مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

كتب برائحة السمك

لا أعلم سر عدم محبتي لبعض المواد الدراسية مثل العلوم، الرسم، الجغرافيا، الرياضيات.
معلم مادة العربي هو أفضل معلم بالنسبة لي، فأنا أحب الثرثرة وهو ما كان يفعله مدرس العربي، خصوصاً عندما يخرج عن جو الدرس والمدرسة، يتحدث في السياسة، والوضع العربي، وشخصيات عربية كان لها دور في زعزعة الاستعمار العالمي، ودول غربية هي أساس بلاء العالم.
كنت من الطلاب المتوسطين دراسياً ما (بين بين) كما يقولون، وكان الكثير من الطلاب يسخرون مني، لعدم مقدرتي على الإجابة على الأسئلة الموجهة مباشرة من المدرس وكثير مما يحدث في مادة العلوم، الجغرافيا، الرياضيات، الإنجليزي.
- حسين: قم، وحل المسألة على السبورة.
أقوم بتكاسل وأقف أمام سبورة الصف دون حراك، حتى يعجز المدرس معي.. إمَّا يصرخ في وجهي غير البشوش، أو يرمي علي الطبشور فيحول بقعة صغيرة للون الأبيض وسط غابة من الشعر الأسود.
الوحيد الذي كان يقدرني، وأشعر معه بالفرح هو معلم اللغة العربية، فهو دائماً يكرر أمام الطلاب: أن حسين الجميل، أجمل ما فيه الأمل.
يضحك الطلاب لاعتقادهم أنه يسخر مِنِّي، ولكن المعلم يثبت لهم العكس، ويطلب منا كتابة موضوع في درس التعبير والكتابة الحرة، أو حفظ قصيدة للشعراء الكبار، وأكون أول المبادرين، وهنا يقول لهم المعلم:
ألم أقل لكم إن (حسين) أجمل ما فيه الأمل؟!
في إحدى المرات طلبني المعلم بعد أن اطَّلَعَ إلى ما كتبته في مادة التعبير على طاولته، وقال لي: هل تطلع على كتب في بيتك؟
- نعم أستاذي.
- من أين لك الكتب؟!
- أجد بعضها في بقايا القمامة، وبعضها أشتريه من مصروفي اليومي، هناك من مكتبة في القطيف أو صفوى البعيدة عن قريتنا (ساعتان مشي)، أو أركب (تاكسي).
- هل تحب القراءة؟
نعم - أستاذي - جداً، وقد صنع لي أبي مكتبة صغيرة أجمع فيها الكتب والمجلات والجرائد، وأيضاً هناك شيخ في جزيرة عشتار يمتلك مكتبة كبيرة وفيها كتب كثيرة إلا أنه لا يُعير الكتب، ولكن يسمح لك بالقراءة داخل المكتبة.
كان الطلاب يستغربون ويتمنون معرفة ما دار بيني وبين الأستاذ، وما أن يخرج أو أثناء الفسحة، أو وقت الخروج من المدرسة يسألونني: ماذا قال لك؟ وماذا قلت له؟ هل سيعطيك علامات أكثر منا؟ هل سيعطيك أسئلة الامتحان؟
ولكني أكون دائماً في حالة صمت، وأبتسم ابتسامة خفيفة، تزيدهم إصراراً على معرفة ما دار بيني وبين الأستاذ.
في السنة الجديدة، تفاجأت أن المعلم قدم لي خمسة كتب لنجيب محفوظ وطه حسين ويوسف إدريس وإحسان عبدالقدوس ومحمد عبدالحليم عبدالله، وكتاب عن كيفية كتابة المقال.
لم أتمالك نفسي، رقصتُ من الفرح، وقبلت رأس المعلم.
في نهاية الأسبوع أحضرت له خمسة أنواع من السمك التاروتي، الكنعد، الصافي، الشعري، شحدود، حقول، أعطيته له وهو خارج من المدرسة بعد أن طلبت من أخي الأصغر أن يحضرها في وقت انتهاء اليوم الدراسي، وبعيداً عن أعين من في المدرسة.
أخي كان يدرس عصراً، وأنا صباحاً.. ضحك المعلم ولكن مع إصراري أخذها.
تطورت العلاقة، وكان يرد لي الهدية بكتب في نفس كيس السمك، فكانت الكتب تحمل رائحة السمك.
كان المعلم بالنسبة لي كنزاً، يتحدث في كل شيء: الثقافة والأدب.. ويعرف أسماء كبار الأدباء والشعراء والمثقفين في مصر وسوريا والعراق ولبنان والسودان، يمتلك معلومات كثيرة، وكان يقول لي كل شيء يعرفه.
سمعت أسماءً لشعراء وأدباء ومثقفين، ورجال سياسة وحرب، ولرؤساء في الغرب والشرق، وعندما يطول الحديث وبخاصة الحديث في السياسة كان الأستاذ يشتم ويسب رؤساء غربيين وحتى عرباً.
انتهى عقد الأستاذ وطلب مني زيارته في شقته، وبالفعل ذهبت له بصحبة أخي الصغير، وكنت أحمل له كيساً كبير يمتلئ بالسمك التاروتي. وبعد أن أفرغ السمك داخل المطبخ، وضع لي كثيراً من كتبه التي جلبها معه من مصر في نفس كيس السمك.
وكلما فتحت كتاباً تشممت رائحة السمك، وتذكرت الأستاذ، وابتسمت.

ذو صلة