تمتلك اليمن تراثاً غنائياً متميزاً ينبع من بيئة جغرافية متمايزة، تشكل عبر مراحل تاريخية مختلفة، ولا يزال يحتفظ بأصالته رغم وجود مؤثرات خارجية عديدة، ولعل ما يتبادر إلى ذهن القارئ تساؤل مفاده ما هي الفنون الغنائية الصوتية القديمة التي تنتشر في جنوب غرب الجزيرة العربية، وهل لها مناسبات معينة أم أن كل فن صوتي بالإمكان إلقاؤه في أي حين وأي مناسبة، وهل يصاحب أداءها عزف على الآلات الموسيقية، وهل استخدمت الألحان في الأغنية المعاصرة
لا شك أن هناك الكثير من الدراسات التي تناولت موضوع التراث الغنائي في اليمن نذكر منها على سبيل المثال: ديوان الأغاني الريفية اليمنية لعارف الحيقي وأطياف من تراث البوادي والأرياف في شبوة لمحمد سالمين بن شداد وشذرات غنائية من الذاكرة الشفوية اليمنية لمحمد قاسم المتوكل وعلي أحمد أبو الرجال، وكتاب نسمات من ريمة للمعرسي، وهذه الكتب وغيرها من المقالات الأخرى التي لا غنى لأي باحث في التراث الشفهي عنها لها باع كبير في التعريف بالتراث الغنائي والشفهي بشكل عام لكثير من المناطق، لكن في هذا المقال سنسرد بشكل موجز أنواع التراث الصوتي المنتشر في اليمن، والمناسبات التي تلقى فيها على أمل أن نتوسع في ذلك في المستقبل القريب، وأن يكون هذا المقال فاتحاً لدراسات أخرى عديدة يجريها الباحثون للتعمق فيها ومقارنتها.
أنواع الفنون الصوتية في اليمن
من أشهر الفنون الصوتية التي تؤدى في المناسبات الدّان، البَالة، المَهْجَل، المُلالاة، الزَامِل، المغرد، والمسحوب، وهذه الفنون تؤدى جماعياً وفردياً بواسطة الرجال أو النساء، ونادراً ما تصاحبها بعض الآلات الموسيقية مثل الطبول، وبعض من هذه الفنون يصاحبها الرقص خاصة في التأدية الجماعية.
الزَامِل: جاء في المعاجم أن الأَزْمَل الصوت وجمعه الأَزامِل، وأنشد الأَخفش:
تَضِبُّ لِثاتُ الخَيْل في حَجَراتها
وتَسْمَع من تحت العَجاج لها آزْمَلا
يريد أَزْمَل فحذف الهمزة كما قالوا وَيْلُمِّه، والأَزْمَل كل صوت مختلط، والأَزْمَلُ الصوت الذي يخرج من قُنْب الدابة، وهو وِعاء جُرْدانه، قال ولا فعل له وأَزْمَلةُ القِسِيِّ رَنِينُها، وقد زَمَلَ في مَشْيِهِ وعَدْوِهِ، يَزْمُلُ، زَمْلاً، وزَمَالاً، بلفَتْحَهِما، وزَمَلاً وزَمَلاناً، مُحَرَّكَتَيْنِ: إذا رَأَيْتَهُ يَتَحامَلُ عَلى يَدَيْهِ، بَغْياً ونَشاطاً، والزَّمْلِ: الحَمْل، والجَمْعُ زَوَامِلُ، ولقد أَبْدَعَ مَرْوانُ بنُ أبي حَفْصَةَ، إذْ هَجَا قَوْماً مِنْ رُواةِ الشِّعْرِ، فقالَ:
زَوَامِلُ للأَشْعارِ لا عِلْمَ عِنْدَهُمْ
بِجَيِّدَها إِلاَّ كعِلْمِ الأَباعِرِ
لَعَمْرُكَ ما يَدْرِي الْبَعِيرُ إِذا غَدَا
بأَوسَاقِهِ أو رَاحَ ما في الْغَرائِرِ
والزَامِل فن صوتي يمتد من المناطق الغربية من سلطنة عمان وحتى المناطق الجنوبية للمملكة العربية السعودية، ويكاد يغطي كافة أنحاء اليمن إذ يشمل المناطق الشرقية مثل المهرة وحضرموت وشبوة والغربية في ذمار وصنعاء وعمران وشمالاً في مأرب والجوف وحجة وصعدة، ويردد في مناسبات اجتماعية معينة مثل: الحروب، الأعراس والصلح القبلي، أحياناً يؤدى مصاحباً للرقص تحت دقات الطبول، ويسمى رجزيت في المهرة وتصاحبها المردات الشعرية ومعناها أن يقول شاعر أبياتاً من الشعر ويرد عليه شاعر آخر بنفس الوزن، وفي حضرموت يشترك أكثر من شاعر ببيت أو بيتين لا أكثر ويسمى كل فريق من هذه الرقصة عضيدة، يتقدمهم شاعرٌ ليلقي عليهم بيتاً من شطرين على الأقل ينتهي بصيحة من أحد الراقصين تسمى الهوكة وهي فاصلٌ بين الشعر، ويستمر الزامل بغناءِ كل عضيدة لشطر من الأبيات، والزوامل أنواع، فمنها المثمون واليامي، وقد تتخلل الزامل رقصة البرعة ورقصات أخرى، كذلك الحال يصاحب الزامل رقصة البَرَع في مناطق صنعاء وعمران وحجة وغيرها.
نورد هنا مثالاً للزامل بين الإمام أحمد بن يحيى حميد الدين وبين القردعي بعد مقتل الإمام يحيى في نهاية الأربعينات من القرن العشرين:
الإمام أحمد:
ياطير مهما طرت في جو السماء
لا بد ما تنزل رضا والا صميل
من وين باتشرب اذا جاك الضمى
وان قلت ريشك يخزن الماء مستحيل
رد القردعي:
الطير حلف بالله وبالرب اقسما
ما طاعكم لو تشعل الدنيا شعيل
ما دام له جنحين حاكم محكما
لا فك ريشه يقطع الخط الطويل
الدّان: من الدندنة ودَنْدَنَ (فلانٌ: نَغَّمَ ولا يُفْهَمُ منه كلامٌ)، عن أَبي عُبَيْدٍ، وقال أَبو عبيد الدَّنْدنة أَن يَتكلَّم الرجل بالكلام تسمع نَغْمته ولا تفهمه عنه لأَنه يُخْفيه، ويلقن الشاعر أبياته للمغني وهو من يقوم بتلحينها الطريقة المتبعة هي أن يبدأ مغني الدان الغناء بلحن من ألحان الدان التي يضعها ملحنون عرفوا بصياغتها فيغني مردداً كلمة (دان يا دان داني) أو (يا دان داني دان) أو غيرها من الألحان فيستهل أحد الشعراء جلسة الدان بقافية وحرف روي معين يلتزم الشعراء الآخرون قول الشعر على نفس تقاطيعه وقافيته وحرف رويه وبهذا الاستهلال يستمر القول عليه ولا تستبدل قوافيه إلا بعد نفاد كلمات حرف الروي وهو ما يطلق عليه مجازاً (امتلاء الفصل)، ومن الضروري أن يمتلك الشعراء المشاركون في جلسة السمر حساً فنياً خاصاً يجعلهم لا يكررون آخر كلمات المقاطع وفي حين تكرارها من أحدهم ينبه إلى أن الكلمة سبق وأن وردت من أحدهم وهو ما يعرف اصطلاحاً بالمدحوق، وينتشر صوت الدان في محافظتي حضرموت وشبوة، ويؤدى في جلسات السمر وبعض المناسبات الاجتماعية الأخرى، الدان الحضرمي له عدة أنواع فمثلاً دان الهبيش، الدان الساحلي، دان الوادي.
مثال دان حضرمي من كلمات عميد الدان الحضرمي الشاعر حداد بن حسن الكاف (توفي في 2 يونيو 1969م)
بن حسن قال يامطربي شل بالمغاني
واحكم الصوت في لحنه وحطّه وشلّه
يوم لي قلب متسلّي وفاني
في صوات الغناء كل صوت ماله ثمن حتى بمليون
حرّك العود عالشاحي وخيط المثاني
راع فيه الرّواخي واليتيم المولّه
لاجل باذكر بصوت العود غاني
لي محبّته نستنا مضانين في الغنّاء وسيؤن
المَهْجَل: جاء في تاج العروس: الاهْتِجالُ: الابْتِدَاعُ، نَقَلَهُ الصّاغانِيّ، وَقَالَ أَبُو زَيْد: هَجَّلَ الرَّجُلَ وَ بِالرَّجُلِ تَهْجِيلاً وَسَمَّعَ بِهِ تَسْمِيعاً: إِذا أَسْمَعَهُ القَبِيْحَ وَشَتَمَهُ. وهو فن صوتي ينتشر في تعز وإب يردد في أوقات العمل أو الراحة، يؤدى فردياً، أو جماعياً بترديد شطر من البيت أو ترديد بيت معين بعد المغني، ولكل وقت في اليوم مهجل معين، ولكل مناسبة مهجل، لا تصاحبه الآلات الموسيقية ولا الرقص، ويؤديه الرجال والنساء على حد سواء وقد يشترك الجنسان في ترديده جماعياً في مواسم الزراعة والحصاد.
مثال مقطع من مهجل: الغراب السوادي
بسم الله الرحمن الرحيم الليلة
الليلة هوبروّد الليلة
وبك استعنا يامعين
الليلة هوبروّد الليلة
ارحمنا وارحم الزارعين
الليلة هوبروّد الليلة
وا يا ذا الغراب السوادي
الليلة هوبروّد الليلة
وشاتخبرك من بلادي
الليلة هوبروّد الليلة
المُلالاة: فن صوتي يبدأ بإنشاد ينتشر صوت: ألا له له له له ثم يتلوه بقية الأبيات، فن ينشر في محافظة تعز، ويردد في أوقات العمل أو الراحة، تؤدى بشكل فردي وخاصة من قبل النساء، لكل وقت ومناسبة ملالاة معينة، لا يؤدى بصحبة آلات موسيقية. تجدر الإشارة أن الملالاة فن صوتي ينتشر في ليبيا أيضاً.
مثال: معاناة المرأة في عدم التزام الحبيب بأموره المنزلية واغترابه الدائم:
ألا له له له له
ألا روح لي الزنة يحسبني شَفرح
يوم الخميس روح والجمعة شِسرح
ألا ما شاش أني منه بخور أشمه
أشتيه يعود بين اليدين أضمه
البَالة: جاء في لسان العرب: البالُ بال النفس وهو الاكتراث، ومنه اشتق باليَتْ، ولم يَخْطُر ببالي ذلك الأَمر أَي لم يَكْرِثْني، ويقال ما يَخْطِرُ فلان ببالي، وقولهم ليس هذا من بالي أَي مما أُباليه والمصدر البالَةُ، وربما كان هذا الاشتقاق الأقرب لكون ما يخطر على البال يطلقه الإنسان عبر الغناء ليعبر عما في باله، وتتميز بترديد بادئة بالة ويا الليلة البالة، أو بالة الليل يالبالة ويالليل بال، وينتشر هذا النوع في إب وذمار والبيضاء ومأرب والمديريات الشرقية من محافظة صنعاء، وأيضاً في محافظتي عمران وحجة، يردد في مناسبات اجتماعية معينة مثل الأعراس، تؤدى فردياً، وجماعياً بواسطة فرقتين كل فرقة تنشد صوتاً معيناً يلقنها الشاعر وتردد المجموعات الأبيات، تصاحب أحياناً بالرقص على دقات الطبول أو الغناء والرقص دون مصاحبة الطبول، تغنى في المناسبات الاجتماعية كالحروب والأعراس والصلح القبلي.
مثال: بالة للشاعر الشعبي عامر الخياري:
يا بالة الليل يا بالة ويالليل بال
ابدع بك ادعيك ياعالم بذي داخلي
من فوق سابع سماء يالله يامعتلي
يا مالك الملك ذي طالع وذي نازلي
يا حي قيوم يالآخر ويآلاولي
المَغْرَد: الغَرَدُ بالتحريك التَّطْرِيبُ في الصوت والغِناء والتَّغَرُّدُ والتغريدُ صوت معه بَحَحٌ، وغَرَّدَ الإِنسانُ رفع صوتَه وطَرَّبَ وكذلك الحَمامةُ والمُكَّاءُ والدِّيكُ والذُّبابُ وحكى الهجري سمعت قُمْرِيّاً فأَغْرَدَني أَي أَطْرَبَني بتغريده، ينتشر هذا النوع في محافظة إب، وأيضاً في محافظتي عمران وحجة، تؤدى فردياً في الغالب، كما ينتشر المغرد في محافظة صعدة ويغنى فردياً وجماعياً، لا تصحبه رقصات ولا آلات موسيقية.
المسحوب: سحب: (سَحَبَه كَمَنَعَه) يَسْحَبُه سَحْباً: جَرَّه عَلَى وجْهِ الأَرْضِ فَانْسَحَب: انجَرَّ. والسَّحْبُ: جَرُّكَ الشيءَ على وَجْهِ الأَرْضِ كالثَّوْبِ وغَيْرِه. والمرأَةُ تَسْحَب ذَيْلَها، والريحُ تَسْحَبُ التُّرَابَ. ومن المجاز: سَحَبت الرِّيحُ أَذْيَالَها، وانْسَحَبَت فِيهَا ذَلَاذِلُ الرِّيح، واسْحَبُ ذَيْلَك عَلَى مَا كَانَ مِنِّي، وهنا يعني سحب الصوت عند الإلقاء. ينتشر في مأرب والجوف وصعدة، ينتشر هذا النوع أيضاً في المناطق الجنوبية للمملكة العربية السعودية، ويؤدى فردياً.
أيضاً تنتشر فنون صوتية أخرى مثل هدهدة الرضيع في المهد وأغاني الأطفال والإنشاد الديني، وهي تكاد تكون عالمية الانتشار وإن كان لها خصوصية في اليمن، إنما عرضنا هنا يقتصر على المسميات المحلية وأماكن انتشارها.
الفنون الصوتية ومحاولة الاستفادة من ألحانها في المجال الغنائي
حاول بعض الفنانين المعاصرين إدخال هذا التراث الصوتي إلى حيز الغناء المعاصر، فاستفادوا من ألحانه، وحاول بعضهم ابتداع أغانٍ على نفس الوزن وبنفس اللحن، لكنهم في معظم تلك الأعمال أخفقوا من وجهة نظري لعدم التزام الملحنين باللحن الأصلي ومحاولة إدخال تعديلات عليه.
ومن أمثلة هذه الإخفاقات التي ابتعدت كثيراً عن اللحن الأصلي وإن لاقت استحسان المستمعين واشتهرت أغنية: من العدين يالله بريح جلاب، من كلمات الدكتور سعيد الشيباني، وألحان وغناء الفنان أحمد بن أحمد قاسم، فالبادئة من العدين يالله... يالله بريح جلاب والا سحاب تندي علوم الأحباب هي كلمات من التراث صاغ الدكتور الشيباني بقية القصيدة على نفس الوزن، لكن اللحن كان بعيداً عن اللحن الذي يردد في المهجل، وكذلك أغنية: وامحل أورد ياوريداني من ألحان محمد مرشد ناجي.
لكن في المقابل أجاد الفنان أيوب طارش عبسي اللحن لأغنية: الغراب السوادي، وبنفس الأداء الذي لا زال يغنى به هذا المهجل. وكذلك البالة من كلمات المرحوم مطهر الإرياني، وكذلك الفنان أيوب طارش في أغنية البالة من كلمات عثمان أبو ماهر، وإن كانت أغنية البالة من غناء فرسان خليفة قد ابتعدت قليلاً في اللحن وأصبح أداؤها أكثر رومانسية.
إن الالتزام باللحن الأصلي من أهم أساسيات نجاح الأغنية واستمراريته مع الحفاظ على الموروث الشفاهي الغنائي، وعندنا أمثلة في بلاد الشام والعراق مثل: على دلعونة ويا مال الشام وع العين موليتين التي لا تزال تحتفظ بشهرتها وأصالتها حتى اليوم.