لم يكن يأتي من الحي أي صوت سوى زقزقة عصافير الدوري، وهي تحطّ على أشجار السرو القريبة من البناية، في صباح أحد أيام الجمعة من شهر نيسان، لم يكن مزاجي على ما يرام، بل كان مُتعكّراً على نحو اعتدته، ولم تعتده زوجتي، فانفصلت عنّي، شربتُ ما تبقّى من فنجان القهوة، وهرستُ السيجارة في المنفضة، وتعرّيت وأنا أمشي نحو الحَمّام، ثم أغلقت الباب ورائي، ومكثت قليلاً تحت صنبور الماء أسعى إلى قليل من الشعور بالسكينة.
جفّفتُ جسدي، وأدرتُ مفتاح الباب لأخرج، لكنّه كان عالقاً لا يدور، لا يميناً ولا شمالاً، حاولت لأكثر من مرة أن أحرّر المفتاح من جموده، لكنّي فشلت.
أخذ نَفَسي يضيق، وشعرتُ بالهواء ينحسر، ومحاولاتي تفشل كل مرة بتحريك المفتاح، مع كل محاولة يضيق نَفَسي أكثر من ذي قبل، وأشعر بالجدران تزحف نحوي، فيتصبّب عرقي، على الرغم من اعتدال درجة الحرارة في البيت. فكّرت أن أصرخ، لعلَّ أحداً يسمعني، ويأتي ليكسر باب البيت، ثم يكسر باب الحَمّام، لكنّها لم تكن فكرة جيّدة، خصوصاً أنّني أقطن في الطابق الرابع لبناية في حيّ لا يعرفني فيه أحد، وحتى لو فعلتُ ذلك، فلا أحد سيسمعني.
فكّرت أن أخرج من نافذة الحَمّام الضيّقة، لكنّي من المؤكَّد حينها سألقى حتفي، أيّ ورطة هذه؟ وأيّ حلٍّ سيخرجني منها؟ رحتُ أدور حول نفسي في مساحة الحَمّام الضيّقة، بعد أن فتّشت عن أداة يمكنني أن أستعين بها لمغادرة ذلك المأزق، ولم أجد، جلست على كرسي الحَمّام أحاول أن أهدأ، لعلّي أعثر على الحلّ، لكنَّ الهدوء في لحظات مثل هذه، كان مطلباً عصيّاً على التحقّق.
ثمّة طنين لذبابة كان يُعيق تفكيري، ويضاعف شعوري بالغضب والضيق، رحتُ أبحث عن الذبابة فوجدتها، إذ كانت تتنقّل بين جدران الحَمّام، مرّةً تحطّ ويتلاشى طنينها، وأخرى تحلّق في تلك المساحة التي لا أعرف كيف كانت تراها، قياساً مع حجمها الضئيل.
خلعتُ حذائي، وأخذتُ أصوّبه نحوها وأضربها به، لكنّي عجزت عن اصطيادها، تكاثر إحساسي بالضيق، وأفضى بي غضبي إلى الصراخ بوجه الذبابة، تبلّل وجهي، ورقبتي، وباقي جسدي بالعرق، وبتّ على مقربة من العجز التام عن التركيز، حينها، وبعد مضي نصف ساعة، أصبتُ بالاستسلام التام، وأيقنتُ أني سألقى حتفي في ذلك الحَمّام الضيّق، مصاباً إمّا بأزمة قلبيّة، أو سكتة دماغيّة.
احتضنتُ رأسي بين كفيَّ، لا أفكر بشيء سوى ذلك المصير الغريب، حطّت الذبابة على رأسي، ثم شعرتُ بها تحطّ على عنقي، ما إن رفعتُ رأسي إلى الأعلى، حتى طارت إلى الجدار القريب الذي يقابلني، وسكنَتْ في مكانها.
كان بإمكاني في تلك اللحظة أن أهرسها بيدي، لكنّي وجدتُها أنيسي الوحيد في تلك الإقامة الإجباريّة، أمضيتُ دقائق أحدّق إليها، ثم ارتديتُ نظّارتي التي أستخدمها للقراءة، فباتت ملامحها أكثر وضوحاً، لأول مرة أرى تفاصيل الذبابة الجسديّة، وأشعر بأنّها كائن ربما يفوقني في القدرة على العيش، وعلى ممارسة الحرية، لذا رحتُ أتحدّث إليها دون أن أدري ما دفعني إلى ذلك.
لا أظنّ أنَّ هذا السجن جاء من باب الصدفة، ولو أنَّ أبواب الصُّدف يا عزيزتي مُشرَّعة دوماً، لكنّنا لا ننتبه لها.
اقتربتُ أكثر من الذبابة وهي ساكنة، وربما تنظر إليَّ.
قبل قليل صرختُ في وجهك من غير أن تتسبّبي بأيّ أذى لي، لكنّني لم أصرخ في وجه مديري في العمل، حين اتّخذ قراراً بالموافقة على تقييمي السنويّ، الذي صُنِّف بالمستوى المتدنّي كيديّاً، ولم أتجرّأ على ألّا أصفِّق للوزير الذي زار مقرّ الشركة، وقدّموا له الورد، على الرغم من أنّه عيَّن عدداً من معارفه وأقربائه، متجاوزاً من لهم الحقّ بذلك.
اقتربتُ أكثر منها، بحيث صارت المسافة بيننا قصيرة جدّاً.
لم أشتم سائق السيارة التي كانت تنطلق بسرعة وأنا عائد من عملي، وغارت عجلاتها في حفرة ماء، فرشقتني من رأسي إلى أخمص قدميّ.
كانت الذبابة ما تزال في مكانها، حتى إنّني حرّكتُ يدي لأكثر من مرّة، فلم تغادر الجدار، فرحت أتأمّلها، وأقارن نفسي بها، دون الشعور باللوم على المقارنة بحشرة وضيعة، تراجعتُ عن فكرة إزعاجها، إذ إنَّ من مصلحتي أن تبقى تلك الذبابة في مكانها، بما أنَّها مستمعة جيّدة، وبما أنّي تحولت دون أن أتوقّع إلى متحدّث جريء.
أنتِ يا عزيزتي تحطّين على أيّ مكان تريدينه، وتحلّقين كما ترغبين، دون أن تخشين شيئاً، حتى الموت أظنُّ أنَّكِ لا تفكّرين فيه، ومن الواضح أنّك تعيشين الحريّة بعيداً عن التفكير بها، ومن الواضح أنَّكِ كائن لا يعرف حتى لوم نفسه، هذا ما أراه الآن على الأقل.
في تلك اللحظة طارت الذبابة، وتصاعد طنينها من جديد، وهي تحوم في فضاء الحَمّام، بينما عيناي تلاحقانها بكلّ لهفة، ورجاء بأن تبقى قُربي. حامت لأكثر من مرّة، ثم اقتربت من فتحة نافذة الحَمّام، وغادرت مُخلِّفةً وراءها صمتاً لا يُبدِّده سوى صوت أنفاسي المتلاحقة، وصوت زقزقة عصافير الدوري، وأنا أنظر إلى المفتاح، فنهضتُ لأجل المحاولة الأخيرة في مغادرة سجني.
أخرجتُ المفتاح من مكانه، ثم أعدته، وحرّكته نحو اليمين، ففُتِحَ الباب، ومن ورائي عاد طنين الذبابة من جديد، تحوم في فضاء الحَمّام.