مجلة شهرية - العدد (570)  | مارس 2024 م- شعبان 1445 هـ

أريـــج الغفران

شد انتباهه غياب صورة والده عن موضعها، كانت دوماً تستقبل الداخل من باب الشقة، تبتسم له، يرى ألق العينين وارتفاع الجبهة والنظرة الهادئة الواثقة التي تفيض بالحنان والحسم معاً، كان المفتاح داخل الطبلة والباب ما زال مفتوحاً، وهو إحدى قدميه داخل الشقة والأخرى خارجها، نسي المفتاح والباب وهرول إلى مكان الصورة يبحث عنها. طوال الطريق وهو عائد إلى البيت كان يشعر بالذنب وكان يفكر كيف سيواجه عيني أبيه، كيف سيرفع رأسه إليه، يتلقى ابتسامته ويحييه تحية المساء عند دخوله إلى الشقة، عادة تعودها منذ الصغر مع أبيه الذي كان يقرأ عينيه جيداً ويناديه في كثير من الأحيان: تعال يا صلاح، احك لي ماذا فعلت اليوم.
يحاول الهرب والإفلات من نظرات أبيه الباسمة التي تفيض بالحنان والحسم معاً، دون جدوى، هو يعرف جيداً أن أباه لا يضربه، بل هو لم يضربه أبداً، لا يتذكر أنه صفعه مرة أو ركله أو شيئاً من هذا، أقصى عقاب كان يتلقاه منه أن يتجاهله، يخاصمه ولا ينظر إليه ولا يبتسم في وجهه، ولا يضع يده على كتفه ويخصه بأسرار عمله وسراديبه ومجاهله، دوماً كان يكتفي بالبعد عنه يوماً أو يومين وربما أسبوعاً ليتركه في حيرة من أمره متسائلاً كيف يعرف أبوه أنه أخطأ، كل مرة يخطئ فيها حتى لو كان وحده لا يراه مخلوق كان أبوه يشعر ويعرف، وإن لم يذهب إليه صلاح ويصارحه يناديه هو ويسأله، عيناه كانتا بحراً يحوي في أعماقه محبة ودفئاً وسلاماً، وفي ذات الوقت قدرة هائلة على التعامل معه وعقابه أشد العقاب بطريقة لم ير صلاح ولم يقرأ عنها مع أحد غيره، ربما لأن الرباط بينهما كان متيناً للدرجة التي يفتقد فيها قربه إذا غاب عنه أو تجاهله لسبب ما، وهو من ناحيته كان يحب أن يكون دوماً قريباً من أبيه، يصارحه ويحكي له أخطاءه مهما كانت ويستمع إليه وهو يحلل معه الخطأ ويناقشه فيه ويوجهه إلى الصواب بطريقة ودية بعيدة كل البعد عن النصح والإرشاد والتعليمات الصارمة التي يتبعها الآباء عادة. صحيح هو حينما كبر ووعى ونضجت أفكاره بدأ نوعاً من المداراة ربما لحساسية الموضوعات التي يمكنه أن يناقشه فيها، وصعوبة التحدث فيها أساساً معه، حدث التباعد الطبيعي نتيجة لهذا، لكنه لم يكن جفاء أو تنافراً، بل كان مع هذا يجد عيني أبيه تتابعانه وكأنه يقرأ أفكاره أو يراه بعيني قلبه، يبتسم له أحياناً دون كلام، وأحياناً أخرى يعبث في وجهه للحظات وكأنه يدرك أن خطأ ما ارتكبه صلاح ولم يجرؤ على الإفصاح عنه، لذلك تعود صلاح بعد كل خطأ حتى وإن لم يصارحه به أن يقترب منه، يجلس إليه، يحادثه في موضوعات شتى محاولاً نيل ابتسامة صفح أو كلمة رضا ثم يذهب لحجرته هادئاً مطمئناً، حتى بعد أن ذهب والده إلى حيث لا عودة، لم تنقطع تلك العادة، كانت عيناه تتابعانه دوماً، يرى البسمة متألقة على شفتيه فيبتسم له ويتجه لحجرته، وربما انتبه لتلاشي البسمة أو لتغير في اتساعها فيقف أمام الجدار محدقاً في عيني أبيه وفكره يدور حول الخطأ الذي أخطأه أو الذنب الذي ارتكبه شاعراً بالندم أو معتذراً باضطراره إليه، فإذا رأى البسمة تتسع والعيون تعود لتألقها ينشرح صدره ويتجه إلى حجرته شاعراً بأريج الغفران يعطر المكان حوله.
الليلة عاد مثقلاً بمشاعر الخجل متسائلاً: كيف يواجه عيني أبيه؟! السهرة كانت ليست بريئة بالقدر الذي تعود عليه، اضطر لمشاركة الأصدقاء في بعض اللهو، غادرهم معتذراً وهو يسائل نفسه ماذا سيقول لأبيه، وهل يبرر الخطأ أم يعتذر عنه؟
فتح الباب، لم يجد الصورة مكانها، اهتز قلبه خوفاً وزاغت عيناه قلقاً وهرول إلى مكان الصورة باحثاً.
قالت زوجته التي دهشت لفتح الباب دون أن يدخل إليها كالمعتاد:
- فكرت أن أضع صورة لنا معاً هنا، وصورة والدك بالداخل.
قال بهدوء ظاهري: أين الصورة؟
أشارت إلى حجرة مكتبه، اندفع إليها، عاد حاملاً الصورة ووضعها مكانها قائلاً وهو يحدق في عيني أبيه معتذراً:
- مكانها هنا ولن يتغير.
اتسعت ابتسامة أبيه، دخل حجرته راضياً.

ذو صلة