طاهر النور: السرد لعبة.. ولا منطق في التجریب
حوار/ محيي الدین جرمة: اليمن
في هذا اللقاء الذي تکتنز عبره طفولة الکاتب والروائي التشادي طاهر النور بصحراء واسعة، یتخللها ظمأ غزير لذکریات شغفت مبکراً، من خلال تجربته بعلاقة حمیمة بالمکان في القصة کما في الروایة. لتتخذ من اللغة وظیفاً أو مقلاعاً لصید غزلان الکلام. لذلک فالکاتب الأفریقي هنا یعتقد أن السبب الذي دفع به إلى الكتابة عن عوالم الريف والقرى، يعود (إلى طفولتي بالأساس، فما يحدث في الطفولة هو التجربة الأصلية، وما يعقبه ليس سوى هامش صغير. شيء يشبه الانطباع، أو قل نسخة غير أصيلة من حياتنا، وغير جوهرية).
وصاحب روایة (قودالا) التي حصل من خلالها علی جائزة توفیق بکار للروایة العربیة بتونس في 2023م؛ يعتمد في روایاته على الأحداث التاريخية، إلا أنها -کما یقول- تجري في القرى، مع أن لعبة الحرب تدار في المدن، وأسوار الثكنات. ویتساءل في سیاق من حدیثنا: لماذا أجعل القرى مركزاً لتلك الأحداث بدلاً من المدن؟ وتقوم وجهة نظره على: تناول آثار الحرب لا أحداثها.
تتمحور تیمة السرد في روایتك (تحت سماء واطئة) حول (قناطیر)، قریة في تشاد، إذ یتأسس في ضوئها الفضاء الروائي لدیك؟
- نعم، الفضاء في عوالمي الروائية بهذا المعنى، لا يتجاوز كونه مكوناً ضمن مكونات الحكي الأخرى، ولكنه عنصر غاية في الأهمية من بين باقي عناصر الآلة الحكائية؛ كونه الأساس الذي تنبني عليه الأحداث، وتتبلور، وتأخذ في التطور، حتى تصل إلى الذروة. وبالرغم من ذلك، فإن هذا الفضاء ليس ثابتاً، بل متغيراً، وليس واقعياً، بل متخيلاً. فعلى سبيل المثال، لا يمكننا الجزم بأن قرية (قناطير) في رواية (تحت سماء واطئة)، وقرية حجر الطير في رواية (قودالا)، قريتان حقيقيتان، وفي ذات الوقت، لا يمكننا أن ننفي أنهما غير حقيقيتين.
لهذا یتأسس الفضاء الروائي في رواياتي على البعد المكاني وإيحاءاته النفسية وحمولته التاريخية الاجتماعية والوجودية، وهو بطبيعة الحال فضاء متنوع، دائماً، يتأرجح بين الواقعية حين يتكئ على بعده الجغرافي والتداخل العلائقي مع الزمن والشخصيات والأحداث، وبين التخييل والرمزية، حين يصبح مشحوناً بإيحاءات نفسية واجتماعية وأيديولوجية، معبراً عن رؤيتي الإنسانية، ومجسداً نفسيات الشخصيات ووعيها. وأظن أن الذاكرة متورطة في هذا الالتباس، بدليل أن أحد أصدقائي أخبرني بعد قراءته رواية (قودالا)، أنه يعرف قرية باسم حجر الطير، تقع في مدينة بلتن، في أقصى الشرق، مع أنه ليس لي سابق معرفة بتلك القرية ولا حتى المدينة المذكورة، لم أرها ولا مرة واحدة في حياتي. ولكن ما أدهشني، أنه أخبرني بوجود هذا التشابه بين القريتين، الحقيقية والمتخيلة. فوصفي لقريتي المتخيلة، يطابق بعض الجوانب من حياة تلك القرية. لدرجة أن هذا الصديق طلب مني زيارتها، وكتابة جزء ثانٍ عن تلك العوالم الشبيهة بعوالمي الغريبة في رواية (قودالا).
كیف تختار عناوین روایاتك في العادة، وهل یتوافق ذلك وأمكنتها وانتقاء لغة الشخصیة الموافقة لسلوکها؟
- لا شيء يوازي صعوبة اختيار العنوان عندي، إلا بداية الجملة الأولى من العمل الروائي. وغالباً كنت أدخل في صراع مستميت من أجل الوصول إلى العنوان الذي أتوق إليه. في البداية كنت أقترح عنواناً معيناً، ثم سرعان ما أنزعه خلال الصفحات الأولى. أفعل هذا في كل مرحلة من مراحل الكتابة، وأحياناً في كل قسم أو فصل. وعند ما أخط الجملة الأخيرة من الرواية تكون لديّ قائمة لا بأس بها من العناوين. تبقى بضعة أسابيع، ثم سرعان ما تستبدل بقائمة أخرى ترجح الكفة عندي. ومع ذلك، فإن كل تلك المحاولات قد تبوء بالفشل، ويأتي العنوان الأخير في وقت ما، ويأخذ مكانه في الرف.
وقد حدث هذا مرات عدة. باستثناء عناوين، روایتَي (سيمفونية الجنوب)، و(مزرعة الأسلاك الشائكة)، اللتین ولدتا قبل أن أضع الجمل الأولى منهما. كان الاسم الأول لـ(قودالا)، هو حجر الطير، وحكي بطاطا، لـ(حكاية الأرض للسماء)، والسفر إلى فلسطين، لـ(أفريقي في فلسطين).
هذا يحدث حتى مع الفصول التي أكتبها لبعض الروايات، خصوصاً إذا بقيت في حوزتي شهوراً طويلة بعد انتهاء المسودة الأخيرة. لأني أكتشف أنها أقل من الكمال الذي أسعى إليه، وينبغي عندئذ هدم ما بنيته، وتشييد عوالم في السرد يقترب مستواها من مستوى ما أفكر فيه. أحياناً قد تكون المعضلة في اللغة، وأحياناً أخرى في الأسلوب، أو التقنية ذاتها. بسبب الانقطاع في الكتابة، نظراً لظروف العمل، أو الأزمات النفسية الشخصية التي تعيق الكاتب للتقدم في مشروعه. فالكتابة وإن كانت قراراً شخصياً، ومسؤولية، فإنها تتأثر بالعوامل الخارجية، التي ربما تسهم إيجاباً أو سلباً في نجاحها أو فشلها. وكل من يمتلك تجربة في هذا المجال، يدرك ما أعنيه. دون أن ننسى الظروف المختلفة لكل كاتب، ولكل تجربة إبداعية.
بوصفك كاتباً أفریقياً؛ لو یعن لك الانزياح بالروایة إلی مساحات قاریة أکبر؛ هل تستعید مخزون میراث بلدك إنسانياً وثقافياً، بالنظر في اختراع أزمنة السرد الخاصة، فهي مجالات أوسع وفضاءات أکثر حضوراً في متن الروایة ذاتها؟
- أظنك تقصد أن ما يتذكره الإنسان هو ما يرويه في الغالب. إنها استعارة مناسبة تماماً، بالرغم من أن مسألة التذكّر هي مسألة معقّدة للغاية. لأني قد أتذكر تجربة أو موقف، أو ذكرى لها صلة بالماضي البعيد، إلا أنني ومع الإقرار، بوضوح تلك الذكرى بالنسبة لي، فإن روايتها تختلف عن حقيقتها. الكتابة أمر مختلف عن الكلام الشفهي، وحتى عن الحكايات الشعبية. بالكتابة وعبر المخيلة فقط يمكن للسارد القول: (إنني أراه بوضوح وهو يقف في عتبة الباب أو يجلس في الكرسي ويهز رأسه أو يصفق أو يدندن بأغنية قديمة)، أو يمكنه القول: (إنني أسمع الضوضاء التي صدرت من المنزل قبل أن أدخله)، وأشياء كثيرة يمكن استعادتها عند الحاجة، وبأكثر من أسلوب، ويمكننا إجراء أي تغييرات أو تحويرات كما نشاء. وما ينطبق على الفرد، يمكن سحبه على البلد، على الذاكرة المجتمعية، التاريخية أو الشعبية. وبالنظر إلى أعمالي، يمكن القول إنني أعتمد بشكل أساسي على الإرث الشعبي والمخزون أو المستودع الاجتماعي. فرواياتي تعج بالأغاني الشعبية، والألغاز والأمثال والحكايات، وحتى الخرافات والأساطير. بل إنني لا أستدعي التاريخ إلا من أجل هذه الغاية، غاية أن يكون التاريخ خادماً للمخزون الثقافي الشعبي، وأن يعزز من وجوده، وأن يكون شاهداً على اللحظة التي رفع فيها الفنان الشعبي عقيرته من أجل الغناء، أو الليلة التي تَحلّق فيها الصغار والكبار في دائرة، في سبيل الاستماع إلى الجدة التي تحكي عن الحيوانات التي تدخل في حرب الفائز فيها هو الأكثر مكراً ودهاء، وليس الأكثر ضخامة وبأساً. أو الرجل العجوز الذي يحكي عن الأيام الخوالي، عن سنوات اللجوء، والغمام، والجراد، والجفاف الذي لا يبقي ولا يذر. وإذا قرأنا أعمال شينيو أشيبي، أو واثيغو نغوغي، أو وول سوينكا، والعديد من كتّاب أفريقيا جنوب الصحراء؛ سنجد أنهم يعتمدون على هذه الذاكرة، ويستدعون الموروث الشعبي الحكائي والروحي على حد سواء، بل إن بعض النصوص مثل (الأشياء تتداعى)، تعتمد کلیاً على ذلك.
ما دور المتخیل الروائي في خلق مفارقة جدیدة تجعل من السرد مغایراً؟
- في الواقع، الحياة نفسها أكثر تعقيداً، ولا يستطيع أحد فهمها تماماً. فماذا علينا أن نفعل في مواجهة ذلك، خصوصاً إذا علمنا أن الحياة مصممة لكي تكون هكذا؟ إننا نتماهى مع كل ذلك، نتعايش مع الأمر، أو نحاول فهمه بشكل أفضل. يأتي التخيّل ليخفف من حدة هذه المفارقات. ليجعل إيقاع الحياة أكثر سلاسة. إن التخيل يقوم بتلطيف تعقيدات الحياة إلى الحد الذي يسمح بمعايشتها.
في أعمالک یبدو السرد حافزاً أسلوبیاً لدیك ومثبطاً للقارئ؛ متی بدأ اهتمامك بجانب کهذا؟
- بشكل عام، يمتلك كل كاتب أسلوباً مغايراً، يعرفه الناس عنه. ولكن هذا الكلام ليس دقيقاً تماماً؛ لأن كل فكرة تحتاج إلى الأسلوب الذي يلائمها. فليس كل أسلوب يكون مناسباً لكل فكرة. تنجح بعض الروايات، لأن أسلوبها يناسب فكرتها، وتفشل أخرى، بسبب الأمر ذاته. بعض الأفكار تتطلب معالجتها أسلوباً اندفاعياً متدفّقاً قاطعاً، ويجب على الكاتب أن يحافظ على هذا النسق، طوال صفحات الكتاب. وبعض الأفكار، تتطلب أسلوباً فوضوياً عبثياً ديستوبياً ساخراً. وعندما ينجح الكاتب في إيجاد الأسلوب الذي يجب أن يتبعه في روايته، يكون مشروعه في الطريق الصحيح. لذلك، نجد بعض الناس يتحدثون عن الأفكار الكبيرة والأفكار الصغيرة في نصوص معينة، ومدى فشل تلك النصوص في إقناعهم. الحقيقة هي أنه لا توجد أفكار كبيرة أو صغيرة، وإنما توجد أساليب تناسب بعض الأفكار ولا تناسب أخرى. وقد عرفت هذا الأمر، (وهو ليس بالشيء القاطع) منذ التفكير في كتابة روايتي الثانية (سيمفونية الجنوب)، التي كتبتها في وقت وجيز، وبلا انقطاع تقريباً. وحالما انتهيتُ أدركت أنني لو لم أفكر في الأسلوب الذي كتبته بها، لكنت فشلت فشلاً ذريعاً، ولكنت ارتكبت خطأ فادحاً بحق هذا النص.
هل یتعمد الروائي تتبیل الحكایة بصورة ما، لاکتشاف طرائق في السرد أو الکتابة، تفضي إلی اقتراح نهایات غير متوقعة في الروایة؟
- يمكن فقط في الأعمال الكلاسيكية، أو تلك التي لا تزال وفية لها، توقع نهاية الرواية. أما في الرواية الحديثة، فلا يمكن معرفة ذلك أبداً مهما أعملنا ذهننا في العثور على النهاية المنطقية للنص. فلا منطق في التجريب. أو بالأحرى، كاتب النص وحده، يعرف المنطق الذي سلكه في كتابة الرواية. وحتى لو افترضنا بوجود منطق معين، فإن بمقدور الكاتب أن يطرح عشرات النهايات، لنقل عشرات النهايات للنهاية البديلة. فهل يستطيع القارئ في هذه الحالة أن يتوقع النهاية؟ ليس بالأمر السهل طبعاً، ولكن النهايات تختلف من عمل إلى آخر، ومن فكرة إلى أخرى. بعض الكتاب، لا سيما في الأعمال التجريبية، يتلاعب بالنهاية، بحيث تكون غير ممكنة التوقع. أحياناً قد تكون عتبة النص هي ذاتها نهاية النص. ما يهم في الأعمال اليوم، هي لحظة الذروة. طبعاً أقول الذروة وليس الحبكة؛ لأن الأخيرة، لم تعد واردة في بعض الأعمال. السرد بشكل عام، لعبة، وفي الألعاب، لا يبحث الناس عن المنطق، وإنما يستمعون، طالما أنهم يستطيعون مسايرتها. كلما كانت قواعد اللعبة أكثر تعقيداً كلما كانت ممتعة. هذا ما يفعله القارئ، كثيراً ما أستمتع بالقراءة دون التفكير في بعض الأسئلة التي يمكن أن يطرحها الناقد أو الأكاديمي الجاد.
وماذا عن أولویة نظرتك تجاه علاقة السرد ببنی الشخصیة؟
- أحياناً لا تملك الفكرة شكلاً محدداً، ثم ومع اتضاح الرؤى تتخذ الشكل المناسب لها. وهذا يمكن أن ينطبق على المضمون أيضاً. لكني بشكل عام، أعطي الأولوية القصوى للجانب السينمائي للحكاية، باعتباري شخصاً بصرياً. يحدث ذلك بشكل تلقائي، في معظم الأحيان. ولا يمكن معرفة كيف سيسير منطق الحكاية إلا بتطور النص. بعض جوانب النقص أعيد النظر إليها في المسودة الثانية أو الثالثة. لا أعطي أهمية كبيرة للبنيوية الشخصية نظراً لأنها تهمل جوانب في غاية الأهمية. أنت تعرف أن الكاتب لا يقف كثيراً في المدارس الفنية ولا في فلسفته أو منهجه أو طرائقه في التفكير. في النهاية عند قراءة النص عن قرب، يكون بمقدورنا معرفة المنهج المتبع، وما إذا كان ثمة تركيز في عنصر من عناصر البنيوية. لأننا مجبرون في الممارسة على التمييز بين الأشياء المختلفة.
هل نکون بإزاء اقتراح صیغة للتربیة والثقافة ومیولات السلوك -أثناء الکتابة- انطلاقاً مما قد یفرضه التفاوت الإنثروبولوجي لطبیعة الشخصیة واشتراطات مجتمعها داخل الرواية؟
- ما نعرفه عن السرد الروائي أنه لا يخضع لقواعد المجتمع واشتراطاته. وإنما يجيب عن أسئلتنا العالقة عن هذا المجتمع الذي قد يكون معتدلاً سلوكياً، أو قد يكون رازحاً تحت أمراض اجتماعية شاذة. لكن طرحه لا يكون مباشراً، ولا وعظياً. تكمن مهمته في الارتقاء بالخطاب الفني، إلى درجة تجعلنا نقول إن هذا السرد قد أخذ بقلوبنا إلى فضاءات لم يكن من الممكن أن نحلم بها. يميل بعض الكتاب إلى تقديم طرح خارج عن المألوف، بذريعة أن الأدب لا يعرف حدوداً، لكن ما هي هذه الحدود؟ إن هذه الحدود برأيي تتعلق بالجمال، وليس بالأسلوب. الجمال الذي يقال عنه إنه جاوز سقف الكفاية. وإذا لم تكن هذه الحدود ترتبط بالجمال، فإن ما نكتبه ليس سوى أدب رخيص، مع أنه ليس ثمة فكرة رخيصة، إنما يكمن الأمر كله في الأسلوب واللغة. بإمكان اللغة أن ترتفع بالفكرة الرخيصة، إلى درجة تسمو فيها الفكرة الرخيصة نفسها.