سابقيها، وأصبحت هذه النوافذ لا ندخلها إلا لماما ومجاملة لمشرفي تلك المجموعات وربما لولا الحياء الذي يردني ويرد كثيراً من مؤسسي القروبات الواتسابية على وجه الخصوص لقام المشرف بإلغاء ملتقاه كون أغلب الأعضاء لم يعد يشارك نهائياً أو يشارك كل عام مرة ليقول لنا إنه مازال حياً يُرزق، ذلك لأنه قبيل سنوات انطلقت ثورة عارمة كمد المحيطات الهادر هي ثورة المشاهير الذين ابتلينا بهم فأصبح لكل منهم صفحته، فعلا الغث على السمين، وأقصد بها أيقونات سناب شات، تلته أيقونة التيك توك التي مكّنت الجميع من عرض ما لديهم وما يملكون بالصوت والصورة، لحظة بلحظة إما: عبر مكالمات مشاهدة، أو ما يسمى البث المباشر، أو تحميل المقاطع المختلفة، تخلل ذلك نشوء ظاهرة مشاهير السوشال الذين بدؤوا يُسخّرون كل أوقاتهم/ أوقاتهنّ للإعلانات التجارية وتصوير اليوميات وبخاصة النساء اللواتي تطور الأمر لدى بعضهن تطوراً غير مسبوق في اقتحام سوق الموضة والتباهي بالتصوير حتى للمخادع داخل البيوت وغيرها مما يشعر بالأسف الشديد. انغمس المجتمع بأكمله -وأنا أحدهم للأسف- في التعاطي مع هذه التقنيات التي استعبدتنا وأصبحنا منذ ساعة استيقاظنا حتى موعد نومنا أمام هذه الأجهزة متنقلين بين صورة ومقطع ومحادثة ومكالمة ناسين حياتنا ومهملين كثيراً من أمور حياتنا مع بالغ الأسف، حتى أضحت الأسرة مستعبدة بكل ما تعنيه هذه المفردة لهذه التطبيقات والمواقع اللعينة التي أخذتنا حتى من أنفسنا فأصبحنا/ أمسينا نحيا غربة ونحن داخل منازلنا، وفقدنا كثيراً من وسائل الترفيه الحقيقية الفعلية بيننا كمجتمعات صغيرة على مستوى القرية أو الحي أو أبناء العمومة، والأسرة ذاتها أصبح كل فرد فيها منزوياً وحده يتحدث مع العالم ناسياً من حوله. وقبل الختام أقف متسائلاً موجوعاً: أي تقنية قادمة ستسلبنا معنى الحياة البسيطة العفوية التي نعمنا بها منذ ولادتنا حتى بدء الألفية الثانية، التي كانت مفترقاً حقيقياً بين ما قبلها وما بعدها. أترك الأمر والجواب لكم وللزمن فهو كفيل بالإجابة.

ذو صلة