مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

ما بين سعاد عبد الله وحياة الفهد .. كيف نعرف النسوية؟

شيقة هي لعبة التعريفات. البحث في المفردات، تعريفاتها، دلالتها، وكيفية تشكلها. في البحث وسط المعاجم اللغوية كشف للبنية الذهنية، بل وحتى النظام القيمي والنمط المعاشي لمستخدمي تلك اللغة. واللعبة تصبح مثيرة أكثر إذا استخدمناها مع المفاهيم الإشكالية عبر محاولة إعادة التعريف، ففي كل مرة إمكانية لفتح نافذة جديدة لفهم وتحليل أوسع للأفكار. فليكن سؤال اليوم عن النسوية، آملاً في إيجاد زاوية جديدة للتعريف. وجدتني اليوم أعرف ‏النسوية بأن يكون لك الحق في أن تمتلك صوتك الخاص. من التأكيد أنه لا يوجد صوت واحد أحد متفرد، وأننا بشكل ما نعيد إنتاج الأصوات التي نتلقاها من حوالينا. ولكن أن تمتلك الحق في اختيار الصوت الذي يناسبك، هذا هو التعريف الذي أراه ملائماً للنسوية، حتى الآن.
ليتحقق لأي تعريف مصداقيته، من المهم اختباره على أرض الواقع. إذن، لنأخذ الممثلتين سعاد عبد الله وحياة الفهد كمثال. بعيداً عن النقد الفني، والذي ليس مجاله هنا، لا يمكن إهمال حضور قضايا المرأة في أعمالهما، كل واحدة بطريقتها الخاصة. وباعتبارهما ممثلتين بتاريخ فني طويل وعريق، يجعلهن أكثر تحكماً في اختيار نصوصهن الدرامية.
بداية نجد فارقاً بين خطاب كل من سعاد عبد الله وحياة الفهد. ولا نعلم هل هذا لاختلاف في الرؤية والوعي بينهما في مفهوم النسوية. سعاد عبد الله في أغلب أعمالها تطرح نموذج المرأة المتوافقة مع مجتمعها. مسلسلاتها تقدم نموذج الأسرة المحبة ذات القيم العائلية التقليدية الجميلة، بعوائل شديدة الأناقة في اللباس والحضور وحتى الضحك. ‏لا يعني هذا أن مسلسلاتها تخلو من المشاكل فلا توجد دراما بدون صراعات، ولكن الصراعات دائماً مصدرها فرد، دون تحميل جندري لطبيعة المشكلة. فمصدر المشكلة هو شخص خارج وطارئ، قيمياً وأخلاقياً، والحل يكمن في تعاضد الأسرة عبر توافق الأفراد، الجماعة، بالانسجام مع القيم. فرسالة أعمالها هي «قيمنا جميلة وعلينا أن لا نفقدها»، أي أن سبب المشاكل هو فقدان الأصالة. فإن كان هذا هو الثيم الشائع لمسلسلات سعاد عبدالله، فإننا نجد صورة مخالفة وربما أكثر سوداوية لدى حياة الفهد. فدائما المرأة عندها مطحونة مظلومة فقراً وجهلاً أو بسبب قسوة الرجل أو المجتمع. فمهما حاولت المرأة فهي لا تستطيع تجاوز الحدود الحادة التي يضعها مجتمعها لها.
‏أعترف أنني بداية وجدتني أكثر ميلاً لاعتبار أعمال حياة الفهد تحمل خطاباً نسوياً أكثر قيمة من أعمال سعاد عبدالله. فعلى رغم البكاء والبؤس المتكرر في أعمالها إلا أنها تحاول ملامسة واقع المرأة الخليجية. فهي تطرح مشاكلها، آلامها، لتجعل المشاهد أكثر حساسية لوضع المرأة. وهذا، بالنسبة لي، دليل على نسوية خطابها الدرامي. ‏ولكن هل للنسوية شكل واحد؟ هل هي أبيض وأسود؟
من التعريفات الكلاسيكية للنسوية أنها: المطالبة بتحجيم سيطرة الخطاب الذكوري ومنح الخطاب النسوي مساحة للوجود في الفضاء العام. ألا تنطوي جوهر هذه الفكرة على المطالبة بتعدد الأصوات؟ وبالتالي يصبح من المنطقي ووفقاً لهذه الفكرة تبني خطاب نسوي متعدد لا خطاب واحد. ‏فهل ولنستطيع أن ندعو الخطاب خطاباً نسوياً، يجب أن يتناول الظلم الذي تتعرض له المرأة وظروف الحياة غير العادلة، كما تطرحها حياة الفهد أم أن بالإمكانية أن يوجد خطاب نسوي (أنيق) ينظر إلى المجتمع بعيون الأم المحبة ‏التي ترى أن احتضان أطفالها مهما أخطأوا كفيل بجعلهم يعودون إلى حضنها؟ كما تطرحه سعاد عبدالله.
لهذا السؤال لا نملك جواباً، لذا سنطرح سؤالاً آخر. لماذا اختلف الخطاب بين الممثلتين؟ هل لمسار وطبيعة تجربتيهما الشخصية دور في ذلك؟ وتحديداً، هل أثر شكل الممثلتين الفيزيقي على طبيعة خطابيهما؟ هل تحدد وجوهنا وتفاصيل جسدنا خياراتنا في الحياة؟ هل نرى أنفسنا وفقاً للكيفية التي ينظر لنا الآخرون وكيف يقيموننا كشكل؟ أيعني هذا أننا في المحصلة مرآة لما يراه الآخرون فينا؟
‏سعاد عبدالله، سندريلا الشاشة الخليجية، الشابة الجميلة واللعوب، على الطريقة الخليجية المحافظة. لتكبر وتصبح الزوجة الجميلة الظريفة، ثم الأم الصالحة التي تربي أبناءها على الحب وقيم المجتمع الأصيلة. وحتى في دور الجدة لم تخرج، على الأغلب، عن هذا الإطار. لا أعرف سعاد عبد الله شخصياً أو طبيعة تفاصيل حياتها، ولكن نسمع أن هناك شبه إجماع على لطفها وذوقها الرفيع.
‏حياة الفهد، في المقابل، حتى في بداياتها ظهرت كامرأة كبيرة في السن. لا أذكر أننا شاهدنا على الشاشة حياة الفهد الشابة التي تنحصر هموها بالحب والبحث عن زوج. محور أعمالها سواء الكوميدية أو الدرامية تدور حول فكرة التحايل على المجتمع لتصل لما تريد، لأنها ليست جميلة لتحصل على ما تريد بسهولة. وحين كبرت حياة الفهد وأصبح للشكل أهمية أقل بدأ خطابها يصبح أكثر وضوحاً وحدة، فتناولت أعمالها سواء من تأليفها أو من تأليف الآخرين قضايا المرأة المظلومة في المجتمع الخليجي. طبعاً لابد من التنويه أن سعاد عبد الله ظهرت بدور المرأة الساخطة على المجتمع القاسي، فيما ظهرت حياة الفهد بدور المرأة المغوية ولكن كان ظهوراً استثنائياً لكلتيهما يخالف الخط الذي تقدمه كل واحدة، وكأنها تريد تجريب ثوب الأخرى.
‏هل معنى هذا أن كل امرأة جميلة راضية عن مجتمعها والعكس صحيح؟ أليس في هذا تبسيطاً يماثل التهمة المتداولة عن (النسويات القبيحات)؟ لطالما اعتقدت أن في عبارة (النسويات القبيحات) قمعاً رمزياً يهدف إلى إخافة الخارجات عن المجتمع، لدفعهن للعودة إليه وإلا لحقتهن هذه التهمة. ‏
‏‏في أوائل سنتي الجامعية في مادة أنثروبولوجي قدمت ورقة عبارة عن مقابلات مع طالبات الجامعة تتناول العلاقة بين الاهتمام بالشكل وتصوراتهن لمستقبلهن وللزواج وعلاقتهن بالرجل. كانت النتيجة أن الفتيات اللاتي يظهر عليهن اهتماماً أكبر بمظهرهن ويصرفن المكافأة الشهرية كاملة على أدوات التجميل يتركز طموحهن على الحصول على زوج مميز، بينما الفتيات اللاتي لم يكن يضعن المكياج ‏ولا يصرفن الكثير على أدوات التجميل، كن أكثر تركيزاً وتحديداً في تصورهن لمستقبل مهني معين. وقتها كنت في الثامنة عشرة من عمري فالاستنتاج الذي ختمت به ورقتي هو أن الفتاة الجميلة تعتقد أن بجمالها حصلت وستحصل على الكثير من الحياة وبالتالي لا تخطط لمستقبلها، بينهما الفتاة الأقل جمالاً تشعر أن الحياة ليست منصفة، فهي لم تكن منصفة معها، فتسعى للمزيد بطموح أكثر جنوحاً. وقتها أستاذتي، الدكتورة فاتنة شاكر، علقت بتقديرها للتحليل ولكن رأت أنه من الظلم اتهام أي فتاة جميلة بأنها بلا طموح. واعتبار اهتمام الفتاة بأنوثتها دلالة على عدم اشتغالها على ذهنيتها بذات الوقت. ‏الآن ومع تجارب الحياة، لا أجدني كنت مخطئة تماماً في تحليلي ذاك، كما أن نقد دكتورتي في محله. فالشكل الخارجي متغير واحد ضمن متغيرات عديدة تلعب دوراً في تشكل مفاهيمنا وقيمنا في الحياة.
‏مؤخراً، وأنا أستعد للذهاب للمطار في أمريكا، قالت صديقة ذكية جداً ونسوية: (عليك ألا تهملي وضع المكياج، وأن تكوني بكامل أناقتك فهذا سيساعدك كثيراً، خصوصاً أن جوازك الأخضر لن يسهل الأمر عليك) ثم شرحت كيف ساعدها هذا في عدم دفع مصاريف إضافية لحمولة زائدة أو في الحصول على مقعد وخدمات أفضل. الظهور بمظهر المرأة الجميلة والأنيقة وفوق هذا الأم يفتح بعض الأبواب، ولا يعني أن الأمر يتعلق بشكل مبطن (لتحرش جنسي)، بل إن اختلاف التعامل والخدمات المقدمة تأتي من قبل الرجال والنساء. فنحن في المحصلة كائنات بصرية بدرجة كبيرة، لذا المظهر والصورة الخارجية تتحكم بتقييمنا وردات فعلنا.
الآن لنتأمل قليلاً، هذا الموقف ليس استثنائياً خارج السياق بل يتكرر بشكل يومي وعلى أنماط مختلفة. ففي كل مرة تخرج فيها المرأة الجميلة تجد أحداً ما يفتح الباب لها. ولنتخيل كيف سيعاملها موظف البنك أو مديرها ومديرتها، أو حين تذهب لتدفع فاتورة مستحقة أو حتى لمقابلة أحد مدرسي أبنائها. في المقابل، المرأة الأقل حظا جمالياً ستمشي في الشارع «وكأني كائن غير مرئي، لا أحد يراني» كما صرحت إحدى السيدات اللاتي خضعن لسلسلة من عمليات التجميل متحدثة عن أكبر فارق شعرت به قبل وبعد عمليات التجميل. إذن من المتوقع أن لا تحصل المرأة الأقل جمالاً على ذات الخدمة والتعامل. وبالتالي عليها أن تعلي من صوتها ليسمعها ويراها الآخرون. وإن لم يسمعوا صوتها المنخفض عليها إذن أن تصرخ قليلاً، لتنتقل بعد ذلك للصراخ عالياً. تراكم هذه المواقف لسنوات وسنوات لكلا النموذجين، ما الذي سينتجه؟ كيف سيتم اختزال هذه الخبرات الحياتية في اللاوعي؟ كيف ستتصور كلاً منهما وضعها ومن ثم وضع المرأة في المجتمع؟ قد تمتلك بعض النساء وعياً متجاوزاً لحدود تجربتهن الذاتية، وهذا لا يقلل من أهمية تجربتهن تلك. ولكن على الأغلب لن تقول المرأة لنفسها «حصلت على حقي حين مراجعتي للدائرة الحكومية لأن فستاني أنيق ومكياجي أكثر تناسقاً أو لون بشرتي أظهرني بمظهر أكثر شباباً وجمالاً». بل ستعتقد بأن الأمور تسير هكذا، وأن المرأة وإن كان حضورها محدوداً في الفضاء العام ولكن حين تحضر فالكل (طيب ونبيل ليخدمها).
‏في منظور علم النفس، يكوّن الطفل تصوراً عن ذاته وفق تعامل وردات فعل المحيطين به. هذه التصورات تظل ملازمة للفرد طوال حياته بتغيرات محدودة نسبياً. هل يمكن استخدام هذه الفكرة بتعميم يرى أن المرأة الجميلة طرحها تصالحي أكثر لأن المجتمع أكثر احتفاء وتقبلاً لها، بينما المرأة الأقل جمالاً فلأنها غير مرئية ومهملة فطرحها أكثر حدة وغضباً. ليصبح الوضع وكأنه فارق ما بين البنت المدللة التي بمجرد احتضان والدها سيوافق على طلباتها، والابنة التي تعرف أن أباها لا يحبها فعليها الإصرار صراخاً لتحصل على ما تريد.
ومن هنا، فلعل كلاً من حياة الفهد وسعاد عبدالله تقدم خطاباً نسوياً ولكن وفق تجربتها ورؤيتها. فلكل فرد تجربته وتاريخه الخاص الذي يصنع خطابه وعلينا أن نحترم تجارب الآخرين وبالتالي أصواتهم.
ولنختم، علينا تأمل عبارات شائعة مثل (المرأة عدوة المرأة) أو (لا يقف في وجه حقوق النساء إلا النساء). هذه العبارات تنطلق من تعريف يرى أن النسوية تنحصر في خطاب واحد محدد. وكأن على النساء أن يحملن ذات الصوت بذات النبرة، أو فإنهن يتهمن بأنهن ذكوريات أو عدوات للمرأة. في المقابل يستطيع الرجال أن يعددوا أصواتهم، فهناك المحافظ والليبرالي والإسلامي والقومي والاشتراكي...إلخ. أما النساء فيجب أن يكون الصوت واحداً. فإما أن تكوني نسوية أو لا تكوني. أليس في هذا الأمر مفارقة؟ النسوية في عمقها رفض لخطاب الصوت الواحد، فكيف يكون خطابها (التحرري) خطاباً بصوت واحد فقط؟ صوت محصور في مقابلته للخطاب الذكوري، وليس في خطاب ينطوي ويتسامح مع خطابات مختلفة ومتعددة؟ عمق الخطاب النسوي يكمن في أن صوت المرأة ليس عورة، وأن هذا الصوت مختلف ومتعدد. ومن هنا فإن من تقدم خطاباً تصالحياً أو من تقدم خطاباً متمرداً على المجتمع، كلتاهما تقدم خطاباً نسوياً، وعلينا إن كنا نؤمن بالنسوية أن نقبل بتعدد الأصوات أياً كان (رفضنا) الفكري الخاص لبعض تلك الأصوات.

ذو صلة