تهاني الصبيح: الرواية لا تحتاج إلى اشتغال فني طويل كالشعر
حوار/ حسين الجفال: الدمام
الشاعرة السعودية تهاني الصبيح لا تكتب من فرط هاجسها اللغوي لكنها تحلم بذاتها البعيدة التي تراها بعدسة مكبرة في عين القصيدة، كأنها قادمة من أرض الخرافات بملامح ملهمة، قصيدتها تتحرك بأبعاد شتى -دون صخب أو فوضى- رغم انهمامها بالسردية في الشعر إلا أن رمزيتها عالية، لذلك: تخطِفُ الأضواء بإلقائها الواثق وتتداعى بشموخها الواثق وتصدح بأنوثتها المنسابة بوعي حاذق، هنا حوارية وليس مجرد حوار في محاولة لسبر أغوارها شاعرةً أولاً ومثقفة وعرّابة ومتأمِّلة أيضاً. أصدرت ثلاثة دواوين ورواية واحدة، ونحن هنا نحاورها في ديوانها (ما تنكر من عرش بلقيس) ونفتح النافذة على الغيم.
أراك تؤرخين القصيدة إما بالمناسبة أو التاريخ والمكان، هل تحتاج القصيدة إلى كل ذلك؟
- القصيدة هي لحظة شعورية منسكبة من الوجدان، لحظة شعورية غير قابلة للتراجع وليس لها إلا أن تصبّ في نهر المعنى وتستمر في الجريان، نحن نكتب لأننا نحس بشيء قد لا يدركه الآخرون من نظرة عين أو عبور فكرة أو انسياب خاطرة.
فالشعر بمثابة الذاكرة التي تخزّن الحدث ولا تسمح له أن يخضع لقوانين الزمان، وهذه الذاكرة قادرة على إيقاف الزمن وجعل الحدث مخلداً لا يشيخ ولا يموت. فقد أرّخت المعلقات حياة العرب، شجاعتهم، مروءتهم فعلقوها على أستار الكعبة وأصبح المتنبي مالئ الدنيا وشاغل الناس بشعره وبراعته في وصف حدث أو ابتكار صورة.
هناء، هبة، خولة، ووالدتك، عطفاً على عنوان الديوان (ما تنكر من عرش بلقيس)، ما السر خلف الأسماء المؤنثة في ديوانك، أهو انتصار للمرأة أم حنين الذاكرة؟
- أظنّ أن إجابتي تملأ الاحتمالين وهو أن ورود الأسماء النسائية في الديوان هو انتصار للمرأة سيدة العزيمة والبأس والإصرار، المرأة التي ينحت صبرها ملامح هاجر ويزيد إصرارها بالسعي الطويل دون توقف أو تراجع وتأتي فرحتها حين يُزمّ الماء وتنهمر عين الحياة، المرأة التي لم يشغلها مبرد الأظافر ولم تتذكر وجهها ألوان المساحيق، المرأة الشامخة التي نمت على سواعدها أجيال وتحررت من وعيها عقول، المرأة القادرة على صناعة حضارة وبناء أمة، أما النبش في الذاكرة والتفتيش عن أسماء نسائية متجذرة فيها فهو أمر طبيعي لأنه بمثابة الوقود الذي سيشعل فتيل النص ويجعله قادراً على عبور ممرات الضوء بعد اجتياز كل الدهاليز المظلمة في الحياة، وديواني (ما تنكر من عرش بلقيس) هو تجلٍّ لوجوه نسائية لا تزال ملامحها تشي بالكثير.
تهطل النساء في القصيدة عندك كنجوم تضيء الكون فمن الإهداء إلى خولة، والخنساء، إلى حليمة وخديجة، ما الذي يجمعك بهن؟
- تجمعني بهن المرايا التي تتصفّح وجوهنا جميعاً وتعكس ما تحكيه أعيننا من أسرار لا يمكن أن نبوح بها لأحد، تجمعني بهنّ المباخر والمكاحل والعطور ومفارق الزعفران والفساتين المطرزة بالنجوم، تجمعني بهن الهوادج حين يسوقها الحادي وهي تعبر محطّات الزمن وتحرّك بوصلة التاريخ، تجمعني بهنّ الأمومة والأخوّة واللهفة والحنين كأشرعة ممتدة في بحر الحياة بحثاً عن مرفأ هادئ أو ضفة آمنة.
والأنثى مخلوق مرهف تشفّه الكلمات وينفذ من خلاله الضوء، مخلوق يغرق في الخيال وتسبقه الدموع أمام أي موقف مؤثر أو حدث طارئ وفي الوقت نفسه تجده فولاذياً صلباً حين تجبره الحياة على تمثيل هذا الدور في سبيل تحقيق هدف أو بلوغ نهاية، هذه الأضداد أكبر محفّز للكتابة فيها كشخصية نشطة، دائمة الانشطار، كثيرة التشظي، تقاوم العَتمة لتبقى نجمةً مضيئة في سقف هذا الوجود.
بين المجموعة الشعرية الأولى (فسائل) ثم (وجه هاجر) حتى (ما تنكر من عرش بلقيس)، إلى أين يأخذك الشعر ؟ وكيف تقرأين الخارطة الشعرية في السعودية؟
- يأخذني الشعر حمامةً بيضاء تبحث عن (ميناء سلام) فتهاجر إلى أقرب منطقة آمنة في الروح لتستوطن عشاً هادئاً بعيداً عن ضجيج الألسنة وصراعات الناس، بعيداً عن الخذلان والغدر والنفاق، يشدني الشعر إلى أعماقي لأكتشف ماذا تعني الحياة أمام كثافة معنى وانعتاق فكرة وجمال صورة، ماذا يعني صدى الذاكرة المثقوب وحضن الأب وعطر الأم وكتف الأخ ، فالشعر هو المضخّة الهوائية الوحيدة القادرة على إنعاش رئتي وتنقية حجرات قلبي.
أما خارطة الشعر في السعودية فأراها خارطة تتسع لتضم كل الشعراء العرب الذين طالما تجمعوا في سوق عكاظ وملأوا منتديات الثقافة وأروقة النقد ودور النشر وهم يحملون على عاتقهم همّ القصيدة ويتداولون فكرة تطويرها كي تتواءم مع عصر التطور والذكاء الاصطناعي وحضور روح الشاعر وهمومه.
ذهب الكثير من الشعراء لكتابة الرواية، ما الذي يجعل الشاعر المسكون بالتكثيف والمجاز بالذهاب لمغامرة السرد برأيك؟
- هذه ليست مغامرة، هذه محاولة للتصالح مع اللغة من أقرب أبوابها كما فعلتُ أنا حينما أصدرت عملي الأدبي الأول رواية (وجوه بلا هوية) مع تقديري الشديد والكبير للإخوة الروائيين، للزميلات المبدعات من الروائيات، الرواية تختلف عن الشعر شكلاً ومضموناً، وفستانها الأدبي يرضي الكثير من الأذواق حين تراه مفصّلاً حسب مقاسها الفكري، فهي محاولة ذكية للدخول إلى بيوت الناس والتربع على عروش قلوبهم بجاذبية السرد، والرواية لا تحتاج إلى اشتغال فني طويل كالشعر، لا تحتاج إلى كثافة عالية لإبراز الفكرة بطريقة مدهشة، بل تحتاج في نظري إلى ذكاء في الحبكة واحتراف درامي يشدّ القارئ ويغلّق أبواب تفكيره كي يصبح أسيراً للروائي حتى آخر فصل، أما الشعر فله جمهوره الخاص الذي يأنس بقربه ويطيل تأمله ويتسرب في معانيه، وقد يبني ممالك من ورق أو عروشاً من رمال على مسرح قصيدة لم تكتمل ألحانها بعد.
منذ نازك الملائكة حتى عصرنا الحديث تبزغ بين فترة وأخرى أصوات نسائية شعرية لكن لا يبقى ذلك الصوت وسرعان ما يطويه الوقت، ما السبب برأيك؟
- الصوت الشعري النسائي الحقيقي لا يمكن أن تطويه صفحات الأيام أو ينتهي أجله، لا يمكن أن تتعثر خطاه بالعلل أو يشوبه الكدر فيصبح ماؤه آسناً غير مستساغ، فالأنثى وإن كانت أماً تستطيع أن تهدهد طفلها بالقصيدة، وإن كانت معلمة تستطيع أن تملأ ذاكرة تلاميذها بالقصيدة، وإن كانت طبيبة تستطيع أن تبلسم جراح مرضاها بالقصيدة، فلا شيء يعيقها سوى أن تخذلها اللغة، واللغة لا يمكن أن تخذل من أحبها ولم يساوم على جمالها، أو يتزلّف لمن لا يحسن استعمالها، ومتى ما آمنت بنا اللغة فثق أننا سنفلق بحر الشعر بالمعجزات اللفظية وسنسكبُ شعاع الشمس شلالاً من الضوء، فلمعان أسماء أو خفوت أسماء، يعود إلى ترسيخها في ذاكرة الإبداع من خلال تكرار المحاولة، والاشتغال الطويل على النص، وعدم الاقتناع بالضحالة أو البحث عن أبسط الحلول لإخراجه.
ما الذي أخر بروز النص الحديث في الأحساء، وهل هناك أبوية متخفية تفرض سطوتها؟
- ربما أعلل تأخر بروز النص الحديث في الأحساء إلى أن شعراءها تربّعوا على عرش القصيدة العمودية باحتراف، والقصيدة العمودية هي سيدة الشعر العربي الأولى وأم القصائد المجنحة بالابتكار والخيال، فكتبوا النص الحديث بقلة وكان ذلك حسب ميل الشاعر وذوقه، فعلاقة الشاعر بالقصيدة تشبه العلاقة الزوجية وفيها انعقاد روحين ينتهيان بإنجاب ذرية من الكلمات، فلا يغادر الشاعر نصّه إلا حين يطمئن أنه نجح تماماً في تكوين قصيدة تشبهه وتتطابق تماماً مع جميع بصمات أصابعه، وملامح وجهه.
أما حكاية الأبوية المتخفية فلا أظن أنها لاتزال تحيا بيننا ونحن في عهد انفتاح وتحرر فكري وحضاري وثقافي، فلا سلطة على الشاعر طالما أنه لم يتجاوز ما يليق بمجتمعه ووطنه، ولا وصاية على المبدع طالماً أنه مستمر في الابتكار ومازال يكسب جميع الرهانات على جمال قصيدته أياً كان نوعها.