مجلة شهرية - العدد (570)  | مارس 2024 م- شعبان 1445 هـ

لقاء في المرآة!

حدث شيء غريب اليوم!
في الصباح وأنا أغسل وجهي أمام المرآة، أطلت النظر إلى هذا الوجه الذي أقابل به العالم منذ أكثر من أربعين عاماً!
كنت أنظر إليه بلا تركيز، فتفكيري مشغول ككل صباح بهوايته المفضلة: التشتت في مليون اتجاه، كشظايا الزجاج المكسور حين تطير في السماء.. متعة هذه اللعبة تزيد حين تتشتت شظايا الأفكار إلى قطع أصغر في كل مرة، فيصير من المستحيل تحديد هوية الأفكار وبالتالي مناقشتها أو مناقضتها.
لكن اليوم في المرآة.. رأيت صورة واضحة تجلت أمامي بتحدٍ، جعلت الزجاج المكسور، يتحد مرة واحدة، ويرسم هذا الوجه الذي أعرفه جيداً!
اقتربت من المرآة أكثر وأنا أحملق في تركيز.. شعرت ببعض الرهبة، وخفق قلبي من التوتر.. صرخت متسائلة بتعجب حين تأكدت مما رأيت:
- أمي؟ أمي؟ ماذا تفعلين هنا؟
تفحصت تقاسيم وجهها المألوفة منتصبة أمامي بيقين..
ردت أمي على استنكاري مازحة:
- ما بك؟ ألا تسرك رؤيتي؟ لم تنظرين إلي مذعورة هكذا؟
إذن أنا لا أحلم! إنها هنا فعلاً!
ألصقت وجهي بالمرآة وفتحت عينَيَّ عن آخرهما، رأيت تجعيدتها العميقة التي ترسم رقم 11 على جبينها حين كانت تقطب حاجبيها في كل مرة.
أطلت النظر، فرأيت تجاعيد عينيها العميقة التي كانت تظهر مع تكشيرتها الشهيرة حين لا يعجبها أمر ما.
أبعدت وجهي عن المرآة، فاختفت التفاصيل الصغيرة، وحلت محلها صورة أمي بشكل أوضح، فبدت نقط النمش على خديها بارزة كما عرفتها بها.
إنها هي بلا أدنى شك!
حين رأت نظرات الفزع في عيني، ابتسمت بحنان كأنها تواسيني، فشعرت بنوع من الطمأنينة والأمان.
قالت لي: إنها هناك منذ زمن، وإنني لم أنتبه لها، لأنني كنت مشغولة بتفاصيل روتين الحياة اليومية، وبممارسة لعبة شظايا الزجاج المكسورة.
قالت لي: إنها اليوم تظن أني جاهزة لرؤية وجهها الواضح، فهي تثق في قدرتي على تفهم الأمر، والتعامل معه بتبصر وحكمة.
حكت لي عن أول مرة قابلت فيها جدتي في المرآة، كيف كانت مصدومة وخائفة، وكيف تعودت على الأمر مع توالي الأيام.
سألتها السؤال الذي جال بخاطري حينها بتوجس:
هل ستأتين مرة أخرى؟
أجابت بلا تردد:
بالتأكيد، سنلتقي هنا باستمرار.
دق جرس الهاتف، فانتشلني من حيرتي وأفكاري.
أجبت المتصل، وعيناي على المرآة، أتأمل وجه أمي وهي تبادلني النظرة المتأملة نفسها.
كانت صديقتي تعطيني تفاصيل الحفلة التي سنذهب إليها اليوم.
أنهيت حديثي معها، وانتبهت لتأخر الوقت، عدت إلى المرآة وما زالت أمي هناك!
من ذهولي لم أسألها عن شيءٍ آخر.
أخذت هذه العلبة التي تحتوي مستحضرات التجميل، وأخرجت ما بها، صفقت العلب أمامي:
- كونسيلر لإخفاء الهالات السوداء وبعض التصبغات على وجنتي.
- كريم أساس لتوحيد لون هذه البشرة الباهتة.
- قلم كحل، لرسم سحبة العين الجميلة التي تخفي آثار العين الغائرة التي جار عليها الزمان.
وأخيراً: بعض الحمرة لتوريد هذه الخدود التي لم تعد بارزة بعنفوان كما كانت في السابق، سأرسمها بتقنية الكونتورين التي ستعيد تحديد هذا الوجه المتعب.
تأملت وجهي في المرآة راضية عن شكلي اليوم: حمداً لله على نعمة مستحضرات التجميل!
حين رفعت رأسي أتأمل وجهي في المرآة كانت أمي قد اختفت من أمامي!
ذهبت يومها إلى الحفلة، وما حدث كان لايزال مسيطراً على كل تفكيري، وصورة أمي المبتسمة في المرآة تحتل عقلي وقلبي معاً!
حين وصلنا إلى مكان الحفلة، التقيت بأم صديقتي في الباب، استقبلتني بابتسامة عريضة، وأخذتني بين ذراعيها بحنان قائلة إني صرت أشبه أمي أكثر وأكثر.
حينها فهمت لماذا رأيت أمي في المرآة اليوم: إنها أنا بعد أن ترك الزمان بصمته على وجهي.. وذيله بتوقيعه الشهير.
حين عدت يومها إلى البيت، أسرعت إلى الحمام، غسلت وجهي وتفحصته كأني أراه لأول مرة.
ظهرت لي أمي حينها، وقالت مبتسمة:
كيف كان يومك؟ هل استسغت الأمر الآن؟
هل تقبلين بوجودي هنا؟
قلت لها بعد لحظة تفكير قصيرة، بيقين من اتخذ قراراً لا رجعة فيه:
نعم.. نعم أقبل.
قالت لي أمي بعدها: إنني إن كنت محظوظة، وأطال الله عمري فسوف أرى جدتي هنا في يوم ما!
فكرت في الأمر، وأنا أحاول استحضار صورة جدتي، وأتساءل إن كنت سأعيش لأقابلها في يوم ما، وكيف سيكون اللقاء؟

ذو صلة