تميز الخط العربي بجانبه الفني التشكيلي الذي استقطب كبار الفنانين في العالم، مما حدا بالدول الأوربية أن تتسابق لاقتناء هذا التميز في هذه الأعمال الفنية التي تنقل الأثر العربي والإسلامي في إيقاع جمالي أخاذ.
فبالاطلاع على الفن الإسلامي الحديث نجد أنه زاخر بآيات الإعجاز التعبيري الجمة، حيث أنه المتنفس الروحي للإيقاعات الخطية والشكلية المتناسقة في مضمون القيم الجمالية الفنية، ومن هذه نأخذ مدخلنا لعالم الإيقاع الخطي، لتبرز العلاقة الوطيدة بين الخط العربي والذائقة الجمالية، فصار الخط العربي هو الرافد الحقيقي لتوزيع المسارب الفنية. وهنالك عدد كبير من الخطاطين في العالم الإسلامي، بعضهم كانت له البصمة الخاصة في لوحاته، ومن هؤلاء أحد رواد التجديد في المملكة العربية السعودية الذي حاول ولا يزال يبذل كل ما في وسعه لإعطاء اللوحة الخطية من زفرات التجديد والاستفادة والقدرة على التلاعب بالتشكيل اللوني البسيط مع الخامات البسيطة في إعطاء القيمة الجمالية للوحة الخطية، الأمر الذي يعطي للتشكيل الخطي شكلاً آخر. ذلك هو محمد جمعان الدوسري الذي تبنى مدرسة التجديد والإبداع في الخط العربي من خلال اللون والعلاقات الجمالية في اللوحة الفنية المتكاملة، فاللوحة الفنية لدى محمد جمعان ليست إيقاعات لونية عشوائية بل مزيج من التلقائية والخط القاعدي والتحديث، فاللوحة لديه ليست إرهاصة بل تناغم مفهوم، فتناول الحديث الكامل أو الآية الكريمة أو الدعاء يضيف عليها من روحه الفنية ما يأسر بها المشاهد المتذوق للجمال والباحث عن الحفظ الكامل للحديث على حد سواء.
فالفنان يأخذ منها العلاقات اللونية والخطية وتقاطع النقاط فيبحر في إيقاعات العلاقات الخطية واللونية معاً، والمسلم المستمتع يستفيد من علاقاتها الروحانية المنسابة في تكوينها الجمالي الخطي، فيكون في ذلك قد تملك المفاضلة في هذا الازدواج الذوقي والروحاني معاً. فاللوحة الفنية لدى الخطاط كتلة واحدة من الناحية الإبداعية متجانسة حتى لا ترى إمكانية عزلها عن بعض، حيث نجد انسياب الخطوط مع تعانق القيم اللونية وتجانس الكتل. ومن يبحث في أعماله يأسره ليونة الحروف مع الالتزام الروحي بما يضفي على اللوحة قيمة دينية. فكأني أراه صوفي المذهب، سألته مرة عن مدرسة التصوف في عمله الفني فقال لي: إن هذه المدرسة تعتمد على العلاقات الحرفية الروحانية من خلال إبراز العظمة الإلهية في وضع الحروف في مكانها المرتكز على إضافة لفظ الجلالة، فكأنه المحور الفلكي الذي يأسر اللوحة فيضفي عليها جلالة ومهابة، هذه المدرسة نهل منها كثير من عمالقة الخط العربي في مصر والعالم العربي كالحاج المرحوم محمد عبدالقادر وأخيه الحاج سيد عبدالقادر «زايد» ومحمد سعد حداد ومحمد إبراهيم وفوزي عفيفي وحسن جلبي والأستاذ خضير البورسعيدي وتاج السر ومحمد حداد والدكتور صلاح شرزاد.. وغيرهم من الوطن العربي وخارجه، مما أضفى على ثقافته البحث والتجديد. فهم يرون أن الالتزام في العمل التقني الجيد تنبع من خلال القيم الإيمانية، مما يضفي على اللوحة الفنية قيمة التجانس المنسجم. والمشاهد لأعمال الخطاط محمد يجد التجديد المتواكب مع التشكيل الفني، فحيثما رأيت عملاً إبداعيا تجد اللون قد أخذ حيزاً كبيراً فيه. فهو يرى أن الالتزام بالقاعدة القديمة للخط العربي تقوقع، ويرى أن التجديد هو السبيل الأمثل لإثراء الأبعاد الجمالية للخط العربي فالذي لا يجدد يموت.
ونحن نبحث في المعطيات الفلسفية في عمل اللوحة الفنية؛ نرى أنه لا يمل البحث والمحاولة وكثيراً ما أسهب في المحاولات الداعمة، كل ذلك في محاولات جادة للتجديد الفني وإضافة جميلة للوحة الفنية. وعندما يدخل الدوسري معترك العمل الفني يضع جل اهتمامه في اللوحة من خلال التأصيل والتأطير اللامنتهي، فهو يأخذ من اهتمامه باللوحة الفنية وقتاً كبيراً تسرقه فيه صومعة السحر اللامنتهي في حضور ملاحظ فلا يكاد يترك اللوحة حتى يضع فيها اللمسات الجمالية.
إن اللوحة لديه ليست مجرد ورقة وأحبار فقط بل هي مشروع متكامل يبدأ من خلال الفكرة والتصميم، حيث يبحث عن الدعاء أو الآية أو الحديث النبوي أو الحكمة ويتأمل مفردات الحروف والتواءاتها والألفات وحركات السين والصاد، فيبدأ بالحذف والإضافة والمد والاختزال حتى يصنع التركيب الذي يريد من خلاله عمل المدلول التعبيري، وقد يستفيد من أنواع الخطوط في صنع اللوحة الفنية ومن خبرته ومعرفته بأنواع الخطوط، فإذا اكتمل لديه المدلول الفني في التركيب الجمالي ذهب إلى عمل الأرضية التي سيضع عليها هذا العمل مستخدماً أنواعاً كثيرة من الأحبار والألوان المختلفة حتى يصل إلى قناعة الأرضية التي يضع عليها عمله الفني عند ذلك يعمل على كتابة العنصر الخطي في فضاء اللوحة الفنية، فإذا اكتمل البناء قام بعملية التلوين مستخدماً أقلام البوص «القصب» في ترتيب لوني متجانس يضع فيه بصمة الخبير في منمنمات اللون حتى تكتمل لديه اللوحة الفنية، وعند ذلك ينظر لها بمنظار الناقد ويأخذ في التعديل والحذف والإضافة حتى يصل إلى مدلولات الكمال الإبداعي في اللوحة الفنية.
فلو أن الخط العربي بقي جامداً لم تتقدم المدارس الخطية ولما وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم، وهو يرى أن اللوحة الحية هي التي تزخر بالإبداع وما ذلك إلا خلاصة اطلاع كبير على مر الزمان الذي استمر قرابة خمس وثلاثين عاماً من العمل والتجديد. فمحمد جمعان يأخذ من الجمال كل ما يحتاجه ليلبس عمله الفني حلة جميلة من المتعلقات والمتجانسات حتى يكون العمل الفني مقروء الحروف متأصل المضمون.
والذي يعرف محمد جمعان يعرف قيمة حرصه على التزام المعرفة القاعدية للكتابة، فهو يعرف جميع الخطوط العربية ويكتب بها. ويقول: إن الخط العربي مدرسة لها قواعد ثابتة ومختلفة، وأشكالها متجددة وروحها واحدة. وهذا ما نجده في أعماله الفنية التي تجاوزت ثلاث مئة عمل من صغير وكبير.
الخطاط محمد جمعان عضو مؤسس في الجمعية السعودية للفنون التشكيلية وعضو مؤسس في الجمعية السعودية للخط العربي وعضو بجماعة ألوان التشكيلية وعضو سابق بجمعية الثقافة والفنون في الدمام ومشارك في العديد من المعارض الجماعية في الدمام، والخبر، والجبيل، وأبها، والرياض، بالإضافة إلى المشاركات الدولية في عدد من الدول الخليجية والعربية، وحائز على العديد من جوائز الاقتناء في معرض المقتنيات الأول والثاني ومعرض خطاطي المملكة ومعرض أصدقاء الريشة.