مجلة شهرية - العدد (589)  | أكتوبر 2025 م- ربيع الثاني 1447 هـ

(الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة) للشنتريني.. حضور نزعة الدفاع عن الذات الأندلسية المبدعة

 

 يعد كتاب (الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة) لابن بسام الشنتريني الأندلسي واسطة عقد المؤلفات الأندلسية وأنْفَسَها، ومصدراً فريداً من نوعه، أصيلاً في بابه، كما يعد موسوعة علمية وثقافية أندلسية بامتياز، ومصدراً وازناً وعلى قدر كبير من الشمولية والأهمية للباحثين في تاريخ الأندلس وآدابها في فترة ملوك الطوائف التي تلت نهاية الخلافة الأموية بالأندلس في القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي، كما أنه مؤلف أندلسي مهم ولا غنى عنه لدارس الحضارة الأندلسية الزاهرة بشكل عام. وتكمن أهميته التاريخية أيضاً في أنه يعرض جوانب من الحياة الأدبية الأندلسية، ويتضمن كثيراً من تراجم الشعراء والكتاب والأدباء الأندلسيين وما يتصل بهم من أخبار وأحداث ووقائع، إذ لم يغفل ابن بسام في كتابه أهل زمانه فتحدث عنهم من منتصف القرن الحادي عشر الميلادي إلى القرن الثاني عشر الميلادي.
كما يشير الكتاب إلى آراء صاحبه النقدية في الشعر والنثر. إضافة إلى أنه قد احتفظ فيه بفقرات مطولة من كتاب (المتين) لابن حيان القرطبي، الذي أصبح في حكم المفقود، تناول ابن حيان فيه تاريخ الأندلس على عهد ملوك الطوائف. فأضحت هذه الفقرات التي أوردها ابن بسام في كتابه (الذخيرة) هي كل ما وصلنا من كتاب (المتين)، وأضاف إليها ابن بسام تأريخه هو للثلث الأخير من القرن الحادي عشر بعد وفاة ابن حيان.. فمن هو ابن بسام صاحب الذخيرة؟
النشأة والعصر
 هو أبو الحسن عليّ بن بسّام الشَنْتَريني التغلبي، أديب وعالم في اللغة وشاعر أندلسي، عربي الأصل. ولد في منتصف القرن الخامس الهجري بمدينة شَنْتَرين غربي الأندلس ونشأ بها، وهي اليوم في البرتغال إلى الشمال الشرقي من لشبونة (أشبونة) العاصمة، حيث تلقى علومه فيها. ولا تذكر كتب التراجم تاريخ مولده بالتدقيق، لكن عند حديث ابن بسام عن الأديب أبي جعفر أحمد بن الدودين البلنسي، يقول: (هو أحد من لقيته وشافهته، وأملى عليّ نظمه ونثره بالأشبونة سنة سبع وسبعين 477هـ/ 1085م). ولعل ابن بسام كان آنذاك في نحو العشرين من عمره، وعلى ذلك فإنه كان يناهز الأربعين حينما شرع في تأليف (الذخيرة)، وكان يناهز الخمسين عند فراغه من التأليف. ومما يؤيد ذلك قول ابن بسام نفسه في مقدمة (الذخيرة): (فإنما جمعته بين صعب قد ذل، وغرب قد فل، ونشاط قد قل، وشباب ودع فاستقل).
 كان عصر ابن بسام عصر اضطراب وفتن، يُعدّ أخطر مرحلة في تاريخ الأندلس، أواخر عصر ملوك الطوائف وأوائل الفتح المرابطي، وهي مرحلة بداية انهيار الحكم العربي الإسلامي. ولذلك غادر ابن بسام بلده هارباً من الزحف الإسباني، فارتحل أولاً إلى أشبونة ثم إلى إشبيلية حيث أمضى بضعة أعوام في بؤس وضيق الحال. درس فيها على شيوخها يتعيّش بقلمه وأدبه، لكنه لم يلق فيها التكريم الذي يستحق. وفي سنة 494هـ قصد قرطبة، ودرس على شيوخها، واستقرّ فيها بقية حياته.
 ظهر ابن بسّام على غير توقّع في ذلك الركن القصيّ من الأندلس، حتى إن عبدالله بن إبراهيم الحجاري الأندلسي صاحب (المسهب في أخبار المغرب) يقول في ابن بسام: (العجب أنه لم يكن في حساب الآداب الأندلسية أنه سيبعث من شنترين، قاصية الغرب، ومحل الطعن والضرب، من ينظمها قلائد في جيد الدهر، ويطلعها ضرائر للأنجم الزهر. ولم ينشأ بحضرة قرطبة ولا بحضرة إشبيلية ولا غيرهما من الحواضر العظام.. وسل الذخيرة فإنها تعنون عن محاسنه الغزيرة.. ومن نثره في كتاب الذخيرة ما يدل على طبقته...)
 التقى ابن بسام شخصيات مهمة في حياته نذكر منها الوزير أبا محمد بن عبدون والشاعر ابن حمديس الصقلي والشاعر أبا بكر ابن العطار وأبا بكر بن عبادة القزاز والأديب أبا جعفر بن الدودين البلنسي وغيرهم.
 ويبدو أن ابن بسام أخذ في التنقل بين حواضر الأندلس، وبخاصة قرطبة وإشبيلية، قبل أن يستقر ويشرع في تصنيف كتابه. فهو يصرح بأنه ابتدأ التصنيف في قرطبة سنة ثلاث وتسعين وأربعمئة. وقد استغرقت عملية الجمع سنوات، كما يستدل من الأحداث التي يتناولها ويشير إليها في تضاعيف الكتاب. كانت وفاة ابن بسام في سنة 542هـ/ 7-1148م.
 أسباب ودوافع تأليف الذخيرة
 (أسباب عامة)
 لقد كانت الغاية الأولى من تأليف (الذخيرة) هي إبراز نزعة الدفاع عن الذاتية الأندلسية، وكذا لفت انتباه الأندلسيين إلى الاهتمام بثقافتهم وحضارتهم وتخليد تراثهم والاعتزاز به، ولهذا أنكر ابن بسام عليهم ذلك في مقدمة ذخيرته لأنهم يهملون ما لديهم من أدب ويقبلون بالتقليد على أدب المشارقة، ويكبرون كل شيء ورد من المشرق، ومن هنا انبرى لتصنيف الذخيرة، ليسد هذا النقص، ويكشف عن فضل أهل الأندلس في الإبداع والتفوق.
 إذن فإن الدوافع العامة العلمية والتاريخية التي كانت من وراء تصنيف ابن بسام الشنتريني لكتابه هذا هي رغبته الكبيرة في التعريف بالحضارة والثقافة والآداب الأندلسية، إذ إنه رأى الناس يبخسون قدرها وقيمتها وفرادتها، مع غيرته على كل ما أنتجته الأندلس وأهل وطنه من شعر ونثر وثقافة وإبداع، ورغبته بالتالي في إظهار حجم هذا النتاج وتنوعه وتعدد تجلياته ومظاهره وعناصر الجدة فيه. إذ عَظُمَ في نفسه أن يكون أهل الأندلس مغرومين بكل ما هو مشرقي ومبهورين بكل ما يصدر من عندهم على الرغم من وجود نتاج أندلسي لا يقل أهمية وجودة عما ينتجه المشارقة.
 ويذكر ابن بسام أن المادة التي جمعها في الذخيرة، إنما هي جهد خاص قام به، حيث لم يجد أمامه دواوين أو مصنفات، تجمع شيئاً من تلك الأخبار والأشعار وغيرها من إبداعات أدباء قطره، ثم إنه تولى المهمة في ظروف شخصية صعبة إثر نزوحه عن مسقط رأسه شنترين شمالي لشبونة قبيل استيلاء النصارى المسيحيين عليها سنة 486هـ/ 1093م، وقد تقدمت به السن. كما أن جمع المادة تطلب منه الرجوع إلى مصادر متفرقة كان ينقصها الوضوح والبيان والدقة، فهو يقول: (فإنما جمعته بين صعب قد ذل، وغرب قد فل، ونشاط قد قل، وشباب ودع فاستقل، من تفاريق كالقرون الخالية، وتعاليق كالأطلال البالية.. ففتحت أنا أقفالها، وفضضت قيودها وأغلالها، فأصبت غايات تبيين وبيان، ووضحت آيات حسن وإحسان.. على أن عامة ما ذكرته في هذا الديوان لم أجد له أخباراً موضوعة، ولا أشعاراً مجموعة، تفسح لي في طريق الاختيار منها، إنما انتقدت ما وجدته، حتى ضمنت كتابي هذا من أخبار أهل هذا الأفق ما لعلي أربي به على أهل المشرق).
 من هنا فقد رأى ابن بسام أن يأخذ على كاهله مسؤولية تصحيح هذه النظرة الخاطئة تجاه الحياة الثقافية بالأندلس وأن يتصدى لهذه الظاهرة من خلال إنجاز عمل موسوعي يبرز إسهامات الأندلسيين في مجالي الأدب والشعر، وأن يرد على منتقدي الأدب الأندلسي والقائلين بأنه صورة باهتة لما هو في المشرق.
 (أسباب خاصة)
 ذكر ابن بسام في مقدمة (الذخيرة) بأنه يعبّر عن تطلعه وأمله الكبير في تحرير مسقط رأسه شنترين، إذ يقول ولعله كان يستشعر قرب تحرير شنترين على يد القائد المرابطي الأمير سير بن أبي بكر اللمتوني، الوالي على إشبيلية وغرب الأندلس، الذي أهدى الكتاب له: (ولما سمعت صوت المهيب، وتنسمت ريح الفرج القريب، ووجدت لسبيل التأميل مدرجاً، وجعل الله لي من ربقة الخمول مخرجاً، طالعت حضرته المقدسة بهذا الكتاب على حكمه، مطرزاً بسمته واسمه، مستدلاً بمجده، متوسلاً إليه بكرم عهده..).
 ولا شك في أن ابن بسام فرغ من تأليف (الذخيرة) قبل أن يسترد المرابطون مدينة شنترين بنحو سنة، إذ لو أنه فرغ من تصنيف الكتاب عقب استردادها لكان أشار حتماً إلى تحرير بلده وعودته إليها، ولكننا لا نجد أية إشارة إلى ذلك في كتاب (الذخيرة).
  بين ابن بسام الشنتريني والثعالبي
 أراد ابن بسام أن يعارض (بالذخيرة) (يتيمة الدهر) للثعالبي، إذ إنّ كلاً من المؤلّفين يتحدث عن محاسن أهل عصره وبلده. وكان ابن بسّام في (الذخيرة) منحازاً إلى الأدب الأندلسي في وجه طغيان أدب المشرق.
 وفي كتاب (الذخيرة) يسير ابن بسام على منوال أبي منصور الثعالبي وطريقته في كتابه (يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر)، إلا أنه يزيد عليه مسألة غاية في الأهمية وهي مسألة إيراده للخلفية التاريخية لأخباره ومنتخباته كإضاءات مهمة وذات فائدة كبرى في عملية تقديم مواد كتابه، فيقول: (فإني رأيت أكثر ما ذكر الثعالبي من ذلك في (يتيمته) محذوفاً من أخبار قائليه، مبتوراً من الأسباب التي وصلت به وقيلت فيه، فأملّ قارئ كتابه منحاه، وأحوجه إلى طلب ما أغفله من ذلك في سواه).
 واقتصر ابن بسام في كتابه على أعلام القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي، ذلك لأن أعلام الدولتين المروانية والعامرية تناولهم ابن فرج الجياني في (كتاب الحدائق). غير أن ابن بسام -رغم هذه الحماسة لوطنه وما فيه من شعر ونثر- كان من أكثر الناس التفاتاً إلى المشرق، فهو يبني كتابه أولاً وفي ذهنه نموذج اليتيمة للثعالبي، وهو إذا وقف عند كثير من أشعار أهل بلده لم يقف عندها إلا ليبين كيف أن معانيها مأخوذة من أشعار المشارقة.
 منهجه في تأليف الذخيرة
 لعل الناظر في كتاب الذخيرة يجد أن ابن بسام عالم من الطراز الرفيع بثقافة العربية في الأندلس وفي المشرق الإسلامي، إذ يتجلى منذ بداية فصول الكتاب أنه كان ملماً بتاريخ العرب ومتمثلاً وحافظاً لأشعارهم وأمثالهم. وقد قدم لأقسام الكتاب بتمهيد تاريخي ذكر فيه أنه كفاه مؤونته مؤرخ قرطبة ابن حيان، كما اعتمد تاريخاً منظوماً للأندلس لأبي طالب عبد الجبار المتيني من جزيرة شَقَر، وبعد هذا التمهيد بدأ تراجم الأعلام فذكر اسم المترجم له ولقبه ونسبه وبلده وبعضاً من شعره ونثره.
 وقد خالف ابن بسّام كتب التراجم، فكان ينتقل من الجدّ إلى الهزل لتنشيط القارئ، كما أدخل كتابه في حيز الدراسات النقدية والبلاغية، وهي سمة لافتة للانتباه وميزة تضاف إلى ميزات الكتاب، فكان يورد آراء النقاد والأدباء، ويدلي بدلوه في ذلك بآراء وأحكام تدلّ على سعة اطّلاعه على بلاغات العرب السابقين، وقد سجّلها في نثر شديد الشبه بنثر الثعالبي في (اليتيمة) ومع أنه لم يدرج الموشّحات في كتابه، ولم يشارك في هذا الفن، فإنه أثنى على اختراع الأندلسيين له.
 لم يكن ابن بسام ينهج نمطاً واحداً في تراجمه، بل كانت تراجمه تطول إلى ما يقرب من مئة وخمس وعشرين صفحة (125 صفحة) كما في ترجمته ﻟ (ابن شهيد) وقد يتوسط كما في ترجمته ﻟ (ابن دراج القسطلي) وقد تقصر فيكتفي بثلاث صفحات كما في ترجمته ﻟولادة بنت المستكفي.
 كما كان يورد الأخبار والأشعار ولا يفسر ألفاظها ومعانيها غير أنه إذا رأى بيتاً غامضاً فسّره، أو تركيباً معقداً فصّله وذلل صعابه، ممهداً لما ذكر من شعر ورسائل بما تعلق بها من أنباء الفتن ومشهود الوقائع، وكان يورد من النصوص ما يرتضيه أو يخدم فكرة معينة يهدف إليها أو تصور شخصية من يترجم لها دون أن يجري في إيرادها على خطة ثابتة.

 

ذو صلة