تعد الحجاز واحدة من أهم المناطق السعودية، فهي تضم المدينتين المقدستين مكة المكرمة والمدينة المنورة، فالأولى قبلة المسلمين، والثانية مثوى سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم. هذا بالإضافة إلى موقعها الإستراتيجي على البحر الأحمر، وكونها تضم الميناء الأول في المملكة العربية السعودية ألا وهو ميناء جدة الإسلامي، وكذلك تضم الحجاز مدن ذات أهمية كبرى اقتصادياً وتجارياً، مثل: ينبع ورابغ والقنفذة والباحة. وفي هذه الورقة اللسانية نتناول الحجاز بنطاقها التاريخي القديم الذي يشمل جل أجزاء منطقة المدينة المنورة ومنطقة مكة المكرمة ومنطقة الباحة. ونركز على لهجات هذه المنطقة، والتي تتعدد فيها اللهجات بشكل كبير في مدنها وفي قراها وأريافها.
الوجود الثقافي والإنساني اليوناني في الحجاز
الناظر في المصادر اليونانية القديمة ككتاب التاريخ(Ἱστορίαι, (Historíai; لـ(هيرودُتُس Hēródotos) (Ἡρόδοτος) الملقب باسم (أبي التاريخ) (٤٨٠ - ٤٠٦ق. م) و(ثيوفراستُس) Θεόφραστος (٣٧١ - ٢٨٧ ق. م) صاحب كتاب النبات (Περὶ φυτῶν ἱστορία, Peri phyton historia)، و(إيراثوستينِس) (Eratosthénēs) Ἐρατοσθένης (276 ق.م - 195/194 ق.م تقريباً) مؤلف(الجغرافية) (Гεωγραϕικά(Geographika المفقود والذي نقده (سترابو)، و(ديودورُس الصقلي)(Διόδωρος(Diódōros(٩٠ ق.م.- ٣٠ ق.م.) مؤلف (المكتبة التاريخية) Βιβλιοθήκη ἱστορική (Bibliothéke historiké)، و(سترابون) Στράβων (Strábōn) (63 أو 64 ق.م - 24م) في كتابه (الجغرافية) (Гεωγραϕικά (Geographika الذي دون فيه مذكراته عن مرافقته لحملة القائد الروماني (وس أيليوس لُّس) Gaius Aelius Gallus، التي رمت إلى احتلال جنوب الجزيرة العربية، وكذلك (بطليومس) (Ptolemaios)Πτολεμαῖος(١٠٠م -١٨٠م)، في أطلسه الجغرافي الشهير (Geōgraphikḕ Hyphḗgēsis)
Γεωγραφικὴ Ὑφήγησις أي الإرشاد الجغرافي، الذي تحدث فيه عن مدن الجزيرة العربية عامة، وتكلم عن قبائلها وتجارتها، وزيَّن كتابه بخرائط تحدد مواقع المدن بالدرجات؛ يجد أن هذه المؤلفات دليل واضح على قدم العلاقات بين اليونان والعرب. وهذه العلاقات مردها التقارب الجغرافي، والمعاملات التجارية التي كان لطريق البخور فيها تأثير جلي.
ولا شك أن بعض ممالك العرب القديمة كمملكة تدمر كانت علاقاتها باليونان علاقة الحليف، وكان لها موقف معروف في دعم اليونان في حروبهم مع الفرس.
ولا تسعفنا المراجع القديمة لبيان حقيقة الوجود اليوناني في الحجاز قبل الإسلام، ولكن طريق البخور كان يعج بالتجار اليونان الذين ذرعوه جيئة وذهاباً لقرون عديدة. ومثل هذا النشاط التجاري حري بأن يكون بذرة لتلاقح حضاري ثقافي لغوي ما بين الأمتين العربية واليونانية، والذي نراه جلياً في معجمي اللغتين العربية واليونانية.
وحينما نتكلم عن الحجاز فلا بد أن نتحدث عن وجود يوناني متأخر في الحجاز، وبخاصة في ثغره الاقتصادي العريق مدينة جدة. يذكر البستاني في موسوعته الشهيرة، وهو يتحدث عن سكان جدة؛ ما نصه: (إن السكان هم مزيج من عرب حجازيين ونجديين ويمانيين وحضارمة ومصريين وسوريين ومغاربة، ومن شعوب إسلامية غير عربية في مقدمتها الفرس قديماً وحديثاً، ويشاركهم أهل الهند وأفريقيا، وجاليات كبيرة من أتراك إلى إنجليز ويونان وفرنسيين وإيطاليين، قدموا إليها بحكم أعمالهم الرسمية وبحكم أشغالهم التجارية). وقد كان لليونانيين وجود كبير في جدة في القرن المنصرم. واليوناني بطبعه ساحلي بحري يحب التجارة، ولذلك طاب لكثير من اليونانيين الإقامة في جدة لممارسة التجارة والأعمال البحرية المختلفة. ومن أشهر الشخصيات الجدية اليونانية الخواجة (ينّي). ويعد (يانّي) أشهر من دُفن في مقبرة الخواجات بجدة، وهو تاجر يوناني اسمه (ينّي خريستو دولو)، وكان قد أسس دكاناً كبيراً، كان أهل جدة يسمونه (بنك الخواجة). وقد تمتع (ينّي) بخلق حسن جعله محبوباً في مجتمع جدة الحجازي، ويُذكر أنه لما توفي أقيمت لجنازته مراسم من منزله إلى المقبرة المذكورة، ورافق جنازته عدد من سيارات القناصل في جدة وكبار الشخصيات. وسارت الجنازة من الشارع الرئيس حتى وصلت سور جدة الجنوبي، ثم دفن في مقبرة الخواجات التي كانت قديماً تعد خارج مدينة جدة في جهتها الجنوبية، وإن أصبحت الآن في وسط المدينة التي اتسعت ونهضت في العهد السعودي الزاهر.
ونجد عبدالوهاب أبوزنادة في كتابه (سيرة جداوية)، يذكر أنه كان بينه وبين الخواجة (يني) علاقة شخصية، حين كان يعمل في الغرفة التجارية في شارع قابل. وقد وصف أبو زنادة في هذا الكتاب كيف باع الخواجة يني بقالته الشهيرة رغم إستراتيجية موقعها وحظيه بالاحترام والتقدير من الجميع، لكن الخواجة يني أصر على إتمام البيع، وكان ذلك في عام 1386هـ: (بعدها سافر وانقطعت أخباره، وبعد عامين عاد كسير الخاطر هزيل البنية، مترهل الكرش ويدخن بشراهة، وقال إن عودته لوطنه لم تنسه العيش هنا في جدة، وإن حنينه لها ولأهلها هو الذي عاد به إليها، وإنه ينوي العودة مجدداً إلى البيع والشراء، لكنه يفتقد المال بعد أن بدد تحويشة عمره في بلاده وأتى مفلساً، ولمساعدته أوجدوا له عملاً في بقالة كبيرة (سوبرماركت)، كانت قد افتتحت على تقاطع طريق المدينة مع شارع فلسطين، لكنه رفض العمل فيها أجيراً، ورحل دون أن يودع أحداً من أصدقائه).
والوجود اليوناني التجاري والثقافي في جدة يستحق أن يدرس بعمق رغم شح المصادر.
تأثر اللهجات الحجازية باللغات الأخرى
تُعد اللهجات الحجازية من أقدم اللهجات العربية تأثراً وتأثيراً في اللغات الأخرى. ونظراً لموقع الحجاز الإستراتيجي على مفترق طرق التجارة بين الشرق والغرب، فقد تأثرت هذه اللهجات على مر العصور بالعديد من اللغات الأخرى، مما جعلها غنية ومتنوعة. فبحكم المكانة الدينية للحجاز وبحكم موقعه فقد توافدت عليه الشعوب من مختلف أنحاء العالم، مما أدى إلى احتكاك اللهجة الحجازية بلهجات ولغات أخرى، مثل: الفارسية والتركية والسواحلية. وكان لوجود جاليات وقنصليات أجنبية صينية وهولندية وإيطالية ويونانية.. وغيرها أثر في تسرب كلمات من لغات هذه لشعوب إلى اللهجات الحجازية.
ومن طرق انتقال الكلمات اليونانية، التي كانت أصلاً قد دخلت العربية الفصحى قبل ظهور الإسلام مثل فردوس وخندريس ومنديل.. وغيرها؛ انتقالها المباشر عبر الجالية اليونانية في جدة، وكذلك ورودها عبر لغات وسيطة كالتركية التي تزخر بمئات الكلمات اليونانية المترّكة، وكالفارسية التي لا تختلف عنها في هذا الأمر كثيراً.
أمثلة على الكلمات اليونانية الدخيلة في اللهجات الحجازية
إستاكوزا
الإستاكوزا جراد البحر والكركند وأم الربيان في الخليج عموماً، والشارخة في عُمان، وتسمى بالإنجليزية lobster، وقد تكون دخلت لهجاتنا الحجازية من اليونانية عبر التركية، فهي بالتركية Istakoz وباليونانية (astakós (ἀστακός.
بانيو
يسمى المغطس في لهجات الحجاز (بانيو)، وهي من الإيطالية bagno وأصلها من اللاتينية العامية baneum من اللاتينية balneum أي مُغتسَل من اليونانية القديمة βαλανεῖον (بالانيون) بذات المعنى.
بدروم
في لهجاتنا الحجازية تسمى الغرفة أو الدور الذي يكون تحت الأرض (بدروم)، ولا علاقة لهذا الاسم بكلمة bedroom التي تعني غرفة نوم -كما قد يتوهم كثير من الناس. فالكلمة أصلاً بضم الباء، وجاءتنا من التركية Pudrom/Budrom بُدروم وهي دخيلة من اليونانية البيزنطية ὑπόδρομοςوتعني حرفياً ممر سفلي، ودلالتها عندهم السرداب والقبو.
فاصوليا
والفاصوليا اسم شائع لبذور مجموعة من النباتات المتنوعة التابعة لأجناس من الفصيلة البقولية (أو القرنية) (Leguminosae). وتستعمل معظم أنواعها غذاء للإنسان، حيث تحضر منها وصفات غذائية عديدة. واسمها في لهجاتنا الحجازية جاء من اليونانية الدارجة (φασολιά (fasouliá.
فراولة
واسم هذه الفاكهة الحمراء في اللهجات الحجازية يوناني بحت، فهي في اليونانية (φράουλα (fráoulα، واسمها في اليونانية الوسيطة(φράγουλα(phrágoula فراغولا، فخففت، ودخلت لهجاتنا بنطقها اليوناني الحديث.
قوطي
تسمى قنينة المشروب ونحوه في بعض لهجات الحجاز قوطي، وقد وردتنا من اليونانية (κουτί (koutí عبر صيغتها التركية العثمانية قوطی kutı وهي الآن بالتركية الحديثة kutu. واشتقاق κουτί في اليونانية من (κυτίον (kutíon وهي تصغير (κύτος (kútos أي إناء.
كابوريا
يسمي الحجازيون السرطان البحري -الذي يسمى في الخليج قبقب وفي تونس قبروص، ويسمى كذلك سلطعون- يسمونه (كابوريا) وهي كلمة يونانية صرفة καβούρι (تكتب كابوري) وتنطق كاڤوري kavoúri. وبها سمي نوع من أنواع قزع الشعر الذي انتشر في أوساط الشباب ردهة من الزمن.
كرويتة
قولهم في الحجاز الكرويتة لمقعد مستطيل يصنع من الخشب أو الحديد، أصلها من اليونانية (κρεβάτι (kreváti (كريڤاتي) وتعني أصلاً السرير، جاءتنا عبر التركية العثمانية (كروت)، وتنطق وتكتب في التركية الحديثة kerevet بذات المعنى في لهجاتنا الحجازية، وتجمع على كراويت وكرويتات.
ملوخية
قولهم لنبتة خضراء وطبق يصنع منها ملوخية في لهجات الحجاز أصله يوناني من (μολόχη (molókhē وتعني أصلاً نبات الخبيز، ولعل السبب في هذه التسمية كون النباتين من الفصيلة الخبازية، وأن الملوخية كذلك تسمى خبّيز اليهود Jew’s mallow. ولا يصح تأثيلها على أنها من كلمة ملوك، فهو تأثيل شعبي لا يصمد أمام الفحص التأثيلي العلمي.
خاتمة
تتبّع كل الكلمات اليونانية في لهجاتنا الحجازية يستدعي جهداً بحثياً جاداً، وقد اكتفينا في هذه العجالة بهذا القدر، متمثلين بقول العربي قديماً: (حَسْبُك من القلادة ما أحاط بالعُنُق). والتلاقح الثقافي واللغوي ما بين العربية ولهجاتها واليونانية موضوع لم يدرس جيّداً، ولا تزال ثمة فسحة للباحث الجاد ليبرز لنا نواحي مغيبة، وتأثيرات يغفل عنها، هي نتاج تفاعل بشري مغرق في القدم بين حضارتين وثقافتين تعدان من أقدم حضارات المعمورة التي لم تنقطع منذ بزوغها حتى يوم الناس هذا.