مذ نزل الخطاب الإلهي إلى هذه الأمة ممثلاً بكلمة «اقرأ» على رسول الرحمة محمد -صلى الله عليه وسلم- بدأ الخط العربي يتبوأ مكانة سامية في سلم الحضارة العربية والإسلامية، ثم تجاوزها إلى العالمية حينما نال اهتمام الفنانين والتشكيليين الغربيين، فأقيمت على شرفه الندوات والمحاضرات وورش العمل، وافتتحت المعارض وصالات العرض الفنية. ومع الثورة المعلوماتية والتطور التكنولوجي بدأت الخطوط العربية الرقمية تنافس الإبداع اليدوي في إنتاج مختلف اللوحات الخطاطية.. فهل يموت الخط العربي مع شيوع الخطوط الحاسوبية؟ وهل بقيت للخط العربي أهمية في عصرنا المعاش؟
يرى الخطاط السعودي ناصر الميمون في هذا الصدد أن الحاسوب موجٌ جارف لا مفر منه ويعلق: «وهذا الواقع الذي نجده بيننا قد قلل كثيراً من أهمية اليد، وأيضاً قلل من الحاجة إلى الخطاط ذاته. وعليك أخي المتلقي أن ترى جملة من المطبوعات والمؤلفات ولافتات الدعاية والإعلانات، لتجد أنها قد نفذت بأحدث خطوط الحاسوب. هذا المخزون الذي يملك في جوفه الأنواع الكبيرة من أصناف الخطوط العربية».
ويضيف: «من ناحية أخرى نجد أن خطوط الحاسوب أسرع طواعية من غيرها، وذلك من ناحية وفرة الإنتاج الزمني، واختصار مساحة الكلمات على أسطح الخامات المطلوب التنفيذ عليها. وأرى أنه على المبدعين في شؤون الخطوط والإبداعات المتنوعة الاعتراف بهذا الموج الجارف والقطار الراسي في طريقه». ويتابع بقوله: «أستطيع أن أقول بحكم خبرتي في فن الخطوط أن الحاسوب احتل ما يقارب من 85 – 90% في أهمية الخطوط والكتابة والتصميم والإخراج والتشكيل».
ويرى الميمون أن هناك عدداً ليس بالقليل من محبي الخطوط يفضلون أن تكتب خطوط أعمالهم الفنية والعناوين الطباعية بيد الخطاط مباشرة. ولكن هذه الرغبات قليلة نسبياً في زماننا ووقتنا الحاضر. ويرى أن الأسباب ترجع إلى الذوقية لبعض أفراد المجتمع من المثقفين والمهتمين بتراث الخطوط والثقافة تقريباً.
ويتمنى الميمون اهتمام الجهات ذات الشأن بتشجيع الخطاطين بقوله: «كل ما أتمناه في هذه الكلمة أن يكون هناك اهتمام من دور النشر والمؤسسات الفنية والتجارية، الحكومية والأهلية، لتشجيع عطاءات الخطاطين الذاتية، وذلك بمنح الخطاط فرصة لطرح إنتاج يده، ولو في بعض الإنتاج الطباعي، والاستئناس بأشكال الخطوط القاعدية واليدوية للخطاط مباشرة، لإبراز روح الكتابة والخط في أنامل الخطاط واحترام موهبته».
ويقارن الميمون بين الخط على الجلود وعلى الكمبيوتر بقوله: «رغم دخول التقنيات الحديثة على أعمال الخط العربي واستخدامها في كافة الخامات والألوان والعناصر النباتية وجميع مشتقات الحرف والمعدن والبلاستيك والجلود والتطريز والزنك، ولكن أقولها للتاريخ بأن قمة هذا الفن الجليل يبقى في لمسة القصب المعطر، وجرة الحبر المقطر، والورق المقهر الذي كتب به المصحف المجود، والحديث الشريف المطهر، وعزائي في ذلك تلك اللوحات المخطوطة المجودة في الكثير من المتاحف والمراكز، وإني أجد نفسي وقلبي وروحي في بسملة كريمة أقوم بخطها بيدي بالحبر الأسود بقلم الثلث المجود، وأنا أعيش سعادة في هذه لا تعوض فالخط بدأ بالقلم على الجلود ثم الورق الفاتح المصقول وهاهو يملأ الدنيا سعادة وذهول».
ويرى الميمون أن الحاسوب صحح أخطاء العمالة الوافدة، حيث يتابع: «لا يمكن أن نغفل الدور الذي يقوم به الكمبيوتر فقبل استخدام الحاسوب كان الخطاطون يقومون بتكليف بعض العمالة بخط وكتابة اللافتات، ولا تتم مراجعة العبارات المطلوبة قبل تنفيذها من جهة صاحب المؤسسة والمكتب، فتظهر أخطاء إملائية كبيرة وغير متوقعة، وقد لاحظت شخصياً قلة الأخطاء في عبارات اللافتات لوجود الكمبيوتر في إخراج العمل ولإطلاع أصحاب المؤسسات من السعوديين وغيرهم على العمل نفسه».
وعن تأثير تقنية الحاسوب على دخل الخطاطين يعلق بقوله: «رغم أن تقنية الحاسوب لم تؤثر على دخل الخطاطين مباشرة ولكن التأثير وأسعار اللافتات الخطية نقص كثيراً قبل دخول الكمبيوتر إلى الإعلان، ومما أذكره أن سعر المتر في الإعلان كان يزيد على الألف ريال في خامات البلاستيك والبارز والزجاج المضيء وغيره من خامات الدعاية، وفجأة نقص سعر هذه الأمتار حتى وصلت لمستويات المائتي ريال، وسبب ذلك كثرة المحلات في الخط والإعلان، حيث إن هذه المهنة الدعائية دخلها من لا يعرفها، واشتغل فيها من ليس بأهلها، واختلط الحابل بالنابل، وأصبح المدعون لها كثير، ونافس فيها الجاهل العالم، وأصبح الجاهل يقلل في تكاليف هذه الصنعة الشريفة، وضاع الجميع في غمرة آلاف المحلات والمؤسسات الطامعة في الربح السريع؛ لأن الضوابط النظامية لم تتحقق في سوق تراخيص الخطاطين، وتعبت إدارة المطبوعات في تحري الاستحقاقية بين هؤلاء الفئات من الخطاطين، وأصبحت العمالة هي المسيطرة على الاستقبال والتنفيذ والربح والجهد، ولم تتهيأ نظامية معينة لتقنين هذه المهنة التي هي واجهة البلد».
ولا ينفي الميمون تأثير الكمبيوتر على ما كان ينتجه الخطاطون سابقاً من الخطوط والإبداعات متابعاً: «مع أن حروف الكمبيوتر جامدة لا روح فيها؛ إلا أن استخدامه بات يصل إلى 90% بين الأفراد والمؤسسات عامة وكافة دور الإعلان والدعاية والتصميمات، والنتيجة أن هذه بلوى لابد منها، وأذكر شخصياً أن أحد المهتمين بالخطوط الحاسوبية عرض علي إنتاج برنامج يضم (الخط الديواني) المعروف، وطلب مني تصنيف جميع حروفه وتفاصيلها، واقترح أن يكون هذا البرنامج يحمل اسم (الخط الميموني) واستحسنت الفكرة، ولكن مشاغلي الخطية والمناسبات الدولية حالت دون ذلك، وأرجو أن أوفق مستقبلاً لإنجاز هذا المشروع بأسلوب ممتع يحمل هذا النوع من الخطوط بأحرف لينة وسهلة تروق للناظر والكاتب والمولع فيه».
وفي ظاهرة جديدة، كما يراها «بدأ الكثير من الفنانين المعروفين بالحروفيين، الذين يدخلون التشكيل على الحرف والعكس، ولم أستحسن العناصر الذين خرجوا في تشكيلاتهم على قواعد الحروف، ومع ذلك فإن لكل فنان حريته فيما شاء، لكن أصالة الحروف الخطية هي واجب يحتم علينا الاهتمام بها وعدم التلاعب فيها، وعدم تشويهها بما لا يليق، وهذا الشيء هو الذي أراه مناسباً (وأما الزبد فيذهب جفاءً). ونصيحتي لكل فناني حروف التشكيل دراسة حروف الخط أولاً ثم بناء ما يشاء من الفنون والإبداعات فيه». ويعلق بقوله: «أعجبني منهم الذي يهتم بهذا النوع من التشكيل الحروفي مع المحافظة على أصالة الحرف وقواعده».
ويرى الميمون أنه لا توجد تيارات أو تقسيمات في مجال الخط العربي، فالمدارس الأهلية مثلاً تقوم بوضع قواعد للخطوط الإملائية والفنية وتقوم بتعليم المبتدئ قواعد هذا الفن، ومن ثم تجتهد هذه المدارس في تعليم الخطاطين أصول كتابة الإعلان، والدعاية بطرق فنية واضحة وجلية، ويذكر أن هناك مرسماً في بيت الشباب بالرياض يزاول فيه عدد من الشباب التشكيليين وبعض الخطاطين الحروفيين، وقد وفرت إدارة بيت الشباب بالرياض معظم الخامات واللوحات والألوان. وقد شاهد الميمون الكثير من أعمال الحرفيين الرائعة وطالبهم بالاستمرارية والمواصلة. وذكر أنه يوجد في شمال الرياض معهد الكاتب لتعليم الخطوط يقوم بتدريس الهواة خطوط النسخ والرقعة والإملاء التحريري، كما أن معهد قلم الخط العربي بشرق الرياض مهتم بإعطاء دروس خطية للشباب.
ولما سألت (العربية) الخطاط السعودي عبد الله بن محمد المحمد صالح «هل سينتهي الخط العربي؟» أجاب: «ما أشبه الليلة بالبارحة فعندما دخلت المطابع إلى تركيا لأول مرة خرج الخطاطون بعد أن وضعوا أحبارهم وقصبهم في تابوت وراحوا يحملونه على أكتافهم ويطوفون به شوارع إسطنبول إعلاناً منهم بموت الخط العربي، غير أن نبوأتهم لم تصدق، وها قد مر على هذه الحادثة عقود وعقود والخط العربي باق لم يمت». ويتابع: «واليوم تعلو أصوات وأصوات هنا وهناك، تقول إن الخط العربي انتهى في عصر العولمة، وأن ظهور الحاسوب واستخداماته بما فيه من أنواع لا حصر لها من الخطوط العربية التقليدية والحديثة قد عجّل برحيل الخط، إن لم نقل أنه قد رحل، ولكن لم يدر في خلد هؤلاء النفر أن الخط العربي خالد خلود لغة الضاد، وخلود القرآن الكريم، الأمر الذي تكفل الله سبحانه بحفظهما حين أنزل القرآن بلسان عربي مبين، قال تعالى: (إنّا نحن نزلنا الذكر وإنّا له لحافظون)، وقد كتب القرآن بالخط العربي، وإن ما يقال بأن الخط العربي قد انتهى لا تعدو هذه المقولة سوى زوبعة في فنجان، هذا من جهة، ومن جهة أخرى ما يحدث من صراع إن جاز التعبير بين الخط اليدوي وخط الحاسوب، وتأثير الأخير على الأول إنما هو صورة من صور كثيرة في مناحي الحياة، فمثلاً ما يحدث بين الكتاب الورقي والكتاب الإلكتروني، وبين الشعر العمودي والشعر الحديث، وغير ذلك من الأمثلة هو صراع بين الأصالة والحداثة، ولكل رواده ومحبوه، كما أنه لا يستطيع أحدهما إلغاء الآخر».
ويعود للتعليق على سؤالنا «هل سينتهي الخط العربي؟» بقوله: «أرى أن العكس هو الذي يحدث، فنحن نعيش اليوم نهضةً عارمةً للاهتمام بالخط العربي، ومن مظاهر هذا الاهتمام بهذا الفن الراقي الذي يمثل وجهاً من وجوه الهوية العربية الإسلامية، وذلك على سبيل المثال لا الحصر:
أولاً: الاهتمام الكبير من لدن بعض حكومات الدول العربية والإسلامية بطباعة القرآن الكريم بخط عربي مجوّد عن طريق إقامة مسابقة من أجل اختيار أجود الخطاطين للقيام بهذه المهمة، والتي من شأنها العمل على تحفيز الخطاطين على الإتقان لفن لخط العربي.
ثانياً: السباق المحموم بين بعض الدول العربية والإسلامية في تبني إقامة معارض دولية للخط العربي سنوياً، ويصاحبها فعاليات معمقة (ندوات، محاضرات، ورش عمل) تستقطب شريحة كبير من محبي الخط، ومنها (الرياض، دبي، الكويت، قطر، الجزائر، طهران).
ثالثاً: إقامة المسابقات في الخط العربي، ورصد جوائز قيمة تصل إلى عشرات الآلاف من أجل إذكاء روح التنافس بين الخطاطين للوصول إلى مرحلة الجودة من جهة ونشر ثقافة هذا الفن من جهة أخرى، ومثال ذلك (مسابقة سوق عكاظ السعودية، مسابقة البردة الإماراتية، مسابقة الجزائر، مسابقة أرسيكا تركيا) وغيرها.
رابعاً: العمل على إنشاء كثير من المراكز الحكومية تحت مظلة جمعيات الثقافة والفنون والشباب، أو مراكز خاصة لتعليم فن الخط العربي والعناية بكل ما يمت إليه بصلة، وقد تم مؤخراً تأسيس الجمعية السعودية للخط العربي، ومثال الجهود الفردية (جماعة القطيف للخط العربي).
خامساً: تبني بعض المواقع والمنتديات مهمة إقامة دورات لتعليم فن الخط العربي على الشبكة العنكبوتية نفسها، فضلاً عن بعض البرامج التلفزيونية التي تعرض في بعض المحطات الفضائية التعليمية». ثم يتساءل المحمد صالح: والآن بعد عرض بعض وجوه الاهتمام بهذا الفن «هل سينتهي الخط العربي؟».
يشاركه علي سعيد البيك الرأي فيقول: «منذ 25 سنة أي قبل انطلاق مسابقات إرسيكا ( IRCICA ) الدولية لفن الخط عام 1987م. هذه المسابقة التي رفعت الاشتغال بفن الخط من الاحتراف العادي إلى الإبداع الفني الراقي. كان حال فن الخط العربي يرثى له، بل أوشكنا أن نعلن وفاته ونترحم عليه، كما ترحم الروائي العظيم حنا مينا على صنعة الحرير الطبيعي في بلاد الشام، عندما قال في روايته بقايا صور: «ماتت هذه الصنعة، ماتت الدودة المباركة (دودة القز)، متنا نحن أيضاً يرحمنا الله»!. قبل مسابقات إرسيكا (مركز الأبحاث للتاريخ والفنون الإسلامية بإسطانبول) لم نكن نسمع عن أي أنشطة تتعلق بفن الخط العربي إلا القليل النادر، بالرغم أنه يحظى بمتابعة وحضور داخل المتاحف العالمية وأروقة المعارض الدولية، واستطاع أن يلفت أنظار عمالقة الفن التشكيلي في الغرب، فهذا بيكاسو رائد الفن التجريدي والتكعيبي يقول عن الخط العربي: «إن أقصى نقطة أردت الوصول إليها في فن الرسم سبقني إليها الخط العربي منذ أمد بعيد»، حتى على مستوى الكتب والكراسات الخطية لم تكن هناك في المكتـبات -منذ ربع قرن- إلا كراسة المرحوم الخطاط الكبير هاشم البغدادي (قواعد الخط العربي) التي طُبعت طبعة ملونة منذ أكثر من 30 سنة، كان لهذه الكراسة دور كبير في تزويد محبي الخط بدروس ونماذج خطية غاية في الجودة والجمال، لقد كانت المكتبة العربية تعاني نقصاً كبيراً في الكتب والكراسات الجيدة لتعلم فن الخط العربي.
والآن -ولله الحمد- تغير الحال نحو الأفضل، فالخط العربي يشهد نهضة كبرى في العالمين الإسلامي والعربي، ففي تركيا وإيران والإمارات وقطر والكويت ومصر والجزائر وغيرها، مسابقات ومعارض ومهرجانات وإجازات خطية ودورات تدريبية مستمرة، وندوات ومحاضرات وورش عمل خطية متنوعة، وأثمر عن كل ذلك كثرة الخطاطين المجيدين والخطاطات المجيدات».
وبسؤاله: «هل سيقضي الحاسب الآلي على صنعة الخط العربي اليدوية التقليدية؟» أجاب البيك: «لا.. لن تستطيع البرامج الحاسوبية أن تجاري فن الخط اليدوي الكلاسيكي؛ وذلك لأنه يعتمد فناً وجمالاً على قواعد خاصة تنطلق من التناسب والإيقاع، فإنتاج اللوحة الخطية هو عمل فني إبداعي، فنحن نقتني لوحة خطية لخطاط كبير بأغلى الأثمان، لكن لا يمكن أن نقتني لوحة خطية صممها برنامج حاسوبي؛ لأن ليس لها أي قيمة فنية. إن الثورة المعلوماتية نعمة وليست نقمة على الخط العربي في أكثر الأحيان».
ويرى البيك أن الضرر الأكبر الواقع على فن الخط ليس من برامج الحاسب، بل من النظرة القاصرة لهذا الفن الأصيل من الجهات الرسمية المعنية بالتربية والثقافة والفنون في بلداننا العربية.. ويتساءل: «لماذا لا يكون عندنا مشروع (فن الخط للجميع) مثلاً، أسوة بمشروع القراءة للجميع؟ لماذا لا تكون عندنا جائزة لفن الخط العربي مثل جائزة الملك فيصل العالمية أو متفرعة عنها؟ لماذا لا يشمل برنامج الابتعاث الموهوبين في الخط ليدرسوا الخط دراسة أكاديمية؟. ويؤكد: «فن الخط لا يزال يحتاج إلى عناية أكبر من الجهات الرسمية، وبخاصة في الاهتمام بتدريسه في كليات التربية وكليات المعلمين، صحيح أن تأسيس الجمعية السعودية للخط العربي بداية طيبة ومباركة؛ ولكن تحتاج هذه الجمعية الفتية إلى التفعيل والتشجيع والكثير من الاهتمام من قبل وزارة الإعلام».
حدثتنا الفنانة التشكيلية هناء بنت راشد الشبلي، عضو مؤسس في مجموعة الفن الرقمي، عن جمال الخط العربي وتطوره بقولها: «الخط العربي فن جميل يحتل المرتبة العليا في الفن الإسلامي، فقد شرفه الله تعالى بقوله: (اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم)، فليس هناك تشريفٌ أرفع لفن الخطِّ من إضافة الله سبحانه تعليم الخطِّ لنفسه وامتنانه بذلك على عباده، حيث يحمل هذا الخط أقدس رسالة خُص بها العرب إلى جميع بني البشر في كل زمان ومكان، وهي القرآن الكريم. ولهذه الميزة اجتهد العرب ليمنحوا الأحرف العربية المكانة الأعلى والمنزلة الأرفع التي منحها القرآن الكريم للغتهم السامية، ومنذ ذلك الحين والكتابة العربية تخضع للتطور في كل عصر إسلامي حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن من جمال وإبداع، وبفضلها اشتهر الكثير من الخطاطين المسلمين في أنحاء العالم الإسلامي، حيث تفننوا في إبداع الخطوط، وتأليف كتب الخط العربي، وإنشاء مراكز خاصة لتعليمه. والخطاط كان أعلى الفنانين في المجتمع الإسلامي؛ فهو الفنان الوحيد الذي يوقّع على عمله، وكان غيره نادراً ما يوقع، وقد اهتم المؤرخون بحياة الخطاطين أكثر من غيرهم، بل إنّ الملوك كانوا يقرّبون الخطاطين ولا يستغنون عنهم ساعة واحدة، وأن حالة التنافس الشريف التي حصلت بين الخطاطين لها أثر بالغ في تطور وإتقان الخطوط العربية،
فالخطاط المبدع هو الذي يميل إلى الجديد المبتكر الذي يتحدى الخيال ويثير الإعجاب، كأن يجمع بين الحيوان والطير والإنسان في صياغة فنية تشكيلية، وحالة الإبداع التي يسعى وراءها الخطاط تتطلب منه التدريب المستمر والتركيز الذهني لتنمو لديه ملكة الملاحظة القوية لتقديم أشكال مبتكرة من الخطوط العربية، وأن التطور الواسع للخطوط العربية ترك باب التجديد مفتوحاً أمام مواكبة روح العصر، فالخط العربي ليس مجرد رسم وكتابة فقط وإنما هو فن وعلم في آن معاً، ولقد ساعدت بنية الخط العربي وما يتمتع به من مرونة وطواعية وقابلية للمدّ والرجع والاستدارة والتزوية والتشابك والتداخل والتركيب على ارتقاء فن الخط العربي».
وتضيف: «لهذا لا بد من اعتبار فن الخط العربي من الفنون التشكيلية وليس من الفنون التطبيقية، ويجب أن يصنف ضمن ذلك حيث نلاحظ فيه أهمية توزيع كثافة الخطوط توزيعاً عادلاً، واختيار الشكل الأنسب إذا كان هناك خيارات عدة، والخطاط قد يغير في شكل الحرف تغييراً يسيراً في بعض المواطن للحاجة، وهو ما يسمّى في عرف الخطاطين بالتصرف».
وتلفت الشبلي النظر إلى أن الغربيين يقدرون هذا الفن أكثر من المسلمين أنفسهم، وقد أعدوا له معارض خاصة في بلدانهم، وليس أدل من ذلك إلا قول بيكاسو زعيم الرسم الحديث إذ يقول: «إن أقصى ما وصلت إليه في فن الرسم وجدت الخط العربي قد سبقني إليه منذ أمد بعيد».
وبدخول التكنولوجيا في حياتنا ظهرت الحاجة في السنوات الأخيرة إلى اختراع نوع جديد من الخط العربي يتناسب مع هذه التطورات الحديثة في شاشة التلفاز والحاسوب يسمى (الخط الرقمي أو الحاسوبي)، وقد تمكن العلماء من تجاوز الصعوبات الفنية اللازمة لإدخال اللغة العربية واستخدامها في مجال الكتابة بالحاسب الآلي. ولهذا ظهرت فئتان، أولاهما: مصممون خطاطون لأنواع من الخط العربي، وثانيهما: فنانون خطاطون يستخدمون هذه الخطوط في تصميم لوحاتهم الفنية.
واشتهر عدة مصممين لتصميم الخط العربي الحاسوبي وتطويره في عالم الكمبيوتر والنشر المكتبي والإنترنت للانتقال به من أسلوب النسخ اليدوي والميكانيكي إلى عالم الكمبيوتر الرقمي، وأن الخطوط الطباعية هي من سمات ومتطلبات الجرافيكس في العصر الحديث، ولا يمكن تحقيق ثورة في مجال التصميم إلا بوجود خطوط متطورة تلبي متطلبات المصمم العصري والرؤية العصرية للكتابة وطريقة عرضها، سواء كانت متلفزة أو مطبوعة على الورق وغيره من الوسائط المتعددة، وأن أول الخطوط العربية التقليدية للنشر المكتبي التي لاقت انتشاراً كبيراً وما زالت حتى يومنا هذا في العالم هو خط اسمه (ياقوت) من تصميم المصمم الانجليزي (وولتر تريسي)، وهو الخط الوحيد أو الرئيسي المستخدم في الجرائد، كما أن هناك خطاً آخر يصلح للاستخدام في كتابة القرآن الكريم والكتب، وهو من صنع المصمم الهولندي (توماس ميلو). ومن أهم المصممين في العالم العربي المصمم مراد بطرس، والمصمم محمد الحسن.
كما اشتهر عدة فنانين رقميين استغلوا برامج الرسم بالحاسب الآلي لعمل لوحات فنية من الخط العربي تعرض في المعارض العالمية، منهم: الفنان المغربي محمد بستان، الخطاط السوري خالد الساعي، الفنان السوداني تاج السر حسن، الخطاط اليمني سلطان المقطري، فمن المهم جداً أن يتعامل الفنان الخطاط مع التقنيات الجديدة، وأن يخوض غماراً جديدة بالفن من خلال التعامل مع التقنيات الحديثة لكي يكتشف أشياء جديدة ويفتح أفقه الفني بتطوير أدواته وتطوير طريقة التفكير وطريقة طرحه الفني، فالورق والقلم والمسطرة والتلك الشفاف هي البدايات الأساسية للتعلم والتدريب، لكنها لا تغني عن التقنيات الحديثة لتطوير إنتاجه، فالحاسب الآلي يتيح إمكانات عدة للإبداع والخيال يمكن أن يستغلها المصمم في إنتاج لوحات فنية مبتكرة باستخدام حروف وكتابات من الخط العربي، أسوة ببقية الفنون التشكيلية التي استغلت تلك الإمكانيات التقنية واستخدام أساليب فنية متنوعة من تكبير وتصغير وشفافية وتكرار وتأثيرات متنوعة بالفلاتر والفرش الموجودة في برامج الرسم بالحاسب.
وتناشد الشبلي الجهات المختصة بعدد من المطالب في هذا الشأن، فتقول: «أناشد الجهات المختصة للاهتمام بتطوير مجال الجرافيكس العربي الذي يفتقر إلى التجديد مقارنة بنظيره الغربي أو اللاتيني والذي يشهد منذ بداية الألفية الثالثة ثورة بصرية غير مسبوقة تعتمد على التجديد المتواصل والإبهار. كما أطالب المسئولين في وزارة التربية والتعليم بإقامة مسابقات للخط العربي اليدوي بهدف المحافظة على هذا الإرث العظيم، وكذلك إقامة مسابقات فنية للخط العربي الرقمي بالحاسب الآلي لتشجيع فنون العصر الحديث».
وسألت (المجلة العربية) الفنانة التشكيلية والخطاطة سيما آل عبدالحي: «هل انتهى الخط في زمن الحاسوب؟». وعلقت بقولها: «إن الإنسان دائماً يحاول أن يرتقي.. يرتقي بذاته، ونفسه، وأخلاقياته.. بفنه، وعلمه، وهواياته.. بتعامله ومكانته وذاته وذواته. وهذا ليس بالصعب، وليس بالسهل اليسير، بل يتطلب ويتطلب، ولكن من لم يحاول، لن يعرف أن للحياة بفرع من فروعها لذة تتجلى وتلعق كالعسل الصافي وتذوب من شدة اللهفة.. كيف نرتقي دون أن نفكر؟ وكيف نفكر دون أن ندون؟ وإن دونا.. كيف سندون؟ ماذا نستخدم للتدوين، والتوثيق، والتدقيق، والعرض الأول كي نصل للعرض الأخير؟. من يستطيع أن يمسك قلماً يخط به بعض الكلمات يكون سعيداً. ومن يستطيع أن يسير قلمه ليكتب أفكاره يصل إلى شعور جميل. ومن يحول أفكاره إلى قصص وروايات وأشعار يبلغ من العلم مبلغاً رفيعاً. ومن يجعل الصدق راية قلمه يحق له أن يشكر الله على هذا المبلغ الثمين.. انظروا لمن يدون مذكراته بصدق وثقة، ويراجع حياته في سطور دفتر. كم هي جميلة تلك الأوراق. مفادها أوراق وأقلام. ومنافعها نفس مبتهجة تبشر بتجدد المشاعر ورهفة الحس، وديناميكية التعامل مع الروح بمنتهى البساطة والحنكة. مباشر أو غير مباشر. محير كاللغز، أو بسيط صعب في آن.. كلها كلمات دونتها حروف بمغزى الكتابة.
لن تكون هناك بداية تكتب في موضوع حوارنا اليوم إلا.. بسم الله الرحمن الرحيم
(اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علّم بالقلم، علّم الإنسان ما لم يعلم) صدق الله العظيم.
ولا شيء بعد هذا يقال.. الخط العربي، الفن العريق الذي بدأ في شمال الجزيرة العربية، ومن الحيرة والأنبار المركزين اللذين انبعث منهما فن تعليم الكتابة، من ثم انتقل إلى مكة والمدينة والطائف، ونقش به القرآن بماء الذهب والفضة في المساجد والمنابر وعلى قمم المنارات.
أسراره أوراق مصفرة تغيرت في حاضرنا، كما تريد وتشتهي.. محبرة تزدان بالألوان، ما بين أحمر داكن وكحلي وأخضر زيتوني وبني إلى الأسود.. وتلك القصبة الجبارة التي تأبى أن تنحني وهي تكتب كل الانحناءات. جميع الحروف تجسدها جزءاً جزءاً لكل حرف، وكل حرف مدروس جل الدراسة بشكل دقيق.. تضفي الطمأنينة والهدوء إلى النفس حين ترسم الحروف وتلامس الورق بنعومة ورقة دون صوت.. لا ناي ولا وتر ترونها، وتضعها في المحبرة.. ومن المحبرة إلى الورق.. ومن الورق لا تنسى أن تعتني بها كي تحفظ جودتها وكما تحافظ عليها تعطيك أكثر وأكثر.
الخطوط أنواع عدة وأشهرها، (الكوفي) أجود الخطوط، ذو الحروف المتشابهة، (النسخ) خط النسخ وخط القرآن، و(الثلث) ملك الخطوط وأصعبها كتابة وإتقاناً، والخط المصحفي الجامع بين النسخ والثلث، و(الديواني) خط الملوك، و(القيروان) خط القرآن في الأندلس وخط (الحروف المستديرة)، و(الرقعة) خط السهولة والسرعة، و(الفارسي) خط الرشاقة والخيال والإبداع.
ما دمنا نعيش لابد أن نتطور، ونستخدم التقنيات والتكنولوجيا في مسار حياتنا اليومية، ولا نغفل ما لها من أثر في تقنين وقتنا وجهدنا ولكن.. يجب ألا ننسى أن التكنولوجيا عدوة الذاكرة أو هي الذاكرة المصنعة، والأجدر أن يحتفظ الإنسان بما لا يجعله يفقد ملكاته ولو بالقليل.
كم من الوقت يستغرق إعادة كتابة صفحة واحدة بالقلم؟ وكم هو الوقت الذي ستأخذه كتابة نفس الورقة بالحاسوب مرة واحدة وإعادة طباعتها عدة مرات، بل ملايين المرات كما نهوى ونحب؟ الآن هو زمن الحاسوب، وغداً لا نعرف!.
والماضي ذكرى جميلة، نحن من نعيد من أشلائها ما نود تذكره وما نبحث فيه عن فحوى فائدة، ولكن يبقى أن نتمسك بما في الماضي من كنز ثمين لا يمكن استبداله أو محوه.
تلك الأداة الجبارة والتي تشبه الناي حين تعزف مادة الطبيعة الخشبية، وعماد القصب اليد التي تغذيها بالحبر كي تنقش لك أحلى الحروف.. ولا ترفض أن تجعلها كلمة أو نصاً.. تخفف الحبر وتثقله بنعومة يدك حين تلامسها وثقلها.. إن قسوة تحاكي الورق ويتلذذ بما تضعه دون نقاش، كي ترسل إلى أعيننا شعاع شمس.. تنقش كلمات الكرم والجمال والحب والوفاء.. كتاب الله قاموس بدايتها.. والختام.. «ولسوف يعطيك ربك فترضى» أحلى تمام.
وتضيف آل عبد الحي متحدثة عن خصوصية الخط باليد: «رغم كل التطور والتقنيات والتكنولوجيا، نحن بأعيننا نلمح ذلك الجمال. الخط العربي الأصيل بعنفوانه وملذاته، والزخارف التي تزان بها نقوشه، لم تنحنِ لحروف الكيبورد، كما لم تنحنِ القصبة، بل إني أرى أفواجاً تتعلم هذا الخط وفق أصوله، وتناظر كل ما قد يستطيع تتويجها في هذا المجال.
إنني في عالم الفن أعيش.. وأسرع في حياتي كي لا تضيع دقيقة دون أن أستغلها.. ولي قصبة رائعة ومحبرة هدية كانت، تتلامع عيناي حين أمسكها وأخط بها وأنا المبتدئة حروف الهجاء.. وكلما رفعت قصبتي من على الورق وهي تكتب حرفاً.. لا أجد إلا روحي وهي تنتشي».