أي عامية؟
لعله سؤال بدهي، لكنه كاشف عن حجم التعقيد الذي تتسم به ظاهرة العاميات: أي عامية نقصد؟ عامية مصر الفرعونية التي تتوزع على مستويات خمسة كبرى غير ما يعتمل فيها من تمايزات تعز عن الحصر؟ أم عامية شمال أفريقيا التي تختلط في أغلبها العربية بالأمازيغية؟ أم عامية السودان وشرق أفريقيا التي اختلط فيها العرب بقبائل أفريقيا؟
أم لعلنا نقصد عامية الخليج العربي التي تولدت من لهجات القبائل في صحراء الجزيرة العربية، أو عامية الشام والعراق التي لن تعاني وأنت تلتقط ملمحاً سريانياً هنا أو تركياً هناك أو فارسياً في الشرق... إلخ.
وتاريخياً، هل نقصد عامية القرون الوسطى أم عامية القرن التاسع عشر أم العامية الحالية؟ العامية التي رصدها يوسف المغربي (في دفع الإصر)، وأبو السرور البكري (في القول المقتضب)، أم تلك التي رصدها محمد وفا (في التحفة الوفائية) أم عامية تيمور باشا (في معجمه الكبير).. أم لعلنا نقصد العامية التي كتب بها وراقو القرون الإسلامية الأولى، أو عامية السيد محمد غجر وهو ينسف هيكل (ألف ليلة) ببنيتها المعروفة إلى بنية أخرى إرهاصاً بالرواية الحديثة، أو عامية قطة العدوي وهو يحاول سبك (ألف ليلة) في لغة طبعت كتب المطبعة العربية الأولى بطابعها لنحو قرن من الزمان.
كانت هذه التساؤلات شبيهة بتساؤلات عنيفة رددتُ بها على أحدهم في جريدة (الدستور) المصرية عام 1996، حينما افترضتُ أن مخطوطاً نسخه السيد محمد غجر مستوحى من الليالي العربية، دوّن بعامية مصرية، فهاجمني بأنها عامية شامية، فيما كان رأي الدكتور جابر عصفور رحمه الله في إحدى مناقشاتنا أنه (يظن) أن هذه العامية هي (عامية خليط) بين المصرية والشامية، وانتهى الحوار الطويل بيننا على وعد بإحصاء للمسكوكات اللغوية في المخطوط لمعرفة أي منها ينتمي للعامية المصرية، وأيها ينتمي للعامية الشامية.
كان سؤالي الأبرز وقتها: عن أي عامية نتحدث؟ لم تسعفنا السنون، لا الدكتور عصفور ولا أنا، بإحصاء المسكوكات اللغوية في المخطوط، لكنني قمت بتحقيقه بعد ذلك تحقيقاً علمياً خرج للناس منذ أكثر من عامين بعنوان (ألف ليلة وليلة.. حكايات أخرى). في هذا التحقيق، وفي تحقيق لسيرة الزير سالم (لم ينشر)؛ أشرت إلى عدد من المصطلحات الخاصة بالتدوين والكتابة والثقافة العربية، ومن بين هذه المصطلحات التي أوليتها اهتماماً خاصاً: (لغة المطبعة)، و(روايات المطبعة)، وأقصد تلك اللغة التي رسختها المطبعة العربية بعد أن حُرّم عليها في بداية عملها في العالم الإسلامي طباعة القرآن وكتب الحديث بلغتهما المقدسة، فاختطت (المطبعة) لنفسها -دون قصد ربما- فضاء آخر في الثقافة العربية، أخرج إلينا السير الشعبية والروايات (الكاذبة)، والصحف التي هي (كلام جرايد).
الحقيقة أننا أمام موزاييك مخيف لكنه مدهش بسبب التنوع الذي لم تستطع النخبة العربية درسه أو حتى ملاحقته إلى يوم الناس هذا. فلم نفهم مثلاً ببساطة أن الفارق بين الحوف الشرقي لدلتا النيل في مصر والحوف الغربي ليس مجرد مئتين وخمسين كيلومتراً، بل هو فارق بين حضارتين متمايزتين أشد ما يكون التمايز، لم يقرّب بينهما ويجمعهما في وعاء واحد إلا ماء النيل وجغرافيا مصر.
الحوف الشرقي لدلتا النيل في مصر الذي تحدث عنه جمال حمدان، وقبله المقريزي في رسالته الصغيرة والمهمة (البيان والإعراب فيمن حل بأرض مصر من الأعراب) هذا الحوف الشرقي -من حيث اللغة- هو ابن قبائل العرب التي هاجرت إلى مصر منذ ما قبل الفتح العربي بسنوات طويلة وما بعده بسنوات أطول، وهو (الحوف الشرقي) فولكلورياً أول محطة لعرب بني هلال وبني سليم الذين وصفهم راوي الهلالية بأن عددهم (أربع تساعين ألوف) تعبيراً عن كثرتهم عندما هاجروا إلى مصر وفقاً للسيرة الهلالية، وهاجروا- تاريخياً- على خلفية الصراع السني الشيعي حين تتبع العباسيون قرامطة الجزيرة العربية ومن والاهم من القبائل.
أما الحوف الغربي فهو حكاية أخرى أكثر تعقيداً، إنها الهجرة العكسية للموريسكيين بعد تعقبهم في شبه الجزيرة الإيبيرية وانتهاء بخروجهم الأخير عام 1492م، وهو الخروج الذي يراه كثيرون كلمة السر في اكتشاف العالم الجديد في العام نفسه، فيما تلمح سيرة الظاهر بيبرس إلى علاقة ذلك بظهور قراصنة البحر الذين حكموا البحر المتوسط لعقود بل لقرون بعد ذلك، لكن كاتب هذه السطور يربط هذا الخروج الموريسكي ودون مبالغة بسكان الحوف الغربي لدلتا ونيل مصر، والشواهد على ذلك لا تحصى، من قبائل ذات أصول أندلسية مثل: (محارب) في بحري، و(زناتة/زناتي) في مركز ببا بمحافظة بني سويف، وليس انتهاء بقرية (مريس) في الأقصر وملامح سكانها الأكثر شبها برجال ونساء شبه الجزيرة الإيبيرية، واسم قريتهم التي تشير إلى شقيقتيها في المغرب وأسبانيا (مُرسيه).
هل نستطيع- من خلال اللغة- معرفة كيف وقعت مصر بين هجرتين: من شبه الجزيرة العربية شرقاً، وشبه الجزيرة الإيبيرية غرباً، بين قبائل بني هلال وبني سليم شرقاً والموريسكيين غرباً، بين مضطهدين مذهبياً شرقاً ومضطهدين دينياً غرباً، بين متمردي الصحراء شرقاً ومتمردي البحر غرباً.. هل نستطيع؟
أرأيتم كيف ذهب بنا الحديث عن العاميات كل مذهب، ففي ظني أن اللغة، ذلك الكائن الحي المراوغ والشقي والمتحول والمتحور بشكل دائم ولا نهائي، تمثل تلك الشفرة السرية للكائن البشري في التاريخ والجغرافيا.
وفي هذا السياق أود الإشارة إلى أن العامية التي أهملناها بحثاً- رغم أننا نتحدث بها يومياً- تنقسم في الأصل إلى بنية وكلمات. والبنية غالباً ما تعود إلى لغات قديمة كانت موجودة في حضارات هذه المنطقة. ففي العامية المصرية مثلاً يبدأ المتحدثون في كلامهم اليومي بالاسم أو بالضمير المنفصل وليس بالفعل، وهي عادة لغوية مصرية قديمة. كما يعبر المصريون في عاميتهم باسم موصول واحد (اللي) على كل حالات الفاعل سواء كان مفرداً أو مثنى أو جمعاً وسواء كان للمذكر أو المؤنث. وهي أيضاً عادة لغوية مصرية قديمة تختلف عن العربية التي تجعل لكل فاعل اسماً موصولاً خاصاً به (الذي- التي- اللذان- اللتان- الذين- اللائي). فالحقيقة أن المصريين مازالوا يتحدثون (لغتهم القديمة) ولكن بألفاظ جلها عربي وبعضها من بقايا جنسيات وأعراق أخرى وردت على المصريين في تاريخهم الطويل.
ما سبق وغيره يشير إلى أن اللغة العربية الموجودة على سطح المجتمع العربي إنما تخبئ خلفها تنوعاً وثراء ثقافياً وحضارياً لساكني هذه المنطقة المدهشة بين ماء الخليج شرقاً وماء الأطلسي في الغرب.
أي تهديد؟
السؤال عن أية عامية، يستدعي أيضاً سؤالاً عن: (أي تهديد)؟
ولعل التهديد الأبرز في ذهن من يطرح مثل هذا الطرح يشير إلى تهديد مصدره اللغات الأجنبية في عصر العولمة وما بعدها، وهو ما يراه البعض تهديداً لـ(الهوية المتخيلة)، إذا جاز لنا أن نستخدم تعبير بندكت أندرسون (Benedict Anderson) في كتابه الذي صدر مطلع تسعينات القرن الماضي (مجتمعات متخيلة) (Imagined Communities). لكن هذا التهديد الذي تفرضه ثورة الاتصال يفرض أيضاً التحاف المجتمعات بقيمها وأسسها (ومن بينها اللغة)، كما تسمح ثورة الاتصال ذاتها بتبادل التأثير والتأثر. وتسمح في الوقت ذاته للثقافات المحلية واللغات الأم بالحياة في اليومي والمعيش، بل الازدهار تحت سيطرة الرسمي والغالب، وهو المناخ الذي تنتعش فيه اللغات والثقافات المحلية.
لكنّ هناك تهديداً خفياً تعاني منه اللهجات المحلية في منطقتنا العربية، وهو تهديد الرسمي على الشعبي، النخبوي على العامي، الفصيح على الملحون. وكلها تقسيمات استترت بـ(هويات متخيلة) على مستوى الدين والسياسة والعلم واللغة والفن والثقافة..
وبالمناسبة، كل هذه التقسيمات أشار إلى طبيعتها غير واحد من مثقفينا العرب قديمهم وحديثهم، وأكاد أسمع في أذني صوت صفي الدين الحلي وهو يتحدث عن الأزجال، مؤكداً أن (حلال الإعراب فيها حرام، وصحة اللفظ بها سقام، يتجدد حسنها إذا زادت خلاعة، وتضعف صنعتها إذا أودعت من النحو صناعة، فهي السهل الممتنع، والأدنى المرتفع).
مما سبق أود التأكيد على أن تهديداً غير منكور يأتي اللهجات من داخلها، وأشير هنا إلى هذه النظرات النخبوية التي تؤثر على الاهتمام بمثل هذه السياقات اللغوية التي استطال عهد إهمالها مما أثر على الإنتاج العربي في علوم مثل اللغة، والمعاجم، والدراسات الشعبية والنظرية الثقافية وغير ذلك من العلوم التي يمكننا من خلالها معرفة هذه المنطقة وسكانها بشكل أكثر عمقاً.
وفي هذا السياق يمكن أن أشير إلى ذاك (المخيف) الذي أشرت إليه في عنوان هذه العجالة، وهو التعصب الذي يمكن أن يصيب بعض المتحدثين بلهجة من اللهجات المحلية، إذ إن الأمر لا يحتمل تفضيل لهجة على أخرى، مهما كان انتشار هذه اللهجة أو تلك. فلكل لهجة سماتها اللغوية والجمالية. ولعل ما تتداوله وسائل الإعلام من آن لآخر، وما يحاول بعض الباحثين تأكيده أحياناً من تفضيل لهجة على أخرى، كتلك الدعوات التي تفضل العامية المصرية على غيرها، أو وصف العامية المغربية بأنها أفصح لهجات العرب- حسب إبراهيم حركات في بحثه (الدارجة المغربية أفصح اللهجات العربية) (مجلة اللسان العربي 1966). مثل هذه الدعوات المتعصبة بعض الشيء تعوق البحث العلمي العربي في اللهجات والوصول إلى نتائج علمية مرتجاة.
وعلى العكس من ذلك لا ينبغي المبالغة في اعتبار أن (الفصحى) هي (لغة الكتابة والعلم)، وأنها (هي الرابطة الطبيعية) بين العرب في شتى (أفكارهم وشعورهم)، فاللهجات ظواهر طبيعية تحدث في كل لغات الأرض، (توجد بنسب متفاوتة حسب ظروف كل لغة) (نفوسة زكريا سعيد: الفصحى واللهجات العامية وأثرهما في قومية الثقافة ومحليتها/ مجلة الفكر 1972)
ولعلي لا أكون مبالغاً إذا قلت إن الاهتمام باللهجات المحلية في الشرق الأوسط خلال العصر الحديث ترافق بشكل ملحوظ مع اهتمام المستشرقين بالمنطقة وسكانها. وقد لاحظت شيئاً من ذلك عند تحقيقي (معجم التحفة الوفائية في العامية المصرية)، لصاحبه وفا أفندي، الذي أشار في مقدمته القصيرة للمعجم بأنه سمى معجمه بناء على اقتراح من (جناب العالم الفاضل والفيلسوف الكامل، حضرة ناظر المكتبة الخديوية العامرة، الدكتور كارل فولرس حفظه الله وأبقاه، فإنه جدير بأن يطاع، وحقيق بأن يبجل ويعظم حسبما يستطاع). وهي الإشارة التي توحي باستفادته وتعلمه بشكل أو بآخر من هذا العالم الألماني.
وكارل فولرس (Karl Vollers) - (توفي 1909): مستشرق ألماني معروف، تولى إدارة المكتبة الخديوية بالقاهرة أواخر القرن التاسع عشر، وكان من أوائل الباحثين في اللهجة المصرية الحديثة. وقد ظل فولرس في مصر حتى سنة 1896، وألف عدة كتب عن اللغة العربية بالألمانية، منها (العربية العامية عند قدماء العرب) و(المخطوطات الشرقية في مكتبة ليبسيك)، و(اللغة العامية المصرية)، صدر سنة 1890م.
وحتى نتبين أهمية ما قام به فولرس ومن ثم وفا أفندي، تهمني الإشارة إلى أنني بدأت تحقيق معجم (التحفة الوفائية) بوصفه مجرد معجم للتعريف بالألفاظ ومعانيها في التداول اليومي أواخر القرن التاسع عشر، فإذا بي أمام معجم يكشف طبيعة الحياة في مصر من النواحي كافة، فلم يكن المؤلف يتعرض للفظ إلا ويجد نفسه أمام عالم من الثقافة الشعبية التي يتحرك فيها هذا اللفظ أو التعبير أو المثل.
كما أن البحث في هذا العالم من الثقافة الشعبية التي تعتبر اللغة عمادها الأصلي يكشف عن حجم المراوغات اللغوية التي تمارسها اللهجات المحلية وما تكتنزه من معارف. ولعل تعبيراً مثل (يضرب أخماس في أسداس) يمكنه أن يشير إلى مثل ذلك. حيث يعني هذا المثل الآن أن أحدهم يعاني من الحيرة الشديدة، وهو التعبير الذي كان في الأصل من تعبيرات البادية العربية لوصف العربي إذا كان يجهز ناقته للسفر فيقوم بتعطيشها خمسة أيام، ثم يسقيها، ثم يعطشها ستة أيام ثم يسقيها حتى تشرب أكبر كمية من الماء وتخزنه في جوفها نظيفاً، ثم يبدأ العربي رحلته في الصحراء مطمئناً لأن معه مخزوناً من الماء في جوف ناقته.
وقد صادفت هذا التعبير أثناء تحقيقي لمعجم (القول المقتضب فيما وافق لغة أهل مصر من لغة العرب) لابن أبي السرور البكري حول عامية القرن العاشر والحادي عشر الهجريين، والذي أورد هذا التعبير وقال إنه يشير إلى أن أحدهم يدبر مكيدة لخصمه.
ولعلنا هنا نعود إلى أول كلامنا حول (أي عامية)؟ فلكل زمن عاميته، كما أن لكل مكان عاميته أيضاً، ودرس هذه العاميات وتوثيقها من أهم عوامل فهم هذه المجتمعات التي تعيش في منطقتنا العربية بكل ما تكتنزه لغاتهم ولهجاتهم المحلية من غنى وثراء.