مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

مقدمات الكتابة

لكتابة عمل إبداعي جديد، مقومات مخاضية يشعر الكاتب معها أنه مقبل على عالم جديد، على تحول انعطافي جديد على فتح شرفة جديدة.
وكما أن المرأة تصاب بالوحام عند الحمل، فإن الكاتب يقبل على أشياء جديدة خلال فترة ما قبل البدء بالكتابة، إنه ينظر إلى الحياة نظرات جديدة لم ينظرها من قبل، تراوده أفكار جديدة لم تراوده من قبل. فقد يكون وحام الكتابة الاستماع إلى الموسيقى، الاستماع إلى أغنيات، قد يكون في أغنيات جديدة، أغنيات قديمة. وقد يكون بصوت مرتفع جداً، أو منخفض جداً.
قد يكون وحام الكتابة المشي في الطرقات في جوف الليل الهادئ، قد يكون الذهاب إلى الحدائق، قد يكون في العزلة، في التأمل، في القراءة، في المشي في الشوارع المزدحمة بالناس، في الانطلاق إلى الطبيعة الصامتة، في تناول الطعام في المطاعم، في زيارات للأقرباء، زيارات للأصدقاء.
فطاقة الإبداع تستدعي الشحن كي تخرج بقوة، ولا يملك الكاتب إلا أن يستجيب لهذا الاستدعاء، وإذا حال ظرف ما دون استجابة الكاتب، فإنه يلبث محتقناً مشوش الذهن.
هذا الوحام عند ممارسته يتحول إلى مخاض، مثل السماء التي تتكاثف فيها الغيوم فتنفجر بهطول أمطار غزيرة تارة، وأمطار منخفضة تارة، وبرذاذ تارة، وتارة بالثلج، وتارة بالحالول. وهكذا يتنوع إنتاج الكاتب وفق نوع الوحام الذي تم شحنه به.
مثل المغني الذي يقف على المسرح، يبدع وفق طاقة الشحن التي شحن بها، فأحياناً يؤدي ببرود، وأحياناً بسخونة، أحياناً يتفاعل مع كل نغمة إيقاع موسيقية، وكل حرف من حروف الأغنية التي يشدو بها، وأحياناً يبدو كما لو أنه يقرأ كلمات أغنية.
فمهما أبدع الملحن في لحنه، ومهما أبدع الشاعر في قصيدته، يبقى نجاح الأغنية مرتهناً بالمغني الذي يغنيها ببراعة، ويعرف كيف يتلاعب بنبرات وإمكانات صوته، كيف يوظف نبرات معينة لمواضع موسيقية معينة، لكلمات معينة.
بعض المطربين يلجؤون إلى الكحول أو المخدرات حتى يتفاعلوا مع الأداء أكثر خصوصاً في المهرجانات الكبرى. ولكن أثبتت التجارب أن هذه الطريقة غير مجدية لأن المطرب يكون في حالة سكر، وهذا يختلف كلياً عن الانسجام الطبيعي مع الأغنية كلمات ولحناً، والذي يؤدي إلى تفاعل حقيقي للمطرب مع الجمهور وهو يغني لهم، وتفاعل حقيقي للجمهور مع المطرب وهم يستمعون إليه.
وهذا ما كان يحصل مع عبدالحليم حافظ وجمهوره على المسرح، وكذلك مع أم كلثوم، وحتى فريد الأطرش، وهم أساطين الغناء العربي الذين استطاعوا أن يجعلوا من زمنهم زمناً جميلاً، ولم يستعينوا بالكحول أو المخدرات، بل كانوا ينامون نوماً جيداً ويقفون على المسرح وهم بكامل اللياقة، والنشاط، والحيوية، وصفاء الذهن.
وأكدت التجارب أن الكحول أو المخدرات لم تستطع أن تصنع مطرباً بقوة أو كاريزما مطربي الزمن الجميل. ولم يقتصر ذلك على الغناء فقط، بل حتى في التمثيل، فاحتفظ رموز السينما العربية بمنزلتهم التي لم يستطع أحد أن يبلغهم فيها رغم الإمكانات الهائلة التي توافرت فيما بعد للأجيال التي تلتهم. فالطبيعي ينتج عنه فعل طبيعي، كما أن المصطنع ينتج عنه فعل مصطنع.
قد يحمل مقطعاً موسيقياً في مكان عام إلى المبدع نشوة تحلق به في فضاء الجمال والانشراح فتخرجه من حالة وتدخله إلى حالة مناقضة، بينما لا يحرك ذرة في نفس شخص يبرك جواره، فهو يفعل كل ذاك الانقلاب في روح المبدع بينما لا يحرك ذرة من نفس مجاوره، وقد تحمل شجرة عامرة بالزهور والعصافير إلى المبدع طيب الجنة فيستمتع بأبهى مناظر الجمال الطبيعية بينما لا تعني لمجاوره وهو يمد الخطى معه سوى أنها شجرة كملايين الأشجار الباردة، قد تفجر علاقة مودة فيضانات من الأشواق في أعماق المبدع بينما لا تعني لمجاوره سوى أنها علاقة عابرة كملايين العلاقات التي تحدث يومياً.
إن منظر جندي جريح أمام حبيبته دفع كاتباً كتولستوي ليبدع عملاً إبداعياً ضخماً ك/الحرب والسلم/، وحادثة تعرض لها جان جاك روسو في طفولته دفعته لإبداع عمله الشهير/في العقد الاجتماعي/، وواقعة فرضت على مازوخ فجرت لديه نزعة المازوخية، وأن طريفاً تعرض له المركيز دي ساد دفعه لاكتشاف النزعة السادية، وأن العزلة التي فرضت على شوبنهور كانت خلف إبداعه لفلسفة الضجر.
الاكتشافات البشرية الكبرى دوماً اقترنت بوجود المبدعين رعاة أي حضارة، فالإبداع هو هوية أي مجتمع.
الحضارات البشرية هي حضارات بالإبداع والمبدعين وليست بعدد السكان، أو برقعة الجغرافية، أو الموقع التاريخي، ولذلك فقد اقترن حضور الأمم والشعوب دوماً بقدر ما قدمت من إبداعات.
دوماً تتفتح ورود كتابة جديدة في حدائق القلم، وهو يشبه فصول السنة فيمر بفصول مختلفة، أحياناً يكون ربيعاً، وأحياناً يكون خريفاً، أحياناً يكون صيفاً، وأحياناً يكون شتاء.
الألم الإنساني هو الذي يلهب حالة الكتابة فتكون قضية القضايا، كل الأبواب المغلقة بالمفاتيح الحديدية قابلة للانفتاح أمام طرقات الكاتب وهكذا يمكن للكاتب أن يطرق الأبواب المحكمة وينفض عنها غبار السنوات والقرون.
إنها عملية انقلابية لإمكان اللا ممكن.. لإعادة ترتيب شغب الحياة، وأيضاً لإمكانية إعادة التفكير فيما أغلق النقاش عنه، إنها ثورة مستمرة يقوم بها الإنسان في مواجهة الجمود ليثبت من خلالها أنه كائن حي يستطيع أن يرنو إلى الآفاق الرحبة.

ذو صلة