مجلة شهرية - العدد (570)  | مارس 2024 م- شعبان 1445 هـ

رسام الظل

يحكى أن فتاة في أحد العصور أحبت الحياة حباً لا تشوبه شوائب، أحبت الحياة إجمالاً، أحبتها في أدق تفاصيلها.
أحبت الأشجار والظلال والغيوم والجبال، تستشعر صوت الماء وحفيف الأشجار، صديقة لشمس الصباح ونسائمه العليلة وزقزقة العصافير، تتوق لمنتصف الشهر حتى تحادث القمر وتحصي عدد نجوم السماء. تقدّر الفن، وتعشق الموسيقى، وتتلذذ بمطالع القصائد حتى تتوه بين الأبيات وما وراء الرموز، قويّة، لا تخشى بالله لومة لائم، ترى الكون من منظورها الخاص، ورؤيتها تبثها من بنات أفكارها وحسب، لا يعيقها حر الصيف ولا صقيع الشتاء، تتكيّف وكأن المناخ يستشيرها بما تشتهي ليُلبي ما ترغب وما تودّ، تمضي أيامها كسرب الحمام قاصدة رزقها لا يثنيها تغير المكان ولا تبدل الزمان، يمر الأشخاص من أمامها مرور الكرام حتى تكاد لا تبصرهم، وهي التي تستشعر كل شيء!
تمضي أيامها هادئة بين تفاصيلها العذبة، مشرقة، متجددة، مليئة، هي خليط مبهج سعيد متلوّن بألف لون ولون.
حتى أتى ذلك اليوم، حاملاً لها رساماً خفيف الظل طيّب الأثر، أو كما ظنّت هي ذلك، عرض عليها أن تقف دقائق معدودة ليهديها ما يليق بجمالها ويريها كيف يراها الناس من منظور مختلف، استمالها وهي التي لم تخضع يوماً، استلطفته، حتى مضى ضارباً أبواب قلبها بأحاديثه دون هوادة، كأنها استشعرت قُبلة الحياة على جبينها بقربه، وبوهلة، تبدل الزمكان واختلفت عليها الأيام وتغيرت الأحوال، كل شي يخضع لسلطة الحب فقط، لم يكن كأي عابر، بل أطلقت عليه الفارس والسند والرفيق والصديق، أهدتها الحياة تجاربها الخاصة حتى تتشرّب الشعور وتهيم بالتفاصيل كما اعتادت، إلى أن أذاقتها العلقم دون أن تدرك! في ليلة وضحاها اختفى وكأنه لم يكن، ذهبت لتطرق الأبواب التي اعتادت عليها دون مجيب، ظلت تنتظر على أمل أن يعود ولم يعد! خذلتها الحياة.. يا للخيبة!
تساءلت: ماذا بدر مني؟ بماذا أخطأت؟ ماذا قدمت حتى أجازى بالهجران والخذلان؟
ظلت تناجي النجوم، وتذهب قاصدة مفارق الطرق، تزور الأزقة علّها تلقى بصيص أمل يعيد إليها ما افتقدت، ورغم الألم ظلت تحمل حسن الذكرى، متغافلة عن مساوئ النهايات.
عندما هانت حين ظنّت أنها لا تهون، وعندما هُجرت حين كانت بمأمن عن الخذلان؛ تعلمت.
يا ترى كيف تُداوى الجراح بعد الذي مضى؟

ذو صلة