ازدهرت رحلة الخط العربي عبر العصور المختلفة –منذ ما قبل الإسلام–، باعتباره جمالية تضفي على النص قيمة إضافية، إذ قيل «حسن الخط يزيد الحق وضوحاً»، في حين أن كافة طبقات المجتمع على تماس مع هذا الفن، إذ قال عبد الله بن المقفع: «الخط للأمير جمال، وللغني كمال، وللفقير مال..»، علاوة على الشعراء الذين تغنوا بالخط العربي، ومن بينهم أبو تمام.
ولم يقتصر الخط العربي على العرب، بل امتد ليشمل حضارات أخرى، باعتبار اللغة العربية لغة القرآن ولغة أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فاستخدم ووظف في الحضارة التركية والفارسية وسواهما.
المجلة العربية استطلعت الآراء في هذا الملف حول الخط العربي في زمن الحاسب الآلي، بعد أن أخذت التكنولوجيا دورها في رسم الخطوط، وأصبحت مصدر معرفة، وتحتوي على برامج تختص في الخطوط، فكانت الآراء متباينة بين مؤيد لتوظيف التكنولوجيا ومعارض ونافر منها.
الفن لأجل الفن
يقول الفنان التشكيلي والخطاط صالح حيمور إن الخط العربي يحتوي على جماليات لا تتوافر في الخطوط الأخرى، ومرد ذلك إلى اللغة العربية، وحروفها فائقة الجمالية في الاستقامة والتناسق والامتداد والتدوير، ما يعمل على تكوين وتشكيل صور تعبيرية، موضحاً أن الخط العربي يدخل في الفن التشكيلي، وأن هنالك مدارس تتكئ على هذا الخط.
ويتابع حيمور: إن التقنيات الحديثة ومنها برامج الخطوط في الكمبيوتر تقدم أنواع الخطوط المختلفة وقوالب جاهزة، إلا أنها تبقى على هامش الإبداع؛ لأن استخدام هذه البرامج لا يتطلب أكثر من معرفة تقنية، مضيفا: يكفي أن يأخذ الفنان –أو أياً كان– دورة في استخدام البرامج الخاصة في الخطوط ليصبح خطاطاً، على عكس ممارسة الخط يدويًّا وهو ما يتطلب الدقة ووضع لمسات فنية ذاتية بعيداً عن الكتالوجات الجاهزة.
ويشير في هذا الصدد إلى أن الفنان المحترف قادر على تمييز التقني من اليدوي، فثمة مساحات من الظل والضوء، وحركة الاستدارة والاستقامة في الخطوط، فضلاً عن اللون وإلى ما هنالك مما يمتاز بها الخط اليدوي، مقابل التقني الذي يخرج صورة بها صناعة أكثر من الإبداع الذي يعد جوهر أي عملية فنية.
ويتابع في حديثه للمجلة العربية أن هنالك ما هو تجاري، ينجز بسرعة التكنولوجيا، لا يستحق فنيًّا الكثير، ولا يأخذ كثيراً من الجهد والوقت؛ فيما ينجز الفنان –الخطاط– عمله بحرفية تستغرق أياماً، وأسابيع، وأحياناً يبقى العمل قائماً في ورشات ما دام يتعلق بجداريات ومعلقات جدارية.
ويختم حديثه قائلاً: نريد فناً لأجل الفن، لا عملاً تجاريًّا من أجل المال، لأن الفن باقٍ ومستمر، ولا يتوقف بانتهاء التكنولوجيا حال انقطعت الكهرباء.
صاحب القلم فنان
طارق نصري، خطاط وفنان، يقول: إن التكنولوجيا جاءت لتخدم الإنسان، تساعده على اجتياز الوقت، إلا أنه وفي نفس السياق يؤكد على ضرورة الخروج عن نطاق التسليع والصناعة التجارية، لأن الخط قيمة جمالية غنية عربيًّا وذات دلالات وعمق لا يمكن أن يتم التجاوز فيه عن قيم الإبداع من خلال برامج الحاسوب، موضحاً: نعم أضاف لي الحاسوب الكثير، من حيث المعرفة والإلمام بعلوم الخط وقواعده، وساعدني في رؤية الحرف ومعماريته إلكترونيًّا؛ لكني لم أتكئ يوماً على برامج الخط.
وفي حديثه للمجلة العربية ينقل نصري قولاً للدكتور علي أرسلان –خطاط وأستاذ بجامعة إستانبول- إذ يقول: يعتبر فن الخط من أصعب الفنون الإسلامية، لأن الفنان فيه لا يملك في يده غير القلم البسيط، وهذا القلم مسطرة الخطاط وبِرْجَلُهُ، وهو قسطاسه الذي يعين به أحجام الحروف. هذا القلم يقوم بأداء كل وظائف الآلات الأخرى التي يمتلكها الفنانون في سائر الفنون الأخرى. لذا تلزم الخطاط خصلتان رئيستان هما: القابلية وبذل الجهد.
ويتابع معقباً على كلام أرسلان: لقد وصف عمل الخطاط بالفن، وربطه بالقلم، وهنا نسترجع قوله تعالى: (ن، والقلم وما يسطرون). إذن هذه الأدوات هي معين لا ينضب للفنان، ووسيلته التي يبذل من خلالها الجهد، للوصول إلى خط ذي قيمة فنية عالية، ومن دون ذلك يتحول الفنان إلى حرفي وصاحب صناعة، كأي صناعة أخرى تستند على التقنيات.
ويتساءل في هذا السياق: هل يستوي الفنان الخطاط صاحب القلم المزروع في يده ساعات طوال مع آخر محترف لبرامج الحاسوب؛ هل كلاهما على ذات السوية الفنية؟، ويجيب بالنفي القطعي، مضيفاً: مع احترامي للمحترف يبقى عمله منحصر في الصناعة، وصاحب القلم في الفن.
هناك تحامل على التكنولوجيا
محمود ديراني، رسام ومصمم جرافيك، يختلف في رأيه عن سابقَيهْ، ويرى أن هنالك تحاملاً على التكنولوجيا، ويتساءل: ما الضير إن كانت البرمجيات تسهم في تطوير الفنون؟ وما المانع من استخدام برنامج Free hand على الكمبيوتر من أجل رسم الخطوط والأشكال والصور؟، موضحاً: حتى برامج الحاسوب تحتاج إلى دقة ومهارة وإتقان، وفي المقابل الفن صناعة، لأنه يرتكز على أدوات –القلم واللوحة أو الورق-، وهو منتج، وله جدولة زمنية حال أي منتج.
ورغم طرحه السابق إلا أن ديراني يؤكد: صاحب الإبداع مبدع سواء أكان مستخدماً للتكنولوجيا أم يعتمد على الطرق التقليدية. والزمن هو الذي يحكم الفنان، فلا يُعقل أن نبقى نرسم ونخطط ونكتب على ورق البردي، حفاظاً على تقاليد الأوائل في الكتابة والتخطيط والرسم.
ويختم حديثه قائلاً: نستطيع أن نترك مسار الخيارات للفنان، سواء كان العمل يدوياًَ أم تقنيًّا، وهنالك جمهور يستطيع أن يميز بين الجمالي، والتجاري، وهنالك تاريخ سيتحدث عن هذه المرحلة الزمنية، كما تناولت الكتب والمراجع علماء الحرف والخط والكتابة في التاريخ العربي.
التطور سمة بشرية
الباحث رامي فهد يقول في عملية استعراض عامة لأزمة التحديث في الوطن العربي: إن الإشكالية تكمن في النظرة العدائية لكل ما هو حداثي، أو تقني، باعتبار أن الغرب أنتج وقدم هذه الأطر، ونظر لها، فبات من المعيب –وأحياناً من المحرم– استخدام التكنولوجيا، موضحاً: إن توظيف البرامج في فن الخط العربي يعاب لأن هنالك حالة عربية عامة تدعو إلى النكوص، والتراجع إلى الوراء والتقوقع حول الذات تحت مسميات عدة منها الأصالة والعراقة والحفاظ على الهوية.
ويرى فهد في حديثه مع المجلة العربية أن: توظيف التكنولوجيا غير المخل في رسم الخطوط أمر لا بأس به، والاستفادة من تقنيات الحاسوب في البرامج، يحمل ذات الأمر، تماماً مثل الكاتب والصحافي الذي يستخدم الحاسوب، في الطباعة والمراجعة والتحرير، وزميله الذي يستخدم الورق، كلاهما ينجز، وكلاهما مبدع، إلا أن الأول –التقني– أسرع في الإنجاز، وأقدر في عمليات التحرير.
ويتابع قائلاً: لو نظرنا إلى مسيرة الخط العربي لأدركنا أنها تطورت وقطعت مراحل شتى حتى وصلت إلى الحالة الراهنة، وأنها ما تطورت لولا تطور الأدوات والوسائل؛ فورق البردي وسعف النخيل والقصبة النباتية والمعدنية المستخدمة للكتابة انتهت، وانتقلنا الآن إلى الرسم والتخطيط على الخشب والجص والرخام والجلد والبلاستيك والزجاج والقماش، وحتى اللغة العربية تطورت منذ الآرامية والكنعانية الفنيقية وصولاً إلى العربية في عصر الجاهلية ثم الإسلام وعصوره الأولى. فالتطور سمة بشرية لا يمكن أن نضع أنفسنا في قالب من جمود وثبات.
ويشير إلى أن مراجعة شاملة يجب أن يبدأ بها العرب، تتضمن الفهم الدقيق لدور التكنولوجيا في التطور والازدهار والنماء، وليس اعتبارها للاستهلاك، والتسلية فقط، وإنما في العلم أيضاً، في تطوير الفنون، والارتقاء بها، في التعليم والتعلُّم، وذلك حتى نزيل أي التباس أو سوء فهم.