تعد دراسة اللهجات واحدة من اهتمامات اللسانيات الاجتماعية، حيث ينظر إلى اللهجة من زوايا عدة، من حيث علاقتها باللغة من جهة، وهي علاقة شائكة ومشتبكة، ومن زاوية النظر إلى المتكلم ذاته، والتعالقات الاجتماعية، وما إلى ذلك، وثمة تفاصيل نظرية كثيرة في هذا الشأن، لكننا نتجاوز الأمور النظرية تلك إلى واقع اللهجات اليوم، وبخاصة في المملكة العربية السعودية. ولعل ميزة الانطلاق في دراسة اللهجات من اللسانيات الاجتماعية هي التحرر من التحيز ضد اللهجات، إذ كانت -وربما لم تزل- دراسة اللهجات محفوفة بالمكاره، من حيث الموقف الحادّ لدى بعض الباحثين، وبعض الهيئات العلمية التي ترى في دراسة اللهجة تهديداً للغة العربية الفصحى، أو على أقل تقدير ترى فيه عقوقاً لها! وهذا الموقف ربما كان له ما يسوغه في فترات معينة وفي أماكن أخرى، ومع لهجات أخرى، ولا ينسحب بالضرورة على واقع الحال واللهجات في المملكة العربية السعودية، ومع ذلك جرى سحب هذا الموقف وتضخيمه وتعميمه، ليزهّد في أي دراسة تتعلق باللهجات!
ويبدو أن هذا الموقف كان من شأنه أن يعرقل البحث اللهجي الجادّ على مستوى توثيق اللهجات في المملكة العربية السعودية، وتوصيفها، وهو عمل كان ينبغي أن يُنجز منذ وقت بعيد، ذلك أن من طبيعة اللهجات سرعة التغير نسبياً، وبخاصة على المستوى المعجمي والدلالي، وقد كانت اللهجات في المملكة العربية السعودية في وقت مضى شبه معزولة، وقليلة التأثر بغيرها من اللهجات أو الانزياح إلى اللهجة البيضاء، وقد كانت اللهجات حينئذ -فيما نتصور- محتفظة بخصائصها التي تتشاركها وتختلف في جوانب أخرى منها مع اللهجات الأخرى، وكان ذلك التوقيت -فيما نرى- هو التوقيت المثالي لتوثيقها ودراستها، إلا أنّ الأوان لم يفُتْ بعد، فما زال هناك موارد لتوثيق تلك اللهجات، حيث تحتفظ بسماتها في المأثور شعراً ونثراً، مما صيغ على تلك اللهجات ومازال متداولاً على الألسن، وفي طريقة صياغتها لأسماء الأعلام للأشخاص والجبال والأماكن والقبائل فضلاً عن الحكم والأمثال والحكايات والأساطير، والألعاب والفلكلور والتراث غير المادي بوجه عام، كما أنّ من الموارد التي قد يغفل عنها بعض الباحثين ما يتعلق بالنقوش المنتشرة في أرجاء المملكة العربية السعودية. وهي نقوش ذات قيمة علمية عالية نرى أنها لم تستثمر بعد على النحو الذي ينبغي أن يكون، وهذا يعني أنّ دراسة اللهجات يمكن أن تتنوع بين الجانبين الوصفي والفيلولوجي، وهو أمر معتاد ومقبول في دراسة اللهجات، ومن شأنه أن يقود إلى نتائج بحثية أكثر دقة وإحكاماً.
ويبدو لنا أن من أهم الخطوات التأسيسية في هذا المنحى تحرير العلاقة بين اللغة العربية الفصحى واللهجات العربية المحايثة، وبخاصة اللهجات في المملكة العربية السعودية، حيث إنّ هناك من يرى أن اللهجات تُعدّ انحرافاً عن الفصحى، وبالتالي يعيد اللهجة إلى الفصحى، عند رصد الظواهر، على اعتبار أن الأصل هو الفصحى، وأنّ اللهجة انحراف عن الأصل، أو فرع عنه في أحسن الأحوال! وسنجد أغلب الدراسات التي أنجزت في الحقل اللهجي تنحو هذا النحو، من أمثال الدراسات المعجمية تحت عنوانات متعددة تجمعها ثيمة (فصيح العامي أو العامي الفصيح)، وكذلك الدراسات (التأصيلية) للهجات، وهي تريد بالتأصيل ربط اللهجة بالفصحى، وفق هذا المنظور الذي ينظر إلى اللهجات بنوع من الدونية، ويعدها نسخة منحرفة أو مشوهة عن الفصحى، ومن ثم يتلمّس ما عساه يكون شفيعاً لدراسة هذه اللهجة أو تلك، وهو أنّ ثمة كلمات في اللهجة دوّنت في المعاجم القديمة للفصحى! على أن هناك من يرى- ونحن مع هذا الرأي- أن اللهجات ليست انحرافاً عن الفصحى بالضرورة، وإنما قد تكون سابقة لها أو موازية لها، وعلى وجه الخصوص اللهجات في المملكة العربية السعودية، ومن المعلوم أن الفصحى لغة أدبية (منتخبة)، والمنتخب متأخر عن المنتخب منه بطبيعة الحال، وقد كان الرصد اللهجي موجوداً منذ الدرس اللغوي العربي المبكر، فحتى مع اهتمامهم المركزي باللغة العربية الفصحى كانوا يرصدون بعض الظواهر اللهجية (التي كانوا يصطلحون عليها بأنها لغات أو لغيّات)، وهو أمر سنجده منذ الخليل وسيبويه ومن تلاهما.
ومهما يكن الأمر فإذا صحّ هذا التصور لعلاقة اللغة العربية الفصحى باللهجات فإنّ دراسة اللهجة لا ينبغي أن تنهض في إطار المقارنة مع الفصحى من منظور الأصل والانحراف عنه أو الأصل والفرع، وإنما على تلك الدراسات أن تنهض في إطار أصالة اللهجة، واستحقاقها للتوثيق والدراسة.
لقد آن الأوان لأن تنطلق دراسات مكثفة للهجات في المملكة العربية السعودية لما تتمتع به هذه اللهجات من ثراء وتنوع على مستوى النظام الصوتي، والبنى الصرفية، والأبعاد المعجمية والدلالية، هذا من جانب؛ ولما تتعرض له هذه اللهجات من ضغط من جانب آخر، وهو ضغط له تفسيراته من منظور اللسانيات الاجتماعية بطبيعة الحال، لكنه سيقود مع الوقت إلى اضمحلال كثير من تلك اللهجات في لهجات أخرى أوسع وأشهر وأكثر تداولاً أو في اللهجة البيضاء التي تبدو أكثر تداولاً، بين فئات الشباب بوجه عام، وهي -أي اللهجة البيضاء- تقصي بطبيعة الحال الفروقات اللهجية الدقيقة، والسمات المحلية التي تتمتع بها كل لهجة من اللهجات، وسنلاحظ أثراً واضحاً لبروز هذه اللهجة البيضاء على حساب اللهجات المحلية المختلفة بشكل جلي في محيط العمل، ووسائل التواصل، والتجمعات العامة، بل برزت ظاهرة عبر وسائل التواصل تُسقط على تلك اللهجات المحلية ضرباً من (النكات) الذي يصل إلى درجة (التنمر) والإقصاء، والحط من شأن تلك اللهجات لصالح اللهجة البيضاء.
ولا يعزب عن البال في هذا الصدد أن عدداً من الجامعات بدأت الالتفات بالفعل إلى أهمية الدراسات اللهجية، لكنها التفاتة منقوصة -فيما نحسب- إذ ما تزال تعتور عدداً من تلك الدراسات النظرة المتحيزة التي ألمعنا إليها أعلاه في علاقتها بالفصحى، ومن ثم فسيكون من الجيد أن تنهض الدراسات اللهجية وفق رؤية مؤسسية واضحة، ومخطط لها بشكل يضمن استغراق اللهجات المتنوعة في المملكة العربية السعودية في دراسات مسحية توثيقية ابتداء، فالتوثيق في هذه المرحلة مسألة عاجلة وملحّة، ثم تكون الدراسات الوصفية والتفسيرية مرحلة تالية، ونرى أن تتولى جهة واحدة القيام على تلك الدراسات والتخطيط لها، لضمان استناد تلك الدراسات إلى رؤية علمية دقية وواضحة وموحدة من جهة، وضمان أن يقوم بتلك الدراسات باحثون متخصصون في الدراسات اللهجية من جهة أخرى، لأنهم سيكونون على وعي بالقيمة اللغوية لهذه اللهجات وثمرة توثيقها ودراساتها التي ستتجاوز اللهجات نفسها لتعود على اللغة العربية بالفصحى من خلال القدرة على تفسير بعض الظواهر اللغوية التي لم تحظ بتفسير مقنع مستند إلى واقع لغوي.