فتحي نصيب: العمل الإذاعي صعب وممتع
حوار/ عِذاب الركابي: مصر
الكاتب الليبي المهاجر فتحي نصيب، ورحلة شاقة ماتعة عبرَ الكلمات، والحياة، والنفس المبدعة تهفو أبداً إلى السرد، حيث القريحة تُنغّم بسحر الحكاية، والأصابع المثابرة تنهي رعشتها عبر الكلمة الإعلامية، حيث يتلصص عليه ويستمتع الآخرون من خلال برامج إذاعية ثقافية، برؤية جديدة للفكر والأدب والإبداع والثقافة كفعل بناء وتغيير. الكاتب والقاص الليبي في بوح شفيف لقراء المجلة العربية.
قصص قصيرة، ومقال نقدي، وصحافة، وإعلام.. كتابة فسيفسائية، موجات صاخبة في بحر إبداعٍ ماض في اللازمان.. أي زورق إنقاذ هذا الذي يأخذك إلى ضفاف الحياة؟ من الأقرب إلى نبض قريحتك وارتعاشه وجنون أصابعك؟
- تفتحت عيناي على الرواية والقصص والحكايات، ومن ثم الأفلام السينمائية. أذكر أنني وبعض أقاربي كنا نتجمع حول جدي لنستمع إلى الحكايات التي يحفظها من ألف ليلة وليلة وكذلك سيرة عنترة الشعبية والسيرة الهلالية، وأول رواية أستمع إليها في صغري كانت (واسلاماه) التي قرأها علينا أحد أخوالي. وبدأت بكتابة القصة والنقد الأدبي في المرحلة الإعدادية من خلال نشاط الصحف الحائطية بمدرسة (الأحرار) وبعدها في الصحف والمجلات الليبية، أما الإذاعة فقد دخلتها عن طريق جاري الأستاذ (حسين مخلوف) الذي كان يزودني بالكتب ومن ثم اقترح أن أكتب معه بعض حلقات برنامجه اليومي (الباب المفتوح) ومدة الحلقة 10 دقائق إلى أن أسند إليّ البرنامج كاملاً كي يتفرغ للعمل كمدير للقسم الأجنبي في الإذاعة الذي كان يبث باللغتين الإنجليزية والفرنسية، وكنت وقتها بالمرحلة الثانوية بالقسم العلمي حيث كنت أرأس تحرير مجلة شهرية تصدر عن المدرسة بعنوان (الهدف). أعددت أيضاً عدة برامج أدبية للإذاعة الليبية، منها (محراب الفكر) وهو برنامج أسبوعي وبرنامج (كاتب وقصة) وبرنامج يومي مدته 5 دقائق بعنوان (مرفأ الليل). هذه البرامج قربتني أكثر للعمل الإذاعي وتعاونت مع عدد من الإذاعيين الكبار الذين قدموا برامجي. الآن أستطيع القول إن العمل الإذاعي أكثرهم صعوبة وأكثرهم إمتاعاً.
ثلاث مجموعات قصصية وكتاب نقدي، وعدد من المقالات التأملية الحلمية في صحيفة هنا، ومجلة هناك، والإبداع بمجموعه سؤال! ما سؤالك الأعظم تحت أمطار الكلمات، وهي تكتبك، أو تكتبها؟
- أظن أن سؤالي الأهم هو سؤال الحرية، حرية الفكر والتعبير، ومناهضة الاستبداد بأشكاله المختلفة وذلك بالانحياز للمهمشين والمسحوقين والضعفاء.
(أموتُ إذا ما منعت من الكتابة) - نجيب محفوظ. (الكتابة شيطانٌ يسكننا) - محمد شكري. (الكتابة هي طريقتي في أن أحيا) - ماريو فرجاس يوسا.. من الأقرب إليك من العبارات الثلاث؟ وما جدوى الكتابة في عالم لم يعد تأملياً وحلمياً؟
- الأقربُ عبارة (محفوظ) و(يوسا) معاً، فاليوم الذي يمرّ عليّ من دون قراءة وكتابة غير محسوب، ستظل الكتابة، منذ فجر التاريخ وحتى المستقبل البعيد، أداة الحوار بين البشر والعقول، أنا مقتنع أن الكتابة هي التفكير بصوت عال مع النفس والآخرين. الكتب تغير طريقة تفكيرنا في العالم.
لم تبدأ بالشعر مثل البعض، وبدأت بالقصة القصيرة، وقد اجتمعَ الساردون والنقاد على أنها الفن الأصعب! لماذا؟ ما وجه الصعوبة في القصة القصيرة؟ أهو سبب الهجرة إلى الرواية، ليصبح الزمن زمنها؟ أم ماذا؟
- تستغرب لو قلت لك إنني لم أكتب أيّ نصٍّ شعريّ، رغم أنني أقرأ وأحفظ كثيراً من القصائد، ففي بداية تكويني شرعت بحفظ المعلقات (السبع أو العشر)، بل حفظت ديوان (أغاني الحياة) لأبي القاسم الشابي وكذلك قصائد إيليا أبو ماضي. لم أقرض الشعر بسبب اقتناعي أنه من أصعب الفنون، بل ذهب البعض إلى القول: (يولد شاعر جيد كل مئة عام). والشاعر الجيد في نظري ذاك الذي يمتلك أدواته الفنية أولاً، وأن يكون له (بصمته) أو قاموسه اللغوي الخاص به، معظم الشعراء الآن نسخ مكررة كالورد الصناعي. في القصة والرواية يمكن لك استخدام أدوات عديدة كالحوار والبناء الدرامي وتعدد الأصوات من خلال تعدد الشخوص حيث يمكنك طرح الأفكار والتناقضات من خلال هذه الشخصيات. لذا على القاص الجيد أنْ يجذبَ المستمع إليه، وهو يحكي الحكاية. الآن متفرغ لكتابة القصة، أصدرت منذ عامين مجموعتي (الحلم الذي ينأى) وكتب عنها أكثر من ناقد، القصة فن صعب فعلاً، فعليك أن تجذب القارئ منذ الجملة الأولى، كذلك أن تأتي الخاتمة قوية لتترك أثراً في المتلقي، والقارئ المعاصر ملول لذا على القاص الجيد أن يستمع إليك وأنت تحكي له الحكاية، وذلك عبر اللعبة الفنية أولاً ولغة لا تتكئ على التقعر أو المحسنات البديعية ثانياً، داخل كلّ سرد صراع درامي، مع النفس أو الآخرين، ومع تنامي الحكاية يحدث التحول في الشخصيات وهو ما يترك أثراً في القارئ ويدفعه للتساؤل.
يقولون لا يمكن للكاتب إلا أن يكتبَ عن حياته الخاصة.. ما رأيك؟ هل الكاتب نصّ يواصل كتابة ذاته كما يقول (بورخيس)؟ هل أنت قصصك وسردك؟ ألم يقل (فلوبير): (أنا مدام بوفاري)؟ أنت والقصة القصيرة مَن يكتبُ مَنْ؟
- أظن أن أي كاتب يستمد أفكاره وشخوصه من تجاربه الذاتية وثقافته وبيئته، أحاول في قصصي أن يتقاطع الذاتي مع الموضوعي، أو الكتابة عن المشترك والهم الجمعي من خلال تجربتي، وصلتني رسائل من قرّاء وكتاب -لا أعرفهم شخصياً- يقولون لي إن القصة الفلانية تمثلني أو إنك كتبت عني وكأنك تعرفني.. ربما لأنني والقارئ مررنا بالتجربة نفسها!
التجريب ذروة كل ثورة فنية! ما رأيك؟
- أتفق معك تماماً، أحبّذ التجريب في القصة والرواية، ولكن التجريب المبني على معرفة وثقافة عميقة وليس التجريب المنفلت والأجوف.
التجريب الواعي ربما يحدث ثورة فنية في أسلوب السرد كما في (يوليسيس) لجويس أو (البحث عن الزمن المفقود) لمارسيل بروست. وأبرز من مارس التجريب في الرواية العربية (نجيب محفوظ) كما في (الحرافيش). وأسعى في قصصي أن أجرب أساليب فنية مبتكرة حتى لا أكرر نفسي.
هل الكاتب مجرب عام؟ أليست الكتابة إحساساً غريزياً فنياً، لا قواعد ولا تحديد، والنص يصنع قواعده الخاصة بنفسه؟ أليس الصحيح أن نعطي الكلمات حرية المبادرة كما أوصى (مالارميه)؟
- ذكرت لك، أنا مع التجريب الواعي في السرد والشعر، لكن أن يكتب (شاعر) نصاً حداثياً دون أن يكون قارئاً للشعر أو ديوان العرب، بل حتى دون أن يعرف علم العروض ولا يعرف البحر الكامل من الطويل فهذا كمن يحتطب بليل، ويتحول (التجريب) إلى (تخريب). القراءة والمعرفة أولاً ثم لك أن تكسر القواعد لتأتي بنص مغاير، فأنت يا صديقي أصدرت ديوان (ما يقوله الربيع) كأول تجربة في الهايكو العربي، بعد أن صدرَ لك أكثر من 5 دواوين شعرية بمختلف أشكالها الفنية، أي أنك أقدمت على كتابة نمط جديد بعد أن تمرّست شعرياً، ولك الآن عدد من الدواوين.
من (بنغازي) كرنفال الشمس والدفء إلى (باريس) شغب الثلج والمطر، حيث تقيم وتعيش لعبة الغرام بالمكان.. ماذا أعطتك شمس بنغازي؟ وأي إضافة لرصيدك التأملي يمكن أن يضيفه ثلج باريس؟
- بنغازي أعطتني البدايات والتكوين المعرفي والذكريات ودفء الناس، بنغازي التي أعرفها وعشت بها الطفولة والشباب دائماً أشبهها (بالقرية الكبيرة) من حيث العلاقات بين الناس، وطرابلس (مدينة كبيرة) بكل ما في المدينة من محاسن ومساوئ المدن الكبرى كباريس مثلاً.
هل تصدق لو قلت لك إنني - في غربتي- أعدت اكتشاف كل زاوية وركن ومكتبة وشارع ورحلات مع أصدقاء وزملاء دراسة أو عمل، الأمر أشبه بلوحة كبيرة، كلما ابتعدت عنها رأيتها بوضوح أكبر، أحياناً يشتد بي الوجد للسير في شارعنا القديم أو الجلوس بمقهى أتأمل الناس والمطر.
باريس أو أوروبا بشكل عام عبرت عنها في قصصي مثل (الصقيع) و(المقهى) و(القطار)، وكأي غريب التقط بعض المظاهر التي قد تغيب عن ابن البلد منها غياب الدفء الاجتماعي والوحدة، إلا أن هذا لا يعني أنني أعيش منعزلاً، فقد دعيت لأكثر من نشاط ثقافي وترجمت قصصي إلى الفرنسية وأقمت عدة أمسيات.