وقع في يدي كتاب لطيف الحجم عنوانه (نزهةُ الألباب في مراسلات الأحباب)، وهو ملحق بكتاب (نزهةُ الألباب في تاريخ مصر وشعراء العصر ومراسلات الأحباب) لمحمد حسني أفندي العامري، الذي وُصف على الغلاف بأنه أديب شاعر كاتب قلم جوازات السويس.
قال عنه الزِّرِكْلي: «أديب مصري، من أهل بلدة أبي الأخضر (بالشرقية)، كان كاتب الجوازات في السويس، ثم رئيس قلم الحج والمحاجر الصحية، بوزارة الداخلية، وتوفي ببلدته»(1) سنة 1373هـ/1953م. أما الكتاب الذي بين يديّ فأخرجته مطبعة الهلال، بالفجّالة بمصر، سنة 1314هـ/1896م، أي أنه طُبع قبل نحو 130 سنة، والفرق بين تاريخ طباعة الكتاب وتاريخ وفاة المؤلف نحو ستين سنة هجرية، وهذا يعني أنه ألّفه شابّاً، وأنه عاش طويلاً، أو أن تاريخ وفاته غير صحيح.
هذا الكتاب في نحو 240 صفحة، وفيه ذكرٌ لرجال من الجزيرة العربية، لهم مع المؤلف أخبار، رأيت الإشارة إلى بعضها في هذه المقالة الموجزة، والإطراف بها.
فمنهم الشيخ فهد بن عبدالله المهيزعي، الذي نعته بأنه من أهل نجد، وأنه علامة أمجد، وشاعر أوحد، قال المؤلف: إنه رآه ينتظر باخرةً تُقلّه إلى بلده، فتعرف إليه، وقال في ذلك كلاماً أدبيّاً ينبئ عن لطف نفس، ولا يخبر عن حقيقة موقف، من أنهما تبادلا الشوق والمحبة، وأَنِس كلٌّ منهما بصاحبه، فقال فيه العامري المؤلف قصيدة وداع مطلعها:
رأى طرفي من الأعراب شهماً
بَسِيم الثغر معتدل الصفاتِ(2)
ووصفه بأنه:
له رُتب من السلطان عُليا
تشير لقدره بين الكُماة
فأجابه المهيزعي بقصيدة طويلة مطلعها:
أتتك فحيِّ باهرة الصفاتِ
تَبَخْتَرُ في الثياب السابغاتِ(3)
وقال: إنه أهداه عقالاً وكوفية، فقال له:
غزالي من حمى نجد يوالي
إليّ من التعطّف كلّ غالي(4)
وفي القسم المخصص للتعريف ببعض شعراء العصر، والاختيار من شعرهم، ترجم للمهيزعي ونعته بالعلّامة، وأورد بعض شعره، وقال: إنه من أهل الحصى (لعله أراد الحَسا)، وإنه «يقول الشعر بلا تكلّف، واشتهر فيه حتى نال بفضله الرتب والنياشين، من لدن جلالة مولانا السلطان المعظم»، ونقل من شعره عشرة أبيات من التائية المارّ ذكرها، مدح بها المؤلف. قال: ولحضرته باع طويل في النثر، فترى كل محرراته مسجّعة بديعية(5).
وترجم المؤلف أيضاً لمبارك بن مساعد بن مبارك البسام، ونقل بعض شعره، وقال: إن له قصائد من الشعر الفصيح والحميني، تملأ المجلد العظيم، وذكر أنه أعانه بإرسال دعوته للأدباء في نجد للتعريف بأنفسهم، وبَعْثِ بعض شعرهم، ثم ذكر أن ولادة ابن بسام هذا في عام 1258هـ، ثم فصّل القول في بعض رحلاته داخل الجزيرة وخارجها، كالعراق والكويت والهند، وذكر بعض قصائده الفصيحة(6).
ومما ورد في الكتاب الثناءُ على حجّاج العرب، إذْ مدحهم بأن سجاياهم «عينُ الكمال، وحِلْيَةُ الرجال، وليس للكذب عندهم موطن، ولا للرياء مَكْمَن»(7).
وأطرف ما وقفت عليه في هذا الكتاب إظهارُ المؤلف إعجابَه بما سماه الشعر الحُميني للظلماوي النجدي:
يا كليبْ شِبّ النارْ يا كليبْ شِبّهْ
عليكْ شبَّهْ والحطبْ لك يجابي(8)
وقال: إنه سمع هذا الشعر من بعض تجار الإبل، من عرب نجد، الذين يمرون على السويس، فأشكل عليه بعضُ معانيه، فأرسل إلى مبارك بن مساعد البسام القاطن في جدة، يسأله عن معنى ذلك الشعر، وعن نمر بن عَدوان، فأرسل إليه ابن بسام جواباً قال فيه:
«وأما سؤالك عما سمعته من بعض عُربان نجد، تجار الإبل من القصائد التي تكاد لا تفهم، وإن فُهمت لا يمكن الإنسانَ كتابتُها؛ فالأمر كما ذكرت إلا لمن أوغر (كذا وأراد أغور أي أغار) وأنجد، وسار بأقطار العرب...وهذا الشعر يسمونه بالحميني، وهو لا يدخل في موازين العروض(9)...وقد ورد منه شيء في أواخر مقدمة ابن خلدون»، ثم قال ابن بسام: «لي بهذا الفن نظم رواية ودراية، أيام صغر سني، أيام كانت تجارتي الجمال، وهي دَيدني وفنّي، كمن تراهم اليوم، ولأهل هذا الفنّ معانٍ مثل معاني الأولين بلا نقص...وأيضاً بعض ألفاظها يخرجونه من غير مخارج الحروف المعروفة، ويتوهم بها السامع والكاتب، ويكتبها على غير مراد أهلها، كما كتبتَ بخطّك:
لا جاضَعْ(10) المسبوع خطو الجَلَبّهْ
لا ما حلا يا كليبْ طقّ الرسابِ
فقول سيادتكم (الرساب) مراده (الركاب)(11) أي الهجن، وهذا المخرج عندهم معروف مألوف، مع أنه يخالف المخارج المعروفة، والمسبوع هو قصير الهِمة، والجَلَبّة السمينة من النساء التي بين الشابّة والتابّة»(12). ثم استرسل ذاكراً بعض وجوه الائتلاف والاختلاف بين شعراء العامة المتأخرين، وفحول شعراء الجاهلية والمولّدين، وضرب مثلاً بوجه من وجوه الشبه في بيت لتركي بن حميد، يشبه بيتاً لامرئ القيس(13).
وذكر المؤلف أن ابن بسام كتب له بعض شعر محمد القاضي (ت1285هـ)، وقال: إنه سمع قصيدة القاضي في القهوة ومناسبتها، من عدد من رواة الشعر النجديين(14).
وبدا أن المؤلف مشغوف بملاقاة أهل الجزيرة، وقد ساقه ذلك إلى لقاء جماعة من أهل الكويت وعمان، وإن كان نَعَتهم، متوهّماً، بأنهم من أهل نجد، وأنشدهم قصيدة فصيحة مرتجلة يمدحهم فيها(15).
ويبدو أن ثقافة الكاتب اللغوية، وقدرته الكتابية ليست في منزلة رفيعة، وقد غلبته اللهجة المصرية في بعض المواضع، فثقيف، مثلاً، صارت (سقيف)(16). ومهما يكن ففي كتابه لطائف وطرائف، وأخبار ونوادر لرجال مشهورين ومغمورين، وفي القسم الذي خصصه لشعراء العصر أورد أسماء شعراء فصحى وعامية، منهم محمد بن رشيد أمير حائل(17). وفي ذلك كلّه فوائد لمن يريد البحث في تاريخ الشعر والعلاقات الأدبية بين أدباء مصر وأدباء الجزيرة العربية.
وقد سبقني إلى التعريف بالكتاب الأستاذ صلاح الزامل الذي أشار إلى بعض ما فيه، في مقالة عنوانها (قراءة في كتاب نزهة الألباب في تاريخ مصر وشعراء العصر، العامري المصري أول أديب من أدباء مصر يحتفي بالشعر النبطي)، جريدة الرياض، العدد 14061,3 من ذي الحجة 1427هـ، 23 من ديسمبر 2006م.
المراجع:
(1) الأعلام، 6/96.
(2) نزهة الألباب، 3.
(3) المصدر السابق، 4.
(4) المصدر السابق، 5.
(5) المصدر السابق، 141 - 142.
(6) انظر: المصدر السابق، 142 - 149.
(7) المصدر السابق، 102.
(8) صاحب القصيدة هو دُغَيّم الظلماوي المتوفى عام 1324هـ. انظر ترجمته في: رجال في الذاكرة، سير ذاتية لبعض رجال نجد المعاصرين، عبدالله الطويان، 4/57 - 63.
(9) كذا قال! والحقّ أن معظم الشعر العامي (الحُميني والنبطي وغيرهما) يمكن ردّه إلى بحور الشعر الفصيح وما يُدانيها.
(10) هي ضاجَع، ولكن وقع فيها قلب مكاني، مثل جذب وجبذ.
(11) يشير إلى اللهجة الشائعة في نجد، وهي قريبة من الكسكسة، وليست إياها، فهم ينطقون الكاف في أول الكلمة وفي وسطها حرفاً يجمع السين والتاء، في مثل (كبير) و(كامل)، و(ركاب)، واقترح مجمع اللغة الافتراضي تسميتها (التستسة).
(12) نزهة الألباب، 116-117. وقوله (التابّة) أراد به العجوز الهرمة، من التباب.
(13) انظر: المصدر السابق، 114-118.
(14) انظر: المصدر السابق، 118-121.
(15) انظر: المصدر السابق، 100-102.
(16) انظر: المصدر السابق، 124.
(17) انظر: المصدر السابق، 132-136.